مذكرات قارئ
[كتاب الوسادة]
بقلم:محمد بن حامد الأحمري
قرأت في مقالة لطه حسين: أنه كان يتخذ كتاباً سهلاً يسيراً، يقرأ فيه قبيل
النوم على طريقة المثقفين فيما يسمونه كتاب الوسادة، وأعجبتني الفكرة، فتناولت
كتاباً قبيل النوم بقصد أن يجلب لي النوم، وبعد ليلة أو ليلتين ثبت لي جدوى الفكرة
وسرعة تَأَتّي النوم، وما هي سوى بضعة أيام حتى وجدتني أسقط نائماً بعد أسطر
من قراءة أي كتاب في أي وقت، قبل النوم أو بعده، مساءً أو صباحاً، وأصبح
الكتاب عقاراً منوماً أقوى من أي منوّم، وتذكرت صديقي الذي طالما كنت أسخر
من تنويم الأسطر له، فقد كان تلازم الكتب والنوم عنده مثار النكته والسخرية،
وكان خفيف الظل خلوقاً مبتلى بالنوم أول ماتقع عيناه على الأسطر، وقد كان
بعض زملائه (العيارين) يرقبه عندما يضع بين يديه «فتح القدير» بطبعته
الضخمة الصفراء، وماهي إلا دقائق حتى يميل المجلد الضخم، ويسقط أخونا فوقه
نائماً، ويعود زميله للحديث عن المشهد مساءً.
استحضرت ذلك المشهد مشهد زميلي ساقطاً فوق الكتب (وكان ينجح إذا نجح
على حافة النجاح) وقد عرفته من خير الناس خلقاً وديًنا ورجولة (وفاءً بحقه قلت
هذا) وهو خير مما قلت