للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

من تاريخ الأحزاب الشيوعية العربية

وموقفها من قضية فلسطين

بقلم: د.محمد آمحزون

إن تاريخ الأحزاب الشيوعية في البلاد العربية يشير إلى ظاهرة مهمة جدّاً في

نشأة هذه الأحزاب، وفي مواقفها من النزاع العربي الإسرائيلي، وفي تأثرها

بالعناصر اليهودية التي حرّكتها الصهيونية العالمية لإقامة دولة إسرائيل.

ويمكن القول بكل يقين: بأن الحركة الشيوعية في العالم العربي إنما أنشأها

اليهود الذين كانوا أنشط العناصر داخل هذه الحركة، وفي تلك الفترة بالذات من

تاريخ قيام الأحزاب الشيوعية في العالم العربي، أخذت بعض الدعاوى تنتشر في

الأجواء السياسية حول شرعية حق اليهود القومي في فلسطين، لتلتقي هذه النظرة

التي عمل الشيوعيون على ترويجها مع النظرة الصهيونية والأهداف التي تعمل لها.

إن تأثر الماركسيين العرب بالعناصر اليهودية على مستوى القيادة والتنظيم

السياسي، كان له بالغ الأثر في جعل الماركسيين يعمون عن واقع وطنهم،

ويتغاضون عن تمزيق بلادهم، إذ كانوا لا يفكرون من خلال عقولهم، وإنما من

خلال المخططات التي تضعها الشيوعية الدولية والصهيونية العالمية، ويعملون هم

على تنفيذها بشكل تلقائي دون أن يجهدوا أنفسهم في تحري المواقف، ليروا ما إذا

كانت تلك المخططات الموضوعة تصلح للعالم العربي الإسلامي وتتفق مع حقه في

الوجود أم لا.

كان الحزب الشيوعي الفلسطيني أول حزب شيوعي تأسس في المنطقة عام

(١٩١٩م) ، وكان جميع عناصره من اليهود الروس الذين حملوا بذور الفكرة الأولى

إلى فلسطين. وفي عام ١٩٢٤م تأسس الحزب الشيوعي في لبنان، حيث ساهم

بعض العناصر اليهودية الوافدة من فلسطين في إنشائه، وهي التي أوكلت إليها

مهمة نشر الفكرة الشيوعية والإشراف على تنظيم خلاياها في منطقة الشرق

الأوسط [١] .

وفي نهاية عام ١٩٢٥م كانون الأول (ديسمبر) انعقد المؤتمر الوطني الأول

للحزب الشيوعي، وانتخب لجنته المركزية من سبعة أعضاء، وظل تيبر اليهودي

الروسي محتفظاً بأمانة الحزب العامة، وكان يعرف عادة باسم شامي، حيث درج

معظم الأعضاء القياديين في الحركات الشيوعية على استعارة أسماء أخرى، وهو

تقليد يهودي [٢] .

وقد ظل الصراع محتدماً في الحزب منذ عام ١٩٢٨م حتى عام ١٩٣٢م،

حين تمكن خالد بكداش من أن يبلغ مركز زعامة الحزب بترشيح جاكوب تيبر

المبعد إلى فلسطين وتزكيته، وتقدم معه وجوه ثلاثة جديدة هم: نقولا شاوي وفرج

الله الحلو ورفيق رضا الذي قدر له أن يلعب بعد ثلاثين عاماً دوراً كبيراً في فضح

أسرار الحزب واتصالاته [٣] .

ففي عام ١٩٥٩م خرج رفيق رضا على الحزب وكان عضواً في قيادته

المركزية ليروي بعض تاريخه، ويسلط الضوء على الجوانب المظلمة فيه، وقد

كتب في ذلك الحين بياناً نشرته جريدة (الجماهير) السورية، جاء فيه: في عام

١٩٣٢م وفد إلى بيروت عدة مندوبين شيوعيين يهود حملوا مبالغ وافرة من المال

إلى قيادة الحزب الشيوعي في سورية ولبنان، وأذكر منهم أميل وأوسكا ومولر،

وقد أبدلت لهم شخصياً قسماً من الأموال التي حملوها بالعملة المحلية آنذاك، وفي

عام ١٩٣٨م حملت إلى الحزب مبلغ خمسة وعشرين ألف فرنك، كان الحزب

الشيوعي الفرنسي قد قرر آنذاك وضعها تحت تصرف الحزب الشيوعي السوري؛

لتوسيع حملته من أجل إقرار المعاهدة الفرنسية البغيضة، ومحاربة الاتجاه الوطني

في ذلك التاريخ، هذا مع العلم أن خالد بكداش قد نقل بنفسه مبلغاً آخر حين كان في

باريس مشتركاً في مؤتمر (آرل) الشيوعي الفرنسي [٤] .

