[حرية التعبير في الغرب الحقيقة والوهم]
د. أحمد محمد الدغشي
\ أسطورة حق التعبير في الغرب:
حقّاً إنها أسطورة مخجلة أن يظل بعض مثقفينا يردد بلا إدراك حصيف أن الغرب قِبلة الحُرّيات، ومهوى أفئدة المضطَهَدين على نحو من المبالغة المفرطة، والتقديس الفجّ. ولئن كان لذلك بعض البريق ذي الأساس المقدّر قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١م؛ فإن الأمر اختلف بعد تلك الأحداث إلى حدّ كبير؛ حيث كانت ذريعة حق الدفاع عن أمن الولايات المتحدة وحليفاتها الأوروبية ـ ولا سيما مع تكرار حدوث أعمال مشابهة جزئياً في بعض تلك البلدان ـ من وراء ذلك الانقلاب الكبير في الحقوق والحرّيات بمختلف تصنيفاتها. ومع أن العديد من النصوص والوقائع التي سنأتي على ذكرها توّاً تسبق أحداث سبتمبر، إلا أن القيود على حركة الحرّيات ازدادت أضعافاً مضاعفة بعد ذلك.
وإليك الآن الشواهد التالية:
ـ في أمريكا تم منع عرض مجموعة من الأفلام الوثائقية التي قام بإعدادها الصحفي البريطاني البارز (روبرت فيسك) ، لأنها أثارت غضب اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، الذي هدّد شبكة التلفزيون بسحب الإعلانات ذات المردود المادي منها.
أما إذا سألت عن سرّ هذا الغضب فيأتيك الجواب أن مجموعة تلك الأفلام كان عنوانها (جذور غضب المسلمين) ، حيث اتهمت الصهيونية بأنها السبب الرئيس وراء نقمة المسلمين على الغرب. ولاحظ أن (فيسك) حاصل على جائزة الصحافة البريطانية لعام ١٩٩٥م كأحسن صحفي بريطاني قادر على عرض الأخبار السياسية الدولية وتحليلها.
ليس ذلك فحسب بل إن كاتباً بحجم (نعوم تشومسكي) الذي حصل كتابه (الهيمنة أم البقاء: سعي أمريكا للسيطرة العالمية) على مرتبة أكثر الكتب مبيعاً عام ٢٠٠٢م، وتصفه بعض الصحف الأمريكية كصحيفة (نيويورك تايمز) بأنه يمكن اعتباره أهم مفكّر في العالم اليوم، هذا الكاتب وبهذا المستوى قلّما تتجرأ شبكات التلفزة الأمريكية على استضافته، بسبب آرائه الشهيرة التي عادة ما تزعج القادة والساسة الأمريكيين والصهيونيين على حد سواء. وقد حدث له في عام ١٩٧٢م وبعد أن طبع أحد كتبه أن أوقف توزيع الكتاب وتم سحبه من السوق وإتلافه، بعد أن اطلع بعض أعضاء مجلس إدارة الشركة المالكة على محتوى الكتاب، الذي لم يَرُقْ لهم.
وهل يتعارض مع حرية التعبير ما أقدم عليه رئيس مجلس النواب الأمريكي الأسبق (نيوت جنجرييتش) من فصل مؤرخة تعمل بالمجلس حين علم أنها سبق أن قالت: «وجهة نظر النازيين بصرف النظر عن عدم شعبيتها لا تزال وجهة نظر، ولا تأخذ حقها في التعبير» .
وفي عام ١٩٨٦م لم يستطع المؤلف (جورج جيلبرت) أن يجد ناشراً ليعيد طباعة كتابه (الانتحار الجنسي) على الرغم من أن كتب (جيلبرت) المنشورة في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي تصدرت قوائم المبيعات العالمية. والسبب في إعراض الناشرين هو الاحتجاج الصاخب الذي قامت به رائدات حركة تحرير المرأة ضدّه؛ لأن «اختلافات الرجل عن المرأة لا ينبغي حتى أن تدرس» حسب تعبير إحداهن في مقابلة عرضت على شبكة (A B C) الأمريكية.
