للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ملفات

فلسطين.. نزف مستمر وعطاء دائم!

[اغتيال أحمد ياسين بين السياسة الأمريكية والشارع العربي]

محمد سليمان أبو رمان

في الوقت الذي كانت فيه العواصم الغربية تشهد مسيرات كبرى في الذكرى

السنوية الأولى للغزو الأمريكي للعراق خرجت مسيرات محدودة في العواصم

العربية على استحياء، وقد فاقت قوات الأمن في بعض هذه العواصم أعداد

المتظاهرين. إلاّ أنه بعد أيام قليلة فقط لم تكد تمضي ساعات على ارتكاب شارون

جريمته باغتيال الشيخ أحمد ياسين حتى تحركت الشعوب العربية، وانتفضت

القوى الشعبية، وغُصت الشوارع والطرقات بالمتظاهرين والغاضبين في مختلف

أقطار العالم العربي والإسلامي، وعادت لغة الوعيد والتهديد على لسان الجميع من

مختلف الشرائح الاجتماعية. حتى إن هذه الجريمة كما يرى رشيد الخالدي (مدير

معهد الشرق الأوسط في جامعة كاليفورنيا) أغضبت واستفزت كثيراً من الناس

غير المهتمين بتطور الأحداث في فلسطين. وتشير التقارير الإعلامية أن كثيراً من

المدن العربية لم تشهد مسيرات غاضبة منذ فترة طويلة كما شهدت على أثر اغتيال

ياسين. بكلمة موجزة: أيقظت جريمة شارون الشارع العربي بأسره [١] .

بيد أننا إذا حاولنا قراءة عملية الاغتيال من زاوية القدرات الأمنية والعسكرية

الإسرائيلية فإنها لا تشكل أية قيمة حقيقية؛ فأحمد ياسين شيخ كبير في السن مقعد،

يتحرك بين الناس بمنتهى الحرية بلا احتياطات أمنية حقيقية تذكر، وهو عاجز

حتى عن الدفاع عن نفسه جسدياً، ولا تشكل عملية «اصطياده» هدفاً عسكرياً ذا

قيمة. ناهيك أن الشيخ ياسين ليس له أي دور عسكري، ومن هنا: فإن اغتياله لن

يوقف العمليات العسكرية ولن يؤثر على قدرات جناح عز الدين القسام، ولن يؤثر

كذلك على صنع القرار داخل الجهاز السياسي لحركة حماس. في المقابل فإن الأثر

الواضح لهذه الجريمة هو استفزاز الشارع العربي وتفجير غضبه، ومزيد من

الإحراج للولايات المتحدة أمام الشعوب العربية. وهنا يكمن جوهر الموضوع الذي

نريد مناقشته: فهل أسقط شارون من حساباته نهائياً الجماهير العربية، ولذلك فهو

لا يعبأ أبداً بمشاعر الغضب وأصوات الوعيد التي تصدر من هذا الشارع؟ وهل

ارتكب حماقة كبرى باغتياله شيخ الانتفاضة، أم أنه مدرك أكثر من غيره بكثير

لطبيعة هذه الشعوب، وأنها لا تزيد عن كونها «ظاهرة صوتية» ؟ هل فعلاً

الشارع العربي لا «قيمة سياسية عملية» له على صعيد الصراع مع الكيان

الصهيوني؟

الأسئلة السابقة تقودنا إلى تناول رؤية الإدارة الأمريكية المتطابقة مع رؤية

حكومة الليكود الصهيونية لأهمية الشارع العربي ودوره في الحياة السياسية،

وتحليل هذه الرؤية وأسبابها ثم مناقشتها على ضوء المؤشرات الواقعية،

والاحتمالات المستقبلية.