ولم يكتف (الحزب الشيوعي السوري اللبناني) بذلك، ولم يقف ارتباطه

الفكري والمالي بالعناصر اليهودية عند هذا الحد، فقد استعار أسماء صحفه التي

أصدرها من أسماء الصحف التي أصدرتها الحركة الشيوعية اليهودية في فلسطين؛

فاسم (صوت الشعب) وهي الصحيفة السرية للحزب الشيوعي في سورية ولبنان

ترجمة حرفية لاسم الجريدة العبرية للحزب الشيوعي اليهودي (كول عاهام) ، واسم

(النور) وهي الصحيفة العلنية للحزب التي أصدرها في دمشق عام ١٩٥٦م منقول

حرفياً عن اسم صحيفة (الحزب الشيوعي الإسرائيلي) التي أصدرها في فلسطين

عام ١٩٣٤م [٥] .

وقد سار (الحزب الشيوعي العراقي) في الخطة نفسها في تعريب الأسماء

اليهودية في الصحف التي أصدرها، إذ حملت صحيفته السرية أيضاً عام ١٩٥٩م

اسم (صوت الشعب) أسوة بالصحيفة اليهودية (كول عاهام) [٦] .

ولذلك: لم يكن غريباً حين جاءت القضية الفلسطينية أن نجد (الحزب

الشيوعي السوري اللبناني) وبقية الأحزاب الشيوعية في العالم العربي تتخذ موقفاً

معادياً للحق الفلسطيني المغتصب؛ مرتبطة في ذلك وملتقية بالاتحاد السوفييتي،

ومع الصهيونية العالمية، ولا غرابة في ذلك؛ إذ أحسنت العناصر اليهودية تنشئتها

وتوجيهها واصطفاء قياداتها.

فبشأن حقيقة موقف (الحزب الشيوعي السوري اللبناني) من قضية فلسطين

يقول رفيق رضا عضو اللجنة المركزية المنشق: ... وكانت قيادة الحزب الشيوعي

بمثل حماس ابن جوريون على بعث الدولة اليهودية في فلسطين؛ فإسرائيل في

نظرها واحة من واحات الديموقراطية في الشرق الأدنى، والشعب الإسرائيلي

المشرد لابد وأن يلتقي في أرض الميعاد، وأن واجب التضامن الأممي في عرف

القيادة المذكورة هو من صلب المبادئ الماركسية، ولذا: فوجود إسرائيل له في

عرفها مبرراته الإنسانية التي تتخطى المبررات والوقائع القومية، ومنذ اليوم الأول

لكارثة فلسطين أو منذ اليوم الأول لإعلان التقسيم ووقوف الدول الكبرى إلى جانب

الصهيونية بما فيها الاتحاد السوفييتي، منذ ذلك اليوم المشؤوم: انحازت قيادة

الحزب الشيوعي إلى جانب الرأي الاستعماري الصهيوني، ونادت بعدالة التقسيم،

ودعت إليه؛ كما لو كانت قيادة تجري في عروقها دماء إسرائيل، وهي قد التزمت

جانب الاستعمار والصهيونية علناً وصراحة على لسان دعاتها وفي بياناتها وصحفها، ... وقد قوبلت خيانتها هذه بسخط عربي عارم زلزل الأرض تحت أقدامها، وانهالت

لعنات العرب عليها حتى لم يعد بوسع شيوعي في سورية ولبنان أن يعلن

شيوعيته [٧] .

