الورقة الأخيرة
[رب ضارة نافعة]
إسماعيل بن سعد بن عتيق
لقد كادت أن تنكشف شمس كوسوفا، وعلا سماءها قتر، بل ريح صر زج
بها الغرب في حلبة الحروب لتحقيق أغراضهم البعيدة ومراميهم التي تهدف إلى
إزالة معالم الإسلام من بلدان البلقان، وإن كان في الظاهر نَجْدةًَ ونُصْرَةً تحدوها
الإنسانية وتدعو إليها الوثائق الأوروبية بما يسمى بالحلف الأطلسي أو الناتو. لقد
تحقق الضرر وانكشف الستر، وأعطى الغرب العالم الإسلامي درساً لا يُنسى؛ ولكنه درس من وراء حجاب يستره دهاء السياسة ومكر الغرب وأعوانه؛ فنقول: (رب ضارة نافعة) . لقد هرع المسلمون لرفع الأكف بالضراعة إلى رب الأرض والسماء أن يرفع عن إخوانهم الحزن والأسى، فكانت رابطة دينية وعروة روحانية تربط الشرق بالغرب يدفعها الإيمان بالأخوة الإسلامية بمثل قوله تعالى: [إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ] [الحجرات: ١٠] . وقوله عليه الصلاة والسلام: ... (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) [١] .
عرف الناس كوسوفا ودول البلقان وكانت من قبل ضمن يوغسلافيا الشيوعية
النصرانية، فكان في هذا الإعلام الذي تابعته الصحافة الإسلامية وانطلقت به
حناجر الخطباء وأئمة المساجد ما يعرِّف الناس بإخوانهم ويدعوهم إلى البذل
والعطاء، ولقد جاد من جاد بإنفاق ماله في سبيل نصرة إخوانه، بل وغامر من
غامر في التوجه إلى مواقع الحرب ومنطلقات الصواريخ ليستقبلوا إخوانهم
المشردين بالغوث والنجدة وتخفيف مصابهم. ونقول مرة أخرى: (رب ضارة
نافعة) فقد تبين للعالم الإسلامي مدى مكر أولئك، وما يمكرون إلا بأنفسهم وما
يشعرون.
وإننا لنذكِّر المسلمين بمبدأ الولاء والبراء الذي حدده القرآن، وطبقه محمد
صلى الله عليه وسلم وصحبه، ونذكِّر أفراد المسلمين وجماعاتهم بأن الكفر ملة
واحدة، وأن الولاء والبراء من أصول هذا الدين وقواعده العظام لقوله تعالى: [لا
تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ولَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ] [المجادلة: ٢٢] . وقوله تعالى: ... [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً ودُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ومَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ] [آل عمران: ١١٨] .
وإن صور الولاء متعددة الأشكال متنوعة الأطراف؛ فهناك الولاء بالكلمة،
والولاء بالمحبة، والولاء بالإعجاب، والولاء بالهيبة والاحترام، والولاء بالتحدث. لقد عد بعض العلماء مناولة القلم أو المحبرة للكافر نوعاً من أنواع الولاء، وإذا
كان المستعمر الغربي القديم قد انحسرت سلطته المباشرة على العالم الإسلامي فإنه
لازال يهيمن على المسلمين إدارةً وفكراً وقوةً عسكرية بحكم ما أُعطوا من أسباب
القوة ومظاهر التمكين؛ فهل يستطيع العالم الإسلامي أن يُنقِذ نفسه، وتعود له
القيادة على مقومات حياته؟ وبهذه المناسبة أذكر حالتين لزعماء ساسة: أحدهما
مسلم، والآخر هندوكي.
فأما المسلم: فهو جمال الدين الأفغاني حين أُعد له مهرجان خطابي في الهند
ظناً من الناس أنه سيتكلم ويأتي بكل معجزة من أجل الاستقلال ومحاربة الإنجليز،
فصعد جمال الدين المنبر وحيَّا الجماهير ثم قال: (كم عدد الإنجليز؟ فعدُّوهم
بالملايين، ثم قال: وكم سكان الهند؟ فعدوهم بمئات الملايين، فقال: لو كنتم ذباباً
لآذيتموهم) ثم نزل عن منصة الخطابة وقد أحدث هذا القول دوياً وحماساً في كراهة
الإنجليز وردد الناس: لو كنا ذباباً لآذيناهم.
أما الموقف الثاني: فهو للزعيم الهندي غاندي حينما ذهب لعصبة الأمم ومعه
مغزله وعنزه، وقد صعد المنبر وقال لهم: (لا نستطيع أن نقاوم الغرب، بل ولا
نقاوم الإنجليز، بل ولا دولة أقل منهم في أوروبا؛ لكنني سأعتمد على مغزلي،
وأنسج من صوف هذه الماعز ثوباً، وأشرب من لبنها ولا حاجة لي في مصانع
الغرب ومنتجاتها، ولو أُهديت لي أو بُذلت بالمجان)
وعاد إلى الهند وهو يعلن هذا المبدأ: مبدأ الولاء للصناعة الهندية، ومبدأ
البراء من الصناعة الأوروبية؛ فكانت المصانع الإنجليزية في الهند تغلق كل يوم
فلا تُطلب بضائعها ولا تلقى مشجعاً لها، وبهذا ارتفع كابوس الإنجليز عن الهند بعد
استعمار زاد على ٣٠٠ عام.
فهل لنا أن نعيد الصورتين: صورة القدوة على أننا بشر نحب ونبغض،
ونوالي ونعادي، ونتحكم في مواردنا؟ وهل لنا أن نقول لمن عاش في ترف
منتجات الغرب من مراكب فارهة ومظاهر خداعة: اتق الله في مالك ولا تنفقه إلا
فيما دعت الحاجة إليه؟ ونكرر: (رب ضارة نافعة) .
لقد عرف المسلمون حق المعرفة أنه لا مناص من اللقاء والمصارعة لتيارات
أجنبية متى أخذ المسلمون حرياتهم وانطلقوا يعلنون عن مبادئهم؛ فإن الحياة صراع، وهي من حكمة الباري تبارك وتعالى إذ يقول: [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم
بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ
اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] [الحج: ٤٠] .
كرروها معي: (رب ضارة نافعة) . وفَّق الله الجميع لما فيه خير أمتنا،
وألهمنا رشدنا، ووقانا شر أنفسنا، وصلى الله على محمد وآله وصحابته.
(١) رواه مسلم، ح/ ٤٦٨٥.