* العرب لا يفهمون غير لغة القوة:

يصعب تناول رؤية الإدارة الأمريكية للشعوب العربية ولأهمية الرأي العام

العربي دون التطرق إلى المحافظين الجدد وعقائدهم الجديدة، والذي يعنينا في هذا

المجال هو التحالف الوثيق بين المحافظين الجدد وبين الليكود الإسرائيلي، وتعانق

الأساس الأيديولوجي لكلا الطرفين، والذي تعمق بشكل أكبر مع أحداث الحادي

عشر من أيلول وإعلان الإدارة الأمريكية ما يسمى بـ «الحرب على الإرهاب» ؛

إذ حدثت عملية «إدماج» لمصادر التهديد لكل من الكيان الصهيوني والولايات

المتحدة، واعتبرت حركات المقاومة في فلسطين على الصعيد الرسمي الأمريكي

حركات إرهابية تمثل تهديداً لأمن الولايات المتحدة ومصالحها في المنطقة. من هنا

تم إضفاء المشروعية على عمليات الاغتيال والإرهاب التي تمارسها حكومة الليكود

ضد القيادات الفلسطينية، في نفس الوقت الذي مارست فيه الولايات المتحدة

ضغوطاً شديدة في سبيل تجميد الدعم المالي والمعنوي الذي تتلقاه هذه الحركات من

الخارج [٢] .

السياسة الأمريكية السابقة أثارت جدلاً داخلياً بين النخب الفكرية والمثقفة

الأمريكية؛ إذ ذهب اتجاه من المحللين والمثقفين إلى أن تواطؤ الإدارة الحالية مع

حكومة شارون وتغاضيها عن كثير من سياسات الليكود التي ضربت عملية السلام

في الصميم سيؤدي إلى مزيد من مشاعر الغضب والكراهية ضد الولايات المتحدة

ومصالحها في المجتمعات العربية، وسيزيد من مصادر التهديد في المنطقة وربما

في العالم بأسره. في حين ذهب اتجاه آخر إلى أن الشعوب العربية تحمل ابتداءً

موقفاً عدائياً من الولايات المتحدة، وأنه لا فائدة من محاولة استرضاء هذه الشعوب

لتغيير موقفها من الإدارة الأمريكية، وإنما المطلوب هو تغيير قناعات هذه الشعوب

الذاتية والثقافية، وأن إظهار الولايات المتحدة لقوتها وتفوقها هو الطريق لتغيير هذه

القناعات، ولا بد أن تعرف الشعوب العربية أن الولايات المتحدة «نمر حقيقي»

وليست نمراً من ورق - كما يدّعي قادة تنظيم القاعدة - وإذا كان لا بد أن تكون

الولايات المتحدة «قوة مكروهة» فلتكن ولكنها قادرة وليست ضعيفة.

الاتجاه الثاني هو الاتجاه الذي تتبنى الإدارة الأمريكية تصوراته وآراءه حول

الشعوب العربية وقيمة الرأي العام العربي وأهميته السياسية، ويوضح عدد من

المنظِّرين والمحللين الأمريكيين جوهر هذا التصور وفلسفته؛ إذ يقول فريد زكريا:

«الشيء الوحيد الذي يفهمه العرب هو القوة: هذه هي العقيدة المركزية السائدة

التي تحكم السياسة الخارجية الأمريكية لإدارة الرئيس بوش في الشرق الأوسط،

وهو وصف قديم سوّقه الباحثون التقليديون في شؤون المنطقة، ولكنه يبدو وصفاً

أفضل لإدارة بوش نفسها» [٣] .