وقد تبنى الحزب فيما بعد دعوة الصلح مع إسرائيل صراحة، وكان يوزعُ في

سورية سرّاً مقالات صموئيل ميكونيس أمين عام (الحزب الشيوعي الإسرائيلي)

المنشورة في جريدة (الكومنجورم) : في سبيل سلم دائم، الداعية إلى الصلح حلاً

وحيداً لمشكلة الخلاف، ولقيت مقالات ميكونيس تأييد قيادات الأحزاب الشيوعية في

المنطقة العربية جميعاً، تلك التي ظلت تنظر إلى النزاع العربي الإسرائيلي من

زاوية الحكام في إسرائيل، لا من مبدأ وجودها [٨] .

لقد ظلت الأحزاب الشيوعية العربية تتهم حكام إسرائيل اليمينيين بأنهم عملاء

للاستعمار دون المساس بكيان إسرائيل أصل المشكلة، ولا بموضوع الدولة اليهودية

في فلسطين، وهو أصل الخلاف.

ويعد هذا الموقف في حد ذاته تحريفاً للنظرة إلى القضية الفلسطينية،

وإغراقها في المفهوم الشيوعي الجديد الذي يهاجم حكام تل أبيب ويسكت عن دولة

إسرائيل، وذلك يعني: أن ارتباط إسرائيل بالغرب هو ما يغيظ الشيوعيين ولا

يرضيهم، فإذا ارتبطت إسرائيل بموسكو غدت شيئاً آخر: (دولة صديقة محبة

للسلام) ، يدعو لها الشيوعيون العرب بالسلامة وطول البقاء! !

أين إذن جوهر المشكلة؟ أليس هو إسرائيل ذاتها، الكيان الذي اغتصب حق

الفلسطينيين وأرضهم ووجودهم، واضطهد شعباً بأكمله بين أسير وقتيل وشريد؟ !

أين حمامات الدماء التي اقترفتها أيدي الإرهابيين الصهاينة في فلسطين،

وراح ضحيتها آلاف النساء والشيوخ والأطفال والشباب؟ !

أين مذابح قطاع غزة والضفة الغربية، وصبرا وشاتيلا، ودير ياسين.. التي

كان على رأسها مثل السفاح بيجن الحائز على جائزة نوبل للسلام؟ ! !

فليست فلسطين، ولا القضية الفلسطينية، ولا الحق العربي الإسلامي هو

المهم بالنسبة للأحزاب الشيوعية العربية، بل كان المهم لديهم أن تتعاظم القوة

السوفييتية الأم في المنطقة، وينمو نفوذها ويبسط سلطانها، مادامت هذه القوة تجسد

أحلامهم في الحكم، وتطلعهم يوماً ما إلى ذروة السلطة، ومادامت هي التي ترفدهم

بالمال، وتوفر لهم في بلادها وفي البلاد الأخرى لذائذ الحياة في فنادقها ونواديها

تحت غطاء عقد المؤتمرات والمهرجانات.

وعلى الرغم من أن قضية فلسطين كانت تطرحها الأحداث كل يوم، وبشكل

أحدّ وأعنف مع تعاظم الخطر الإسرائيلي، فقد ظل الشيوعيون على موقفهم الأول

منها، وظلت سياستهم ومواقفهم تدفع بالقضية الفلسطينية إلى الجوانب والهوامش،

بالاعتراض على اتجاه الحكم الإسرائيلي دون المساس بالجوهر الأصل وهو أصلاً

اغتصاب أرض فلسطين.

فدعوتهم كان هدفها ربط إسرائيل بالمعسكر الشيوعي كما هو هدفها ربط

العرب إلى هذا المعسكر، وفي إطار التبعية هذه تجد المشكلة الفلسطينية حلها في

الإخاء اليهودي العربي.

ومن الملاحظ أن (الحزب الشيوعي السوري اللبناني) لم يكن وحده الحزب

الذي أسسه اليهود ثم اختاروا لقيادته عناصر معادية لكل اتجاه عربي فضلاً عن

الاتجاه الإسلامي؛ فالحزب الشيوعي المغربي: قد أسسه اليهود أيضاً تحت قيادة

ليون سلطان في عام ١٩٤٣م، وهو يهودي مغربي كان يعمل في سلك المحاماة [٩] .

وقد ظل الحزب الشيوعي المغربي (حزب التقدم والاشتراكية حالياً) ذيلاً

للحزب الشيوعي الفرنسي، واستمر ذلك بعد الاستقلال مع التبعية المطلقة للاتحاد

السوفييتي [١٠] .