أما الممثلة البريطانية الشهيرة (فانيسا ريد جريف) فلم يسمح لها بأداء دورها في مسرحية كوميدية بريطانية أثناء عرضها في الولايات المتحدة بسبب تصريحاتها المعادية للتدخل الأمريكي ضدّ العراق في حرب الخليج.
الجدير ذكره أن أعمال (جريف) كثيراً ما تتعرض للمقاطعة أو الإلغاء من العرض في الولايات المتحدة بسبب آرائها المعادية للصهيونية وسياسات الدولة العبرية.
وإذا كانت (جريف) قد منعت من أداء دورها المسرحي فقط؛ فقد منع من دخول الولايات المتحدة مفكّرون وعلماء ومشاهير، من أمثال: أحمد ديدات، ويوسف القرضاوي، ويوسف إسلام؛ ناهيك عن آلاف غيرهم!
أما حرية الإعلام المباشر ونشر المعلومة فقد انكشف ذلك بلا أدنى ريب من خلال التعتيم الذي مارسته الإدارة الأمريكية على حظر نقل وقائع الحرب الأخيرة على أفغانستان والعراق، وقصف قناة (الجزيرة) في كابول، وقتل العديد من الصحفيين في العراق، وأبرزهم (طارق أيّوب) ، ثم إغلاق مكتب (الجزيرة) في بغداد، والأمر بسجن مذيعها الشهير (تيسير علّوني) في مدريد ومصوِّرها (سامي الحاج) في جوانتنامو. وأخيراً ما كشفته صحيفة (ديلي ميرور) البريطانية، وتأكيد رئيس تحريرها المشارك (كيفين ماغواير) من أن لدى صحيفته محاضر موثقة تكشف أن الرئيس الأمريكي (جورج بوش) أبلغ رئيس وزراء بريطانيا (توني بلير) خطة قصف قناة (الجزيرة) . وحين تزايدت المطالبة بكشف الحقيقة أُوعِز إلى النائب العام البريطاني بإصدار قرار يمنع الكشف عن الوثيقة أو نشرها.
ويستغرب المرء حين يجد أن مقدّسات المسلمين وحدها هي الكلأ المباح الذي لا يعاقب القانون مقترفه بأية عقوبة، بل يُردّ عليه بممارسة أسطورة حق (حرّية التعبير) . فحين تقدم صحيفة دانماركية (جيلاندس بوستن) في ٢٦ شعبان ١٤٢٦هـ الموافق ٣٠ أيلول/ سبتمبر ٢٠٠٥م ـ وهي صحيفة ذائعة الصيت، وذات مصداقية كبيرة لدى الشعب الدانماركي ـ على إعلان مسابقة لرسم أحسن كاريكاتير للرسول محمد -صلى الله عليه وسلم-.
وبالفعل أرسل القراء أكثر من مائة صورة، تصور رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو يلبس عمامة مليئة بالقنابل والصواريخ، وتصوره وهو يصلي في أوضاع مهينة للغاية. وتم نشر حوالي ١٢ كاريكاتيراً علناً، وعلى مدار عدة أسابيع، وبمعرفة من الحكومة الدانماركية، وموافقتها بل وتأييدها، وبتفاعل الرأي العام الدانماركي معها.
