[التمتع بالموجود]
د. عبد الكريم بكار
كثير من الناس لا يعرفون كيف يكون التصرف الأمثل تجاه طموحاتهم ومرغوباتهم؛ فهي مصدر إرباك حقيقي لوعيهم، بل مصدر لشعورهم بالشقاء والحرمان. ومصدر هذه الوضعية هو أن كل أحوالنا وأوضاعنا وكل ما نتطلع إليه، ونرجوه يحتمل الرؤية المتعددة والاعتبارات المتباينة؛ حيث إن في إمكان كثير ممن نغبطهم على ما هم فيه من نعمة أن يشعروا بالحاجة إلى أشياء كثيرة، كما أن كثيراً منهم يضبط غيره، ويحسده على ما يظن أنه محروم من مثله. ومن هنا جاء التوجيه لنا أن نمارس نوعاً من إدارة الإدراك والسعي إلى القيام بمقارنة تجلب لنا الرضا والطمأنينة على نحو ما نجده في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا نظر أحدكم إلى مَنْ فُضِّل عليه في المال والخَلْق؛ فلينظر إلى من هو أسفل منه» (١) . إذا نظرنا إلى من هم فوقنا في أمور الدنيا، فلن نحصد سوى الحسرة، وسنزدري نعمة الله علينا من خلال الشعور بالنقص، ويا حبذا أن ننظر إلى من هم فوقنا في التقوى وشدة الإقبال على الله ـ تعالى ـ وعمل الخير ونفع الخلق؛ إذن لشكَّل ذلك حافزاً لنا على الصلاح والتقدم على الصعيد الشخصي.
إن القرآن الكريم يعدِّد الكثير من آلاء الله ونعمه على الخلق حتى يتمتعوا بها، ويحمدوه عليها، وهو يعلمنا في غير موضع أننا سنظل عاجزين عن إحصاء نعمه؛ وذلك حتى نستمتع في حمده وشكره والثناء عليه؛ نحن عاجزون عن إحصاء نعم الله ـ تعالى ـ علينا. لأننا لم نكتشف حتى اليوم تفاصيل لطفه بنا وتدبيره لنا، كما أننا غير مؤهَّلين لمعرفة أنواع النقم والرزايا التي يدفعها عنا دون أن نشعر، أو نجهد.
وفي هذا تحفيز للوعي الإسلامي على اكتشاف الخيرات الناجزة التي ننعم بها عوضاً عن قطع العمر في التشوق إلى ما لا نملك. شيء مؤسف أن تنقضي أعمار كثيرين منا في الأمنيات والحسرات؛ وقد صدق من قال: بعضنا يقضي الشطر الأول من عمره في اشتهاء النصف الثاني والتطلع إليه وانتظاره بفارغ الصبر؛ فإذا بلغه قضاه في الحسرة على النصف الأول؛ وهذا واضح فيما نحفظه من أدبيات رثاء الشباب والبكاء على سالف الأيام. إن خداعنا سهل ميسور، وأشعر أننا كثيراً ما نكون ضحايا الأوهام البراقة، وكثيراً ما تكون الإفاقة في وقت متأخر، وهذا بسبب ضعف فهمنا لطبائع الأشياء وسنن الله ـ تعالى ـ في الخلق. إن الأشياء التي نتطلع إليها تتمتع بقدرة فائقة على جذبنا إليها، وكلما كانت تلك الأشياء بعيدة المنال كان إغراؤها أعظم، وكلما اقتربنا منها تراجع لمعانها، وحين نظفر بها فإن قدرتها على إمتاعنا تصبح ضئيلة، وسرعان ما يقفز بنا الخيال إلى ما يمكن أن يأتي بعدها، لنبدأ رحلة جديدة من التشهِّي وخداع النفس؛ وأعتقد أنه لو كان لدينا مئة شخص يعرفون بعضهم على نحو جيد، وطلبنا منهم أن يتحدثوا عما يضمرونه في أنفسهم من مشاعر تجاه بعضهم بعضاً ـ أعتقد أننا سنرى العجب العجاب، وسنكتشف أن كثيراً منهم يغبط غيره على ما هو زاهد فيه، ويغبطه غيره على ما يشعر نحوه بالسأم والملل!! وهكذا تبدو الحياة وكأنها فارغة من أي معنى، وخالية من أي معيار محايد لمعرفة ما يجلب لنا الهناء، وما يجلب لنا الشقاء!
تعالوا كي نتعلم من الأطفال كيف يصنعون الأفراح والمسرات أياماً طوالاً من خلال اللعب بالقليل جداً من الألعاب. وتعالوا لنقنع أنفسنا بأننا سعداء ومحفوفون بآلاء الله ونعمائه وبركاته، ولنحاول ألا نجعل السعادة هدفاً نطارده كي نمسك به، كما يفعل الذي يحاول القبض على ظله!
دخل أحدهم السجن من غير جرم اقترفه، وكان مثقفاً، فوجد من انضم إليهم من المساجين غارقين في الأحزان: أحزان على فراق الأهل والأولاد، وأحزان على الأعمال التي توقفت بعدهم، وأحزان على الحرية والمتع المسلوبة ...
وكان ذلك الرجل حكيماً وخبيراً في تحويل الوعي وتوجيه الخيال؛ فما كان منه إلا أن اقترح عليهم فكرة لتخفيف الضغوط التي يواجهونها، وتلك الفكرة هي الاجتماع في آخر النهار من أجل الاحتفال بانتهائه وشطبه من مدة الحكم الصادر في أولئك السجناء. وكان ذلك، واستطاعوا من خلال الحفل اليومي الضئيل جداً في إمكاناته أن يضحكوا من قلوبهم وملء أفواههم، وحين أُخرِجوا من السجن أضفى ذلك الحفل المتكرر على ذكريات الأيام الصعبة مسحة من الشوق والحنين.
إن كثيراً من الناس يشعرون بالسخط والضيق بسبب ما يعتقدون أنهم فاقدون له من متاع الدنيا وزينتها، وكان عليهم أن يستعيضوا عن ذلك بفتح أبواب جديدة للهناء، لا يتطلب الدخول منها المال والجاه والمنصب، وإنما يتطلب القناعة والرضا بما قسم الله إلى جانب الإكثار من التعبد والثناء على الرحمن الرحيم، بالإضافة إلى إثراء حياتنا بالتواصل الأخوي ومعاني النبل والوفاء وبذل المعروف ...
إن جعل سعادتنا مرتبطة على نحو جوهري بالحصول على المزيد من المال، يشكِّل تركة في الاتجاه الخاطئ؛ لأن المطلوب من المال سيظل باستمرار أكثر من المعروض؛ ومن ثَم فإن مشاعر الحرمان ستظل مسيطرة على أعداد هائلة منا على نحو ما نلمسه اليوم حيث اتجهنا.
إن الرسالة التي أحببت اليوم إيصالها، تهدف إلى الدفع في اتجاه البحث عن ضروب من السعادة المجانية الناجزة عوضاً عن
(١) أخرجه البخاري.