ومن الملاحظ أن علي يعتة (زعيم الحزب حالياً) قد تسلم مهام الأمين العام

للحزب المذكور بعد وفاة ليون سلطان وهو من أصل جزائري، وقبل مجيئه إلى

المغرب واتصاله بليون سلطان في الدار البيضاء كان عاملاً في فرنسا، وهناك

حصل على الجنسية الفرنسية [١١] .

ولا يخفى الاتصال الوثيق بين علي يعتة والجالية اليهودية في المغرب؛ فقد

ظهر بمناسبة عيد رأس السنة الميلادية لعام ١٩٩٤م في معبد يهودي مرتدياً طاقية

اليهود التقليدية، وهو يستمع إلى الحَبر الكبير الحزّان داخل السنياغوغ [١٢] .

ونسبة المنخرطين اليهود في الحزب الشيوعي المغربي لم تبلغها أي نسبة

أخرى من انخراطاتهم في التكتلات اليسارية والتجمعات النقابية الأخرى كالاتحاد

الوطني لطلبة المغرب والاتحاد المغربي للشغل رغم أنها كانت فيها نسبة غير قليلة

من المسؤولين اليهود [١٣] .

كما أن الذين كانوا يشرفون على تعذيب المقاومين المغاربة في السجون في

عهد الحماية كان من بينهم اليهود، وكانوا أكثر نشاطاً في التعذيب، وأشد حقداً

عليهم من غيرهم [١٤] . بل إن من اليهود المغاربة من يعترف بذلك الموقف

المشين؛ يقول إسحاق ليفي في مقال له في صحيفة (العلم) المغربية: إن الحقيقة

التي لا تخفى على أحد هي أن الأقلية اليهودية بالمغرب عُزلت واعتزلت كثيراً عن

الروح الوطنية، وذلك بفضل جهود الاستعمار من جهة، ومن جهة أخرى بواسطة

التعاليم المعطاة لهم من طرف (الميثاق الإسرائيلي العالمي) [١٥] ومن بين

الشيوعيين المغاربة اليهود البارزين: إبراهام السرفاتي أبرز قيادات منظمة (إلى

الأمام) الماركسية، والكاتب في مجلة (أنفاس) سابقاً.

وكذلك نبتت الأحزاب الشيوعية العربية الأخرى بغرس ورعاية اليهود في

مصر والعراق [*] غير أن المهم في هذا المجال بالذات مواقف الشيوعيين العرب من

القضية الفلسطينية، أي: موقفهم من قضية الأمة الإسلامية في معركتها المصيرية، وإذا كان يحق للاتحاد السوفييتي أن يتصرف كدولة، وأن يعمل وفق مصالحه

وإن خالفت مصالح الآخرين فكيف يحق لمواطنين عرب أن يصروا على التعامل

معه والتبعية له باعتبار أنه عقيدة لا دولة، وأنه يعمل وفق المبادئ لا المصالح،

وأن يتبنوا بالتالي مواقف تلك الدولة التي لا تأبه إلا لمصالحها، ولا تعمل إلا لتنفيذ

مخططاتها القريبة والبعيدة.

وتجدر الإشارة إلى أن الأحزاب الشيوعية العربية اشتركت في تأييد تقسيم

فلسطين، وفي الدفاع عن مبدأ دولة إسرائتيل، وفي الهجوم على الرجعية العربية

بوصفها مسعرة نار الخصام بين الشعبين العربي واليهودي! ، وعدوة الحق!

اليهودي في إقامة وطن قومي لهم في فلسطين، وبلغ بالشيوعيين العرب التحدي

لمشاعر الأمة العربية الإسلامية أن يطالبوا الحكومات في البلاد العربية بالاعتراف

بدولة إسرائيل، وأن ينظموا في كل من سورية والعراق وفلسطين ومصر

مظاهرات شيوعية هزيلة تؤيد حق الشعب اليهودي في إقامة دولة إسرائيل بعد أن

أقرت هيئة الأمم المتحدة في ٢٩ تشرين الثاني (نوفمبر) عام ١٩٤٧م مشروع تقسيم

فلسطين إلى دولتين: عربية ويهودية [١٦] .