وحين حاولت الجالية الإسلامية هناك، الدفاع عن الإسلام ومقدساته، وذلك بوقف نشر هذه الصور، رفض رئيس تحرير الصحيفة حتى مجرد مقابلتهم، بل وتضامنت كل الهيئات الحكومية مع الصحيفة، ورُفضت كل محاولات الجالية الإسلامية، حتى مع تطوّر الأمر إلى إعلان جملة إجراءات دبلوماسية كسحب السفراء أو استدعائهم من قِبَل بعض الدول الإسلامية، إلى جانب إعلان المقاطعة للمنتجات الدانماركية والنرويجية (إذ كانت صحيفة «مغازينات» النرويجية أعادت في ١٠ يناير ٢٠٠٦م ما نشرته الصحيفة الدانماركية سالفة الذكر) فإن عقيرة غلاة العلمانية تُرفع، وشعارات حرية التعبير والإبداع تُلقى في وجه كل معترض. وعلى هذا الأساس الهشّ تجاوبت صحف مماثلة في كراهية الإسلام في فرنسا وألمانيا التي تقوم الدنيا في أيّ منهما ولا تقعد إذا حدث أدنى تشكيك في حكاية المحرقة (الهولوكست) التي يصرّون ـ في دوغمائية لافتة ـ أنها حدثت لليهود، ثم تفاعل معهم في منطقتنا بعض المفتونين، أو المهووسين بفن (الإثارة) بأي ثمن، ومهما كانت النتائج، كما فعلت بعض الصحف في كل من الأردن ومصر واليمن.
هذا في حين أن القانون الدانماركي يحظر أي تهديد أو إهانة أو حط من شأن أي إنسان بصورة علنية، بسبب الدين أو العرق أو الخلفية الإثنية، أو التوجّه الجنسي. وبسبب ذلك القانون تعرّضت امرأة تعمل محرّرة صحفية لمحاولات تقديمها للمحاكمة، لأنها كتبت خطاباً للصحيفة تصف فيه الشذوذ الجنسي بأنه أسوأ أنواع الزنى. وكأن هذا القانون يشمل أي إنسان باستثناء النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-.
ومما له دلالة مباشرة على هذا ـ حسبما أورده موقع إسلام أون لاين في ٨/ ٢/ ٢٠٠٦م ـ أنه في الوقت الذي نشرت فيه صحيفة (جيلاندس بوستن الدانماركية) رسوماً كاريكاتيرية مسيئة إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بدعوى حرية التعبير، رفضت الصحيفة نفسها نشر رسومات تسيء إلى المسيح عيسى ـ عليه السلام ـ خشية ردود الفعل الغاضبة من جانب قراء الصحيفة، حسبما نشر الموقع الإلكتروني لصحيفة (جارديان) البريطانية.
وقالت (جارديان) إنه في إبريل ٢٠٠٣م تبرع الرسام الدانماركي (كريستوفر زيلير) للصحيفة بسلسلة من الرسوم الساخرة تتعلق ببعث السيد المسيح من جديد.
غير أنها أشارت إلى أن الصحيفة الدانماركية «رفضت نشر الرسومات التي تسيء إلى المسيح، بدعوى أن نشر الرسوم لن يسعد القراء، وربما يؤدي إلى تعرض الصحيفة لانتقادات شديدة» .
وتسلم (زيلر) رسالة بريد إلكتروني من رئيس تحرير صحيفة «جينز كيسر» الدانماركية تقول: «لا أعتقد أن قراء الصحيفة ستروق لهم هذه الرسوم، بل أعتقد أنها ستثير مشاعر الغضب لديهم؛ لذا فلن أنشر الرسوم» ، وذلك بحسب الصحيفة البريطانية. ونقلت (جارديان) عن (زيلر) قوله تعليقاً على الرسوم: «الرسوم مجرد مزحة بريئة لدرجة أنها أضحكت جدي» .
غير أن رئيس تحرير الصحيفة الدانماركية أوضح من جهته أن الرسومات الكاريكاتيرية كانت سخيفة للمضي قدماً في نشرها في ذلك الوقت.
ـ في بريطانيا يتم التعامل مع المقدّسات وفق قانون خاص يسمى (BIASPHEMY LAW) الذي يمنع سب المقدّسات؛ إذ يسري العمل بالقانون في كل من إنجلترا وويلز. ولكنه خاص بالمقدّسات المسيحية وحدها. ولذلك فعندما أعلن المخرج الدانماركي (جينز ثور سن) (لاحظ الدانماركي) اعتزامه إخراج فيلم في إنجلترا عن الحياة الجنسية للمسيح فقد أدى ذلك إلى موجة غضب عارمة في المؤسسات الدينية الأوروبية وعلى رأسها الفاتيكان وأسقفية (كانتر بري) ، وعلى الفور قام رئيس الوزراء البريطاني حينذاك (جيمس كالاهان) بالتحذير من أن أي محاولة لإخراج ذلك الفيلم في إنجلترا سوف تكون عرضة للمحاكمة تحت طائلة قانون (سب المقدّسات) مما أثنى المخرج عن إتمام إنتاج الفيلم.