ويشرح الباحث الأمريكي لاينتش مارك Marc Lynch هذه الرؤية

والافتراضات الفكرية التي تقف وراءها في مقاله (التعامل مع العرب بجدية) إذ

يقول: «إن أحد المفاتيح الرئيسة لفهم الشرق الأوسط كما يرى الصقور في إدارة

بوش هو قول أسامة بن لادن بأن الناس يندفعون أفواجاً خلف الجواد القوي؛ حيث

يعتقد المسؤولون في إدارة بوش بأن مشكلات الولايات المتحدة أساساً ترجع في

جزء كبير منها إلى ضعف رد أفعال الإدارات السابقة تجاه الهجمات الإرهابية في

الثمانينيات والتسعينيات، وبأنهم قد جاؤوا للسلطة وهم مصممون على إعادة احترام

القوة الأمريكية خارجياً» [٤] ، ويرى مارك - وهو معارض لهذا الاتجاه - أن

الإدارة الأمريكية قد بنت رؤيتها على عدة افتراضات خاطئة حول الشعوب العربية،

منها افتراض أن العرب يحترمون القوة ويحتقرون أي علامات تدل على الضعف،

ولذا فالطريقة المناسبة للتعامل معهم أن تدفعهم إلى الخضوع والإذعان. وافتراض

آخر هو أن الرأي العام العربي ليس له شأن؛ لأن الدول السلطوية تتجاهله.

وافتراض قديم ما يزال قائماً وهو أن الغضب من الولايات المتحدة يمكن بل يجب

التغاضي عنه وإهماله؛ لأن جوهر هذا السخط يرجع إلى الثقافة العربية أو

الإسلامية التى تقوم على الحقد على الولايات المتحدة، وهذا يمثل حقد الضعيف

المخفق على القوي الناجح، أو ربما ببساطة شديدة هو من صنع القادة العرب غير

المحبوبين من شعوبهم؛ وذلك لصرف الانتباه عن عيوبهم الشخصية [٥] .

ويعزز افتراضات مارك السابقة مقال لفؤاد عجمي في مجلة (الشؤون

الخارجية Policy Foreign) بعنوان «زيف العداء لأمريكا في العالم» حول

أسباب الكراهية المتزايدة للولايات المتحدة في كثير من أنحاء العالم؛ إذ ينفي أن

تكون السياسة الخارجية الأمريكية هي السبب، وإنما تكمن أسباب الكراهية في

كثير من الأحيان في المشاكل الداخلية أو في الحقد والحسد تجاه التفوق والقوة

الأمريكية [٦] .

وقد تشرّبت القوات الأمريكية المحتلة للعراق هذه الرؤية العنصرية ضد

العرب والمسلمين؛ إذ يرصد الخبير الأمريكي ستيفن زونز Zones Stephen

في مقالته (العراق بعد عام) جملة من التصريحات والمواقف التي تكشف عن

تغلغل هذه الرؤية لدى القادة والجنود الأمريكان؛ فأحد القادة في قوات الاحتلال

الأمريكي في العراق يصرّح أنه «بقدر كبير من الخوف والإرهاب، وبكثير من

المال أعتقد أننا نستطيع إقناع هؤلاء الناس أننا هنا لمصلحتهم» ، ويصرّح تود

براون Brown Todd أحد القادة العسكريين كذلك لصحيفة نيويورك تايمز قائلاً:

«يجب أن تفهم العقل العربي، الشيء الوحيد الذي يفهمه هو لغة القوة» ، ووفقاً

لزونز فإن القوات الأمريكية في العراق تستعين بمستشارين إسرائيليين لقمع

المقاومة الشعبية العراقية، كما يذهب عدد من القادة العسكريين الأمريكان إلى

الأراضي الفلسطينية المحتلة ليراقبوا عن قرب الطريقة الإسرائيلية في قمع

الانتفاضة وضرب المقاومة العسكرية [٧] .

وتعزز كثير من مراكز الدراسات والأبحاث الأمريكية المرتبطة بالمحافظين

الجدد واللوبي الصهيوني الرؤية السابقة تجاه الشعوب العربية وثقافتها وأهميتها؛

إذ يصوغ ألكسندر جوفي أحد الخبراء الأمريكيين نظرية البيسيبول والنافذة

المكسورة Windows Broken and Baseball في التعامل مع الشعوب

العربية، وبالتحديد الشعب العراقي؛ إذ يرى أن محاولة الولايات المتحدة كسب

الشارع العراقي يجب ألاّ تكون بطريق ودي قائم على الاسترضاء، وإنما من خلال

تغيير أصول المجتمع العراقي الثقافية [٨] .