فهذا (الحزب الشيوعي السوري اللبناني) يعتبر حرب ١٩٤٨ ضد إسرائيل:

مؤامرة رجعية دنيئة استعمارية، هدفها بذر الخصومة والعداء بين الشعبين العربي

واليهودي، ورفع شعار (إلى الاتحاد في سبيل سحب الجيوش من فلسطين) [١٧] .

ودعا (الحزب الشيوعي العراقي) الحكومات العربية الخائنة على حد قوله إلى

الاعتراف بإسرائيل منادياً: فلتسقط الحرب بين الوطنيين والديموقراطيين العرب

واليهود لإحباط خطط الاستعمار والرجعية، ولتحيى الصداقة العربية

اليهودية! [١٨] . ...

وكتب في صحيفته السرية (القاعدة) : إن الشعب العراقي يرفض بإباء أن

يحارب الشعب الإسرائيلي الشقيق [١٩] .

أما الشيوعيون العرب في فلسطين: فقد وقفوا منذ اللحظة الأولى إلى جانب

إخوانهم الشيوعيين اليهود مطالبين بحق اليهود في إقامة دولة إسرائيل واستقلالها

عن العرب، وطالبوا بإجراء مفاوضات مباشرة ما بين إسرائيل والحكومات العربية، وشددوا على ضرورة سحب القوات العربية المعتدية من إسرائيل [٢٠] .

على أن الحزب الشيوعي المصري قد بلغ نهاية المطاف انغماساً في حمأة

التآمر والخيانة الصريحة؛ فجاء في بيان له: لقد عانى الشعب اليهودي في فلسطين

اضطهاداً لمدة طويلة، إن الشعب اليهودي يريد أن يحصل على استقلاله الذاتي،

وإن فرض الوحدة مع العرب تلك الوحدة التي يرفضها الشعب اليهودي معناه أولاً:

أننا نناقض مبدأ حق تقرير المصير [٢١] .

وعاد الحزب نفسه ليكتب في بيان آخر له: إن اليهود يكوّنون اليوم شعباً

ديموقراطيّاً! وتزداد سيطرتهم على حكومتهم يوماً بعد يوم، في حين أن الحكومة

العربية في فلسطين حكومة فاشية! ! ... وإن القضاء على الدولة اليهودية وإخضاع

اليهود لهذه الحكومة العربية معناه القضاء على واحة الديموقراطية التي يمكن أن

تكون ذات تأثير حسن على الجزء العربي في فلسطين، وتلعب دوراً إيجابيّاً في

الشرق الأوسط [٢٢] .

أما (المنظمة الشيوعية) فقد عالجت في أواخر عام ١٩٤٨م النزاع العربي

الإسرائيلي في مقال افتتاحي نشرته صحيفة (صوت البروليتاريا) في عددها الثالث، فقالت: في ١٥ مايو (أيار) ١٩٤٨م غزت! جيوش البلاد العربية فلسطين،

هناك حرب قائمة في الشرق الأوسط منذ ستبعة شهور، ولكننا إذا درسنا هذه

الحرب بتعمق لوجدنا أنها ليست سوى حرب عنصرية، لقد أملى الاستعمار

البريطاني هذه الحرب وأعد لها منذ سنين طويلة ليدافع عن مركزه في الشرق

الأوسط، إن هذه الحرب هي واحدة من مصادر الحرائق الكثيرة التي تشعلها

الرجعية العالمية، وذلك بهدف خلق ترسانات من بعض المناطق التي يريدون

استخدامها كنقط للهجوم ضد الاتحاد السوفييتي، وأخيراً فإن هذه الحرب موجهة

اليوم ضد الخطر الذي تمثله البروليتاريا الثورية في فلسطين (تعني إسرائيل) [٢٣] .

إن في هذه العبارات من التمويه والمغالطة ما لا تخفى؛ فالاستعمار البريطاني

لم يتدخل في الشرق الأوسط إلا لمصلحة إسرائيل، فهو الذي أصدر وعد بلفور،

وفتح باب الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وخطط بكل ما يملك من وسائل بتنسيق

مع الصهيونية العالمية لإقامة الكيان اليهودي في فلسطين المحتلة، ولسنا ندري أي

رجعية عالمية يعني هؤلاء، وقوى الغرب والشرق، اليمين واليسار، أمريكا

والاتحاد السوفييتي وأوروبا جمعاء كانت في صف إسرائيل في مؤامرة عالمية

استهدفت الوجود العربي الإسلامي في فلسطين.