وفي يونيو ١٩٧٦م قامت صحيفة (News Gay) الخاصة بأخبار الشواذ جنسياً من الرجال بنشر قصيدة للشاعر البريطاني (جيمس كيركوب) يصف فيها المسيح ـ عليه السلام ـ في أوضاع غير لائقة، مما أثار غضب اتحاد المشاهدين والمستمعين الإنجليز، الذي يتولى الرقابة الشعبية على كل ما ينشر في الصحف أو يعرض في وسائل الإعلام والأفلام السينمائية، وقامت رئيسة الاتحاد بمقاضاة رئيس تحرير الصحيفة والشركة التي تملكها وتتولى نشرها بتهمة سبّ المقدّسات.
وبالفعل تمت المحاكمة في شهر يوليو عام ١٩٧٧، وبالرغم من محاولات الدفاع المستميتة في إقناع المحلّفين أن القصيدة لم تعنِ أو تضمر أيّة إساءة للدين النصراني، بل بالعكس كانت تصوّر العلاقة العاطفية التي تربط الشاعر بشخص المسيح ـ عليه السلام ـ إلا أن هيئة المحلّفين لم تقبل هذا الدفاع وأدانت الصحيفة بأغلبية عشرة أصوات مقابل صوتين بتهمة امتهان مشاعر المسيحيين في إنجلترا، والإساءة إلى مقدّساتهم، بعد قرار هيئة المحلّفين القاضي على رئيس التحرير بالسجن لمدّة تسعة أشهر مع وقف التنفيذ ودفع غرامة مقدارها (خمسمائة جنيه إسترليني) ، وعلى الناشر بغرامة مقدارها (ألف جنيه إسترليني) ، بالإضافة إلى تحمّل تكاليف القضية. وعلى الرغم من استئناف الصحيفة الحكم عام ١٩٧٨م أمام القسم القضائي بمجلس اللوردات البريطاني، الذي يمثل أعلى سلطة قضائية في بريطانيا إلا أنها خسرت للمرّة الثالثة، حيث أقرّت المحكمة البريطانية العليا الأحكام السابقة الصادرة ضدّ رئيس التحرير.
بعد حكم المحكمة العليا جرت محاولات عِدّة لإنهاء العمل بقانون سبّ المقدّسات من خلال مجلس العموم البريطاني، إلا أن جميع تلك المحاولات باءت بالفشل، حيث لم يقبل مجلس العموم ولا مجلس اللوردات أي مساس بذلك القانون بالرغم من أنه يحمي الديانة المسيحية فقط من السبّ ويهمل بقيّة الديانات المنتشرة داخل بريطانيا، وأنه يعاقب على المساس بالمقدّسات المسيحية دونما نظر أو مراعاة لقصد أو نيّة الشخص المتهم بسبّ المقدّسات.
ومع محاولات أخرى تمت في الاتجاه الذي يجعل من القانون عامّاً لكل المقدّسات في كل دين يوجد في إنجلترا إلا أنها باءت كذلك بالفشل. لذلك لم يفلح المسلمون في بريطانيا في أن يرفعوا دعوى قضائية ضدّ (سلمان رشدي) صاحب كتاب (آيات شيطانية) ؛ إذ القانون الذي يحظر سبّ المقدّسات خاص بالمسيحية فقط. فلم يكن (سلمان رشدي) خارجاً عن القانون البريطاني حين أهان المقدّسات الإسلامية، بل ذلك أمر يندرج في إطار حرّية التعبير رغم أنه سخر من المقدّسات الإسلامية وأهانها. غير أن الطريف حقاً أن حرّية التعبير هذه لم َتحْمِ (فيلماً) باكستانياً سخر من (سلمان رشدي) ، بل منعت دخوله.