ولعل رؤية جوفي السابقة تقودنا إلى نتيجة مهمة ترتبط بسعي الولايات

المتحدة إلى إرغام المجتمعات العربية بالقوة على التسليم بالهيمنة الأمريكية، وهو

الأمر الذي توظف له الولايات المتحدة كثيراً من جهودها من خلال كثير من

الأدوات الإعلامية والثقافية والاقتصادية التي انتقلت إلى مخاطبة المجتمعات العربية

والأهلية من خلال ما يسمى بـ «الدبلوماسية الأهلية» ، وتعتمد الإدارة الأمريكية

في تعاملها مع الشعوب العربية على تقسيم الخبير الأمريكي جوزيف ناي القوة

الأمريكية إلى قسمين: القوة الصلبة Power Hard والمتمثلة بالجانب العسكري

والقوة الرخوة أو الناعمة Power Soft والمتمثلة بالنموذج الثقافي والاجتماعي

الأمريكي، ومن ثَم فهي تستخدم هذين النوعين في التعامل مع الشعوب والمجتمعات

العربية، والمحصلة العامة هي العمل على تغيير قناعات الشعوب ومواقفها من

الولايات المتحدة ليس من خلال تغيير السياسة الخارجية الأمريكية، وإنما من خلال

القوة الأمريكية الصلبة أو الرخوة.

وبناء على التصور السابق تتوقع كثير من المقالات والدراسات في الولايات

المتحدة والعالم العربي أن احتلال العراق وسقوط بغداد سيكون بداية لمرحلة جديدة

للحياة السياسية العربية، وسيؤدي إلى تغير في طبيعة الشارع العربي وتوجهاته

السياسية، وطبيعة المُناخ الثقافي السائد؛ إذ ستتخلى هذه الشعوب كما يرى محمد

الجاسم بعد سقوط صدام عن الشعارات المثالية السابقة (والتي كانت بمثابة مخزن

الخيال السياسي العربي) وستتجه الشعوب العربية إلى الواقعية السياسية والقضايا

الداخلية المرتبطة بالفساد السياسي والأزمات الداخلية، خاصة بعد تحجيم القضية

الفلسطينية في بُعدها الفلسطيني - الإسرائيلي، وزوال منطق «الأزمة» الذي

كانت تتعامل من خلاله الأنظمة العربية مع شعوبها، وهذا وذاك سيؤدي إلى تغير

حقيقي في توجهات الشارع العربي واهتماماته [٩] ، والنتيجة السابقة يصل إليها

كذلك الخبير الأمريكي مارتن والكر في مقالته (بعض الأفكار على النصر Some

Victo on Thoughts) أن الانهيار السريع للعراق ولنظام صدام ونجاح

التحالف الأنجلو ساكسوني الذي يقود العراق حالياً بالوصول بالبلد إلى الاستقرار

والتقدم سيؤدي إلى مستقبل بديل للشعوب العربية يقوم على أنقاض الثقافة المنهارة

مع سقوط بغداد [١٠] .

* الشعوب العربية بين الاحتلال الخارجي والاستبداد الداخلي:

بلا شك فإن التصور الأمريكي السابق ينطوي على رؤية تحتقر العرب

وتزدريهم، ولا تلقي بالاً للرأي العام العربي ولا لدوره أو أهميته، وهذا يقودنا إلى

الأسباب والعوامل التي تقف وراء هذا التصور.

هناك أسباب دينية وتاريخية معروفة وراء هذه «الصورة الذهنية» المتحيزة

ضد العرب والمسلمين، وقد تحدّث عدد كبير من الباحثين والمتخصصين حول هذا

الأمر، ومن أبرزهم إدوارد سعيد الذي فكك وشرّح الرؤية الاستشراقية القائمة على

(شيطنة) العرب والمسلمين في التصور الثقافي الغربي العام.