ذلك كان مجمل مواقف الأحزاب الشيوعية العربية من موضوع فلسطين

وإسرائيل، وقد حرصت هذه الأحزاب أن تظل منسجمة مع مواقف الاتحاد

السوفييتي في الأمم المتحدة وموافقته على قرار التقسيم.

فكيف يرجى أن تحرر هذه الأحزاب المجتمعات العربية الإسلامية من تركة

الجهل والذلة اللذين ورثتهما من الاستعمار الصليبي، وكرسهما شرذمة من الحكام

المستبدين الذين بذلوا ولاءهم ومنحوا تأييدهم للغرب؟ ! .

وكيف يؤمل أن تنهض هذه الأحزاب بالأمة، وهي التي ارتمت في أحضان

يهود الشرق، وسلمت لهم مقاليد أمورها بتنفيذ تعليماتهم وخططهم الموجهة لمناصرة

إسرائيل؟ ! ، وصدق الشاعر العربي في هذا الصنف من الناس:

ونشحذ من يهود الشرق عدلاً ... كمن تَخِذَ الغراب له دليلا

أليس من المخجل زرع استعمار جديد في قلب العالم الإسلامي، وهو

الاستعمار الصهيوني العدو اللدود للمسلمين الذي ما فتئ يضع بتنسيق مع الصليبيين

كل العراقيل والعقبات التي تحول دون تقدم البلاد الإسلامية ونهضتها.

إن السياسة الشيوعية والسياسة الصهيونية في الساحة العربية، وما يحدث من

تنسيق بينهما: تعتبران من أشد أنواع السياسات مكراً وتآمراً، وإن الاتحاد

السوفييتي بمنظومته الحزبية العربية كان طرفاً في تلك المؤامرة الدنيئة التي أتاحت

للمتاجرين بالقضية الفلسطينية أن يتقدموا للزعامة والقيادة، وفي الثورة الفلسطينية

أوضح مثال على هذا؛ فعندما تراجع المسلمون وتخاذلوا دُفعت بعض القيادات

العلمانية إلى السطح، وانضوى تحت ألويتهم أبناء المسلمين المخدوعين، وتاجر

عرفات وجورج حبش ونايف حواتمه ... وغيرهم بدمائهم وبنوا على جماجمهم

مجداً أثيلاً.

إن اليهود بدؤوا منذ القرن التاسع عشر على الخصوص في التطلع والتخطيط

لإقامة كيان صهيوني في فلسطين، وقد كانوا يعلمون جيداً أن ليس بإمكانهم أن

يطؤوا أرض فلسطين بأقدامهم وأن يقر لهم قرار فيها إلا في حالة ضعف المسلمين

وتخلفهم، كما كانوا يدركون أن الإسلام هو السر الحقيقي لقوة المسلمين ونهوضهم؛

ولذلك أقدموا بما لديهم من مكر وخداع وهيمنة على وسائل الإعلام المختلفة على

نشر الفكر الشيوعي، وتمويل الأحزاب الشيوعية وتأسيسها في البلاد العربية،

ونشر الإلحاد.. وغير ذلك من المفاهيم العلمانية المادية التي تدعو المسلمين إلى

فصل الدين عن الدولة وعن الحياة، والتحلل من الأخلاق والقيم الإنسانية.

وقد كان ذلك تحت ستار الشعارات الخادعة المضللة؛ فتغلغلت تلك الأفكار في

عقول كثير من الشباب المضللين الذين فقدوا التوجيه الصحيح والفهم العميق للإسلام

لأسباب داخلية أهمها: غياب الإسلام عن الساحة كنظام حضاري ومنهج حياة شامل، ولأسباب خارجية أهمها: الغزو الشيوعي الصهيوني والصليبي للعالم الإسلامي،

واستيراد أساليب وأنظمة ظاهرها التقدم والتحرر، وباطنها الاستلاب والاحتواء

والجمود، فقد جرب المنتسبون إلى الإسلام مختلف الأنظمة الوضعية من ليبرالية

واشتراكية فلم تزدهم إلا ذلة وجموداً وتأخراً وتبعية للغير، علماً بأن الظروف التي

مرّت بها أوروبا وجعلتها تكره الدين بمفهومه الكنسي المحرف الضيق هي ظروف

ليست موجودة في الإسلام (ولله الحمد) .

وقد استغل الشيوعيون اليهودُ وعلى رأسهم ماركس معركةَ الدين والعلم،

والدين والدولة في أوروبا للتمويه والمغالطة وتعميم الأحكام بالقول: إن الدين أفيون

الشعوب أي: الدين عامةّ وأنه يتعارض مع النظر العقلي، وهي شبهة لها مجالها

الحقيقي في واقع الكنيسة والفكر الغربي، بينما لا نجد لها أي أثر في الإسلام

والفكر الإسلامي، ومن الملاحظ إذن: أن الحملات التي توجه ضد الدين الحق

وهو الإسلام إنما توجه من قِبَل دعاة المذاهب المادية وعلى رأسهم اليهود ضمن

مخطط رهيب يتبلور من خلال الغزو الفكري الذي حاول بمختلف الأساليب تهميش

أثر الإسلام في عقر داره، وإيهام المخدوعين من أبناء هذه الأمة أن لا سبيل للتقدم

إلا بإبعاد الإسلام عن مجالات الحياة المختلفة، هذا كسلاح لتركيز السيطرة اليهودية

والتمكين لها في البلاد العربية الإسلامية، إذ يدرك اليهود جيداً أن الإسلام يقف سدّاً

منيعاً في وجه أي احتواء أو تبعية أو تنازلات، لا سيما إذا كان الأمر يتعلق بأرض

إسلامية كفلسطين، وتهجير شعب مسلم بأكمله وتشريده.


(١) قدري قلعجي: تجربة عربي في الحزب الشيوعي، ص٤٩.
(٢) الغادري: التاريخ السري للعلاقات الشيوعية - الصهيونية، ص١٥٩.
(٣) قدري قلعجي: تجربة عربي في الحزب الشيوعي، ص٥٨.
(٤) صحيفة الجماهير السورية، ١٣ تموز (يوليو) ١٩٥٩.
(٥) الغادري: التاريخ السري للعلاقات الشيوعية - الصهيونية، ص١٦٢.
(٦) المرجع نفسه، ص١٦٢.
(٧) المرجع نفسه، ص١٧١.
(٨) المرجع نفسه، ص١٧٢.
(٩) ١٦٢ Rabert Rezette les politipues marocains P.
(١٠) العربي الناصري: الاندحار الماركسي في العالم الإسلامي، ص٦.
(١١) Rabert Rezette; loc-Qp-cit P١٦٥ - ١٦٦.
(١٢) المشهد المذكور موثق بصورتين لعلي يعتة، وهو داخل المعبد اليهودي، التقطهما مصور الأسبوع السياسي انظر: الأسبوع الصحافي السياسي، ٧ يناير ١٩٩٤، ص١، ٧.
(١٣) مجموعة من المؤلفين: التاريخ الحديث والمعاصر ليهود المغرب، ص ٥٤.
(١٤) صحيفة العلم المغربية، ٢٨ كانون الأول (ديسمبر) ١٩٥٥م.
(١٥) قدري قلعجي: تجربة عربي في الحزب الشيوعي، ص١٤٤.
(١٦) المرجع السابق، ص١٥٦.
(١٧) أضواء على القضية الفلسطينية، من منشورات الحزب الشيوعي العراقي، أب ١٩٤٨.
(١٨) صحيفة القاعدة عدد رقم ١١، عام ١٩٦٣م.
(١٩) قدري قلعجي: المرجع السابق، ص١٥٦.
(٢٠) صحيفة صوت البروليتاريا ٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ١٩٤٨م.
(٢١) المرجع نفسه، ٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ١٩٤٨.
(٢٢) صحيفة صوت البروليتاريا، ٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ١٩٤٨.
(٢٣) صحيفة صوت البروليتاريا، ٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ١٩٤٨.
(*) أنظر: نهاد الغادري: التاريخ السري للعلاقات الشيوعية الصهيونية، قدري قلعجي: تجربة عربي في الحزب الشيوعي، أنور الجندي: هزيمة الشيوعية في عالم الإسلام.