إن الشخصيات الدينية في حصانة (مقدّسة) كذلك بموجب قانون حظر (سبّ المقدّسات) ، لذلك فقد قامت هيئة الرقابة على المصنّفات الفنية البريطانية برفض عرض فيلم وثائقي على شاشات التلفاز البريطاني عن الراهبة (تيريزا) التي عاشت في بريطانيا في القرن السادس عشر، بسبب محتوى الفيلم الذي يمكن تأويله على أنه إهانة للدين النصراني.
ـ وفي إيطاليا يمنع عرض الفيلم الأمريكي (الإغراء الأخير للسيد المسيح) ، لما فيه من استثارة مشاعر المسيحيين، لذا لم يُكْتَفَ بمنع عرضه فقط في العديد من البلاد الأوروبية بل قُدِّم مخرج الفيلم في المهرجان للمحاكمة في روما بسبب الفيلم.
ـ وفي فرنسا يقر مجلس الشعب الفرنسي قانون فابيوس ـ جيسو في عام ١٩٩٠م الذي يحظر مجرّد مناقشة حقيقة وقوع الهولوكست في الحرب العالمية الثانية. وقد عوقب المفكر الفرنسي الشهير (روجيه جارودي) عام ١٩٩٨م بسبب كتاب (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية) ، وحكم عليه بغرامة (٢٠) ألف دولار.
ولم تصمد حريّة التعبير أمام حق قناة (المنار) اللبنانية التابعة لحزب الله في بث أفكارها ورؤاها، بل عملت فرنسا على منع بثّها، لأنها قدمت مسلسلاً عن جرائم إسرائيل، غير أن السؤال الأهم لماذا الوقوف هنا ضدّ حق التعبير؟!
ولماذا تعمل دولة الحرية والمساواة والإخاء ـ وهي الشعارات الشهيرة للثورة الفرنسية عام ١٧٨٧م ـ بإيقاف (٤٠٠) إمام وخطيب مسجد في فرنسا تحت دعاوى متهافتة تسقط جميعها أمام أسطورة حرّية الرأي والتعبير.
ولماذا يتم تغريم (برنارد لويس) الأستاذ بجامعة (برنستون) مبلغ (١٠) آلاف فرنك فرنسي (حوالي ٢٠٦٢ دولاراً أمريكياً) عام ١٩٩٥م لأنه أنكر أن الأرمن تعرضوا لإبادة جماعية على يد الدولة العثمانية في بداية القرن العشرين الميلادي.
ـ وفي ألمانيا يحظر بيع أو شراء أو طباعة كتاب (كفاحي) لـ (هتلر) ، كما تحظر طباعة أو توزيع أي مقال أو كتاب يؤيد النازية بأي شكل من الأشكال، بل تحظر حتى الهتافات النازية، ولو على سبيل المزاح. وهذا الحظر يفسّر المشكلة التي تعرض لها لاعب الكرة المصري (هاني رمزي) في ألمانيا، حين قام بإلقاء التحية النازية المشهورة على سبيل المزاح في إحدى الحفلات.
في عام ١٩٩١م قام (جنتر ديكارت) زعيم الحزب الوطني الديمقراطي الألماني (يمين متطرّف) بعقد محاضرة استضاف فيها محاضراً أمريكياً أشار فيها إلى أن رواية قتل اليهود بالغاز غير صحيحة. وترتب على ذلك أن قُدّم (ديكارت) للمحاكمة، وعوقب طبقاً للقانون الذي يحظر الأحقاد بين المجموعات العرقية.
وفي شهر مارس ١٩٩٤م حوكم (ديكارت) مرة أخرى وحكم عليه بالسجن لمدة عام واحد مع وقف التنفيذ، بالإضافة إلى غرامة خفيفة، مما أدى إلى تعرّض القضاة الذين حاكموا (ديكارت) لموجة من الغضب والنقد من القضاة الآخرين، بسبب ضآلة العقوبة التي حكموا بها، مما أدّى إلى تدخل المحكمة الفيدرالية التي أبطلت الحكم وأمرت بإعادة المحاكمة.