كذلك هناك دور اللوبي الصهيوني وتأثيره على النخب السياسية والإعلامية

والثقافية الأمريكية، يضاف إلى ذلك ما يصفه الباحث منار الرشواني بـ «خلق

خصوصية الإنسان العربي» في الرؤية الغربية، بمعنى: نزع صفة الإنسانية عنه

وتجريده من حقوقه السياسية؛ وذلك بفعل الفلسفة الموروثة والحاكمة في الحياة

الثقافية الغربية عموماً والأمريكية خصوصاً التي تمجد الغرب ونرجسيته، وتُسقط

على شعوب الشرق طابع الهمجية والبربرية.

ويرصد الرشواني عدة نصوص فكرية لمجموعة من رواد الفكر الغربي

- الذين نظَّروا عن الديمقراطية والحرية: امثال ستيوارت مل، ومونتسكيو،

وتوكفيل - تظهر هذه النزعة في احتقار الإنسان العربي والتقليل من شأنه ومن

كرامته [١١] .

بيد أن هناك كثيراً من الأسباب العملية - التي تعزز الأسباب التاريخية

والدينية السابقة - تقف خلف الرؤية الأمريكية السابقة تجاه الشعوب العربية، يتمثل

أبرزها في الخبرة الواقعية في علاقة هذه الشعوب بحكامها والأنظمة السلطوية

القمعية التي تحكمها؛ إذ إنه على الرغم من الوضع المأساوي الكبير الذي وصلت

إليه الشعوب العربية بفعل الاستبداد والفساد السياسي، إلاّ أنها لم تجرؤ على

التظاهر ضد حكوماتها، وكلما حاولت ذلك استخدمت الحكومات معها سياسة

«العصا» وأجبرتها على الخنوع مرة أخرى، وعلى الرغم من غياب أسس

الشرعية لأغلب الحكومات العربية فإنها باقية ومستمرة من خلال القوة والإرهاب،

وليس من خلال اقتناع الجماهير؛ ولذلك فمهما كانت مواقف الشارع العربي

ومشاعره، فإن اللغة الوحيدة التي يفهمها هي لغة القوة والخوف.

كما أنه لا داعي للقلق من ردة فعل الرأي العام والشارع العربي، طالما

يستطيع الناس في كثير من دول العالم الغربي التظاهر والخروج بمسيرات والتنديد

بجرائم إسرائيل وبالسياسة الخارجية الأمريكية، بينما لا يستطيع العرب التظاهر

في الشوارع العربية احتجاجاً على السياسة الأمريكية أو الجرائم الصهيونية.

كيف يراد لكل من الحكومتين الأمريكية والإسرائيلية أو الحكومات الغربية

احترام الرأي العام العربي أو حتى كرامة المواطنين العرب وحرمة دمائهم ونفوسهم

والحكومات العربية لا تقيم لها وزناً يذكر؛ وهذا صدّام حسين كم داس رقاباً من

الناس، وكم أذل شعبه وأوصله إلى حال بائس، ولم يستطع الشعب الخلاص منه

إلاّ بعد تدخل القوات الأمريكية وإزالة حكمه بالقوة.

بالفعل: ما قصة الشارع العربي؟ كم هو حجم التحديات الكبرى التي تعصف

به، وكم هي الأحداث الكبيرة التي تلم به، وكم هو فاسد الواقع الذي آل إليه إلاّ أنه

لا يستطيع تغييره؟ فهل فعلاً أصاب شارون في حساباته بإخراجه الجماهير

والشعوب العربية من دائرة الصراع؟ وهل صدقت الرؤية الأمريكية في أن

الشعوب العربية عاجزة ولا تفهم غير لغة القوة؟ وهل الرأي العام العربي بلا

«قيمة سياسية فعلية» تذكر في موازين وحسابات الصراع؟!

ماذا فعلت الجماهير والقوى السياسية العربية إزاء كل جرائم شارون والصلف

الأمريكي غير الخروج بمظاهرات ومسيرات سرعان ما تنتهي، وتزول حالة

الغضب ويعود الناس إلى حياتهم الطبيعية؟ بينما تمر الأحداث من حولهم دون أدنى

قدرة على مواجهتها على قاعدة: «أوسعناهم شتماً وذهبوا بالإبل» . هذه

التساؤلات هي محور نقاشنا القادم.

* الشارع العربي: آفاق مستقبلية:

أثبت الشارع العربي أنه موجود، وله موقفه تجاه أغلب الأحداث الجسام التي

مرت بها الأمة الإسلامية في السنوات الأخيرة، وفي اللحظة التي كان يتصاعد فيها

الجدل وتتضارب الآراء حول «نعي» هذا الشارع وموته، لا يلبث الجدال أن

يتوقف على هدير وأصوات الجماهير الغاضبة من فاس إلى المنامة، على الرغم

من حجم الإحباط الكبير الذي يسود الناس، وعلى الرغم - كذلك - من سيف الأمن

المسلّط على رقاب العباد.

بيد أن المشكلة لا تتمثّل في مدى استعداد وقابلية الرأي العام العربي للتغيير،

والانتقال من موقع الشهادة غير المؤثرة على الأحداث السياسية إلى ساحة الفعل

التاريخي الفاعل والمؤثر، والذي يحسب الجميع حسابه.

إن جوهر المشكلة يكمن في غياب تقاليد الحركة الشعبية عن الجماهير والقوى

العربية، وعجز «النخب المثقفة» وقيادات الحركات السياسية الشعبية عن صوغ

استراتيجية عملية تنقل لحظات الغضب والانفعال والطاقة الكامنة داخل هذه

الشعوب إلى مراحل وخطوات منهجية تقوم على تصور عملي وآليات تنقل هذا

التصور إلى حيّز التطبيق.

ولنا في التجربة الأوروبية المعارضة للحرب الأمريكية على العراق

والمتعاطفة مع قضايا العالم الإسلامي مثال على تحول المواقف الانفعالية إلى

تصورات ومؤسسات وآليات عمل تطبيقية؛ فقد تشكلت مجموعة كبيرة من

المؤسسات الفاعلة والمؤثرة في الغرب، التي تسعى إلى ديمومة التأثير على الرأي

العام العالمي ضد السياسة الخارجية الأمريكية، وإيجاد وابتكار العديد من الأساليب

والآليات التي تكشف عن الجرائم الامريكية، وتؤثر في توجهات الشارع الغربي،

ولعل الملاحظة التي يرصدها خالد الحسن (رئيس تحرير مجلة العصر الإلكترونية)

حول تجربة اليسار الأوروبية تقدّم مثالاً لاتجاه من اتجاهات التطور المطلوبة في

الحركة الشعبية العربية؛ إذ يتحدّث خالد الحسن عن هذه التجربة قائلاً: «هؤلاء

كتبوا وكتبنا، وتحركوا وتحركنا، وقادوا حملات توعية، وبادرنا بها في ديارنا

أيضاً، لكنَ» النضال «لم يتوقف عندهم في حدود تسجيل الموقف وإبراء الذمة،

وإنما أسسوا لهم منابر ومنتديات، وصنعوا لهم تياراً عارماً وتوجهاً واضح المعالم،

وأكثر من هذا وذاك: حددوا لهم آلية للحراك والنشاط؛ وهذا ما ينقصنا؛ فمن بيننا

كتاب متألقون ومتحدثون مؤثرون ومفكرون نبغاء وعلماء عاملون ومصلحون..

لكننا توقفنا عند حدود البيان والتوعية، وحتى القلة القليلة التي خرجت للأمة

بمشروعات وإن غطَت جوانب مهمة من مناطق الوعي والتوجيه، لكنَها اكتفت

بتوضيح المسالك وقواعد السير، وأمام» الفتوحات «الأمريكية للقارات، والتحكم

في مناطق الضخ يبرز مجال أوسع وأعمق في مهمة المفكرين والمصلحين والكتاب

والفاعلين والقوى الحية في الأمة، وهو رفع مستوى التحدي ومواجهة استراتيجيات

الهيمنة والسيطرة ليس ببث الوعي المجرد والأعزل فقط، ولكن أن نؤسس لوعينا

ولتصوراتنا مؤسسات ومنتديات تتابع الخطط وتكشفها وتميط اللثام عن

الاستراتيجيات وترسم خطوط المواجهة الشاملة للأمة. إن أوقاتنا الراهنة لا يصح

فيها تسجيل موقف والتوقيع على بيان إبراء للذمة وإعذاراً إلى الله، وبعدها يرجع

كل منا إلى عرينه يستأنف مسيرة الوعي المجرد!» [١٢] .