وفي إبريل ١٩٩٤م أعلنت المحكمة الدستورية الألمانية أن أية محاولة لإنكار حدوث (الهولكوست) لا تتمتع بحماية حق حرّية التعبير التي يمنحها الدستور الألماني، مما دفع البرلمان الألماني أن يسن قانوناً يجرّم أيّة محاولة لإنكار وقوع (الهولكوست) ، ويوقع بمرتكب هذه الجريمة عقوبة حُدّدت بالسجن خمس سنوات بغض النظر عمَّا إذا كان المتحدّث ينكره أم لا.
وفي عام ١٩٩٣م تم نشر ترجمة ألمانية لكتاب أمريكي عنوانه (العين بالعين) ، غير أن الناشر تنبّه إلى خطورة الأمر فقام على الفور بسحبه وإتلاف كل نسخ الطبعة الألمانية رغم توزيعها في السوق، تحاشياً للوقوع تحت طائلة القانون أو إثارة غضب الرأي العام، وذلك لأن الكتاب يورد أن (ستالين) كان يتعمّد اختيار اليهود للقيام بالأعمال البوليسية السريّة في بولندا بعد الحرب العالمية الثانية.
ـ وفي النمسا من المتعارف عليه قانونياً معاقبة كل من أنكر وجود غرف الغاز التي أقامها النازيون أثناء الحرب العالمية الثانية بالسجن، غير أنه في العام ١٩٩٢م تم تعديل القانون ليطال التجريم أية محاولة تنكر أو تخفّف أو تمدح أو تبرّر أيّاً من جرائم النازية، سواء بالكلمة المكتوبة أو المذاعة.
ـ وفي كندا على الرغم من أن القانون الكندي ينص على حق كل مواطن في التعبير الحرّ إلا أنه يحظر ـ في الوقت ذاته ـ أيّ نوع من أنواع التعبير من شأنه أن يؤدي إلى إثارة الكراهية ضدّ أية مجموعة عرقية أو إثنية أو دينية، ويمنح القانون المجالس التشريعية في كندا تقييد حريّة التعبير أو غيرها من الحريّات الدستورية إذا استدعت الضرورة ذلك، وبناء على هذا أقرّت المحكمة الكندية العليا العقوبة التي أقرّت بها إحدى محاكم مقاطعة (ألبرتا) ضدّ (ناظر) مدرسة اتهم بمعاداة السامية والترويج لكراهية اليهود.
ولكون السيطرة الصهيونية على وسائل الإعلام في الغرب حقيقة ساطعة فإن شبكة تلفاز (CTV) الكندية قامت باستضافة (جوزيف ليبد) المعلّق السياسي الإسرائيلي صباح يوم ١٥/ ١٠/ ١٩٩٤م الذي دعا مباشرة وعلى الهواء يهود كندا لأن يتولى أحدهم اغتيال (فيكتور أوستروفوسكي) ضابط الموساد الذي ألف كتابين كشف فيهما عن العمليات السريّة للموساد، دون أن تُحدث هذه الدعوة أي ردّ فعل على أي مستوى إعلامي في كندا. ولم يُسمع عن الكُتّاب والمعلّقين الذين دافعوا بحماس بالغ عن حق (سلمان رشدي) في التعبير الحرّ دفاع أقل من ذلك في حق (أوستروفوسكي) في التعبير الحُرّ كذلك.
قارن هذا بما حدث في عام ١٩٩٦م عندما قام قاضٍ كندي بمقاطعة (كيوبيك) بالحكم بالسجن مدى الحياة على امرأة قامت بذبح زوجها بسكين، وقال تعقيباً على الحكم الذي أصدره: «لقد أثبت أن المرأة تستطيع أن تكون أكثر عنفاً من الرجل، حتى النازي لم يُعذّب ضحاياه اليهود قبل قتلهم» .
هذا التعقيب أثار زوبعة من الاحتجاج ضدّ القاضي من قِبَل الجمعيات النسائية واليهودية في كندا، فاضطر القاضي للاعتذار، ولكنه أعلن أنه مؤمن بكل كلمة قالها في ذلك التعقيب، مما ضاعف موجة الاحتجاج ضدّه، وتعالت الأصوات مطالبة باستقالته، ولكنه رفض الاستقالة. عندئذ تدخّل المجلس القضائي الكندي وقام بالتحقيق مع القاضي، ثم أوصى المجلس البرلماني الكندي بإقالة القاضي بسبب التعليق الذي صدر عنه. وحين وصلت الأمور إلى ذلك الحدّ اضطر القاضي أن يقدّم استقالته بدلاً من أن تأتي الإقالة من البرلمان، حيث كان واضحاً أنه سيقبل توصية مجلس القضاة الكندي بالإقالة.
ـ وفي أستراليا ينص قانونها على اعتبار أية مادة مكتوبة من شأنها الحطّ من قدر أية مجموعة عرقية محظورة طبقاً للقانون المانع للتفرقة العنصرية الصادر عام ١٩٩٨م، وقد يعاقب الكاتب والناشر بغرامات تصل إلى (٤٠) ألف دولار أمريكي.
ـ وفي سويسرا قامت مقاطعة (دي تور) بمنع كتاب (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية) لـ (روجيه جارودي) من التداول، وحكمت محكمة على ناشر عرض الكتاب بالسجن أربعة أشهر.
وقد سرى رعب التشكيك في حكاية (الهولوكست) حتى في بلد صناعي (عريق) غير أوروبي هو اليابان؛ إذ حدث أن نشرت مجلة (ماركوبولو) في عددها الصادر في شهر فبراير ١٩٩٥م مقالاً يزعم عرض الحقيقة التاريخية الجديدة، ويوضّح أن غرف الغاز التي أقيمت في الحرب العالمية الثانية ليس لها أساس تاريخي موثّق. وقد أدّى المقال إلى ردود فعل عنيفة وسريعة، حيث قامت المؤسسات الصناعية الكبرى ـ مثل: (فولكس واجن) و (ميتسوبيشي) ـ بإلغاء عقود الدعاية مع المجلة، احتجاجاً على المقال، مما أدّى بناشر المجلة إلى سحب كل أعداد المجلة من الأسواق وفصل كل أعضاء تحرير المجلة، بل واضطر ذلك المقال المجلة إلى إغلاق نفسها نهائياً.
وفي هذه الأجواء تعلن صحيفة (همشهري) الإيرانية ـ حسب موقع الجزيرة نت في ٩/٢/٢٠٠٥م ـ دعوتها لمسابقة عالمية لرسم (كاريكاتيري) يسخر مما يسمى المحرقة النازية (الهولكوست) لليهود، معلنة أنها بهذا تهدف إلى اختبار ردود الفعل الأوروبية والأمريكية، وهو ما سيفضح أسطورة (حريّة التعبير) . وتأتي (الفضيحة) الأولى حين يُستدعى السيد (دياب أبو جهة) رئيس الرابطة العربية الأوروبية للمحاكمة، لكونه دعا إلى نشر رسوم (كاريكاتيرية) ضدّ المحرقة (الهولكوست) ، بهدف كشف حقيقة (حريّة التعبير) الغربية!!
والآن: أرأيتم كيف أن الحديث عن حرّية التعبير في الغرب مجرّد أسطورة باهتة، ووهم طغى بسبب طغيان الحضارة الغربية على تفكيرنا ومسالكنا في كل اتجاه، حتى بات بعض المشتغلين بالثقافة والفكر والسياسة يعتقدون حقيقتها، وأن المناقشة فيها نقاش في (المقدّس) أو (التابو) الممنوع التطرّق إليه والحديث عنه؟
(*) أستاذ أصول التربية المشارك، كلية التربية، جامعة صنعاء، اليمن.