على النقيض من كثير من التصورات التي تحاول إجهاض دور الشارع

العربي، وأهميته، فإن المؤشرات على واقع هذا الشارع مستقبلاً تبدو إيجابية إلى

أبعد مدى، وفي الوقت الذي يشهد فيه النظام الرسمي العربي بشقيه الإقليمي

والقطري حالة من «أزمة الشرعية المزدوجة» التي تبشر بأفول هذا النظام

وانقطاع عهده، فإنّ بوصلة المستقبل تتجه إلى الشعوب العربية التي أثبتت أنها

تجاوزت في وعيها النضالي حالة الأنظمة العربية؛ إذ إنه في مقابل السقوط المريع

للنظام العربي في التعامل مع إدارة أزماته الداخلية في الحكم والتنمية وفي مجابهة

الأخطار الخارجية المتمثلة في الاحتلال، فإن الشعوب العربية تتغلب دوماً على

أوضاعها وتتفاعل مع شروط حركتها وتنتج مقاومة فاعلة ضد الاحتلال كما هو

الحال اليوم في فلسطين والعراق [١٣] .

وربما نجد في الدرس العراقي مثالاً لإرادة الشعوب العربية؛ إذ إن الشعب

العراقي استطاع خلال أيام معدودة تجاوز الميراث المدمر لحقبة حكم صدام حسين،

وانتفض على جراحه وآلامه، وقام بتشكيل مقاومة مسلحة، لم تكن أبداً المصادر

الأمريكية تتوقع جزءاً منها، ومع مرور الوقت فإن المقاومة العراقية تزداد عمقاً

وتوغلاً في النسيج الاجتماعي والثقافي العراقي، وتتطور في أدائها وقدراتها،

ولذلك [في رأيي الخاص] إذا أراد الأمريكان أن يحكموا على أهمية الشارع

العربي وطبيعة الشعوب العربية فما عليهم إلا تلقي الدرس من المقاومة العراقية

والفلسطينية، والتي يسجل لها خبراء أمريكيون من الآن أنها تظهر أن لغة القوة

المزعومة لا تؤدي إلاّ إلى زيادة إصرار الشعوب على المقاومة والجهاد. ولم

تسعف خبرة الكيان الصهيوني وجنرالاته الفاشلة في التعامل مع المقاومة الشعبية

العربية لم تسعف القوات الأمريكية في مواجهة قدرات مبتكرة من قِبَل الشعب

العراقي في أساليب المقاومة والقتال وتكبيدهم خسائر فادحة.

إنّ الملاحظة السابقة تقودنا إلى موضوع مهم حول مستقبل الحركة الشعبية

العربية، وهي أنّ الحركة الشعبية نجحت في تخطي كثير من المعوقات وإثبات

ذاتها في ميادين الصراع المباشر والمكشوف مع الاحتلال، لكنها إلى الآن عاجزة

عن القيام بنفس الشيء على صعيد التغيير السياسي والجهاد المدني السلمي، وهنا

تبدو الحاجة الماسة إلى دور العلماء والنخبة الدعوية في استثمار المُناخ الشعبي العام

الساعي إلى التغيير؛ فالشروط النظرية والتاريخية للتغيير السياسي متوافرة ولا

تحتاج سوى إلى رؤية عملية وخطوات منهجية للانتقال إلى حالة سياسية عربية

جديدة تحطم فيها الجماهير العربية الرؤية الأمريكية المتمثلة بأنّ «الشارع العربي

مجرد وهم» ولا حقيقة مؤثرة له في الواقع.

ومما يبشر بالإضافة إلى ما سبق بمستقبل فاعل وجديد للحركة الشعبية العربية

التطور الكبير في دور مؤسسات الإعلام والمجتمع المدني، وتقلص دور السلطة

وهيمنتها على الحياة السياسية والاقتصادية والرمزية، وهو الأمر الذي اعتبره عدد

من المنظرين العالميين الكبار انتهاء عصر الدولة القومية (التي تشكلت على أثر

معاهدة وستفاليا عام ١٦٦٨م) بل وتغير في مفهوم الدولة ذاته، ومن ثَم زاد الوعي

الشعبي العربي، واتسعت مساحة الحرية والتعبير - من خلال الشبكات

والاتصالات والمؤسسات الجديدة - ولم تستطع حتى أكثر الدول انغلاقاً ممانعة هذه

الموجة الجديدة، وفقدت كثير من النظم القطرية العربية كثيراً من قدراتها في التأثير

على الرأي العام وتحديد قوته ودوره، واضطرت للسماح للمؤسسات غير الحكومية

ومؤسسات المجتمع المدني بممارسة دور كبير بضغط من الخارج والداخل، وهو ما

يعني منطقياً تقليص أهمية مؤسسات السلطة وخطورتها.

إن جريمة اغتيال الشيخ أحمد ياسين تلفت انتباه العلماء والدعاة العرب

والمسلمين، وتوجه القوى السياسية والشعبية إلى عدم الاكتفاء بمنطق المسيرات

والمظاهرات ورفع الأصوات، وإنما بضرورة قراءة اللحظة التاريخية الراهنة التي

تبشر بمولد جديد للحركة الشعبية، إن أحسنت هذه النخب قراءتها واستثمارها

وتقديم الرؤية الشرعية المستمدة من عقيدة الأمة التي تنتظرها الشعوب المتلهفة

للتغيير والخروج من هذا الواقع البائس.


(١) انظر: برايان برايكر، (غاضبون أكثر من أي وقت مضى) ، مجلة News Week، النسخة العربية، ٦/٤/٢٠٠٤م.
(٢) انظر: حول المحافظين الجدد وتوجهاتهم السياسية والفكرية، وتحالفهم مع الليكود: أميمة عبد اللطيف، المحافظون الجدد خرائط الفكر والحركة، دار الشروق الدولية، القاهرة، ط ١، ٢٠٠٣م.
(٣) انظر: فريد زكريا، المهمة الأولى: حلوا المشكلة السنية، News Week، النسخة العربية، ٢٥/١١/٢٠٠٣م، ص ٢.
(٣) انظر: فريد زكريا، المهمة الأولى: حلوا المشكلة السنية، News Week، النسخة العربية، ٢٥/١١/٢٠٠٣م، ص ٢.
(٤) انظر:
Lynch Marc, Taking Arabs Seriously, Foreign Affairs, October ٢٠٠٣.
(٥) انظر: ibid.
(٦) انظر: مجلة Foreign Policy، النخسة العربية، اكتوبر ٢٠٠٣م.
(٧) انظر:
Steven Zones, Iraq one Year Later, Foreign Policy in Focus ,
www.FPIF.org
(٨) انظرمقاله في:
The Journal of International Security Affairs, Winter٢٠٠٣, ٥-١٥,
www.jinsa.org
(٩) انظر مقاله في مجلة News Week، النسخة العربية، ١/١٠/٢٠٠٢م..
(١٠) انظر مقالته في مجلة:
The Journal of International Security Affairs, Summer ٢٠٠٣ ,
www.jinsa.org
(١١) انظر: منار محمد الرشواني، خلق الخصوصية وحقوق الإنسان العربي، مجلة المستقبل العربي، ١/٢٠٠٤، ص ٨٢ - ٩٩.
(١٢) انظر: محمد سليمان، الشارع العربي هل مات؟!
www.islamtoday.net
١٩/٣/٢٠٠٣م.
(١٣) انظر: محمد سليمان، أفول النظام الرسمي العربي: الجامعة العربية إصلاح أم إقالة؟
www.alasr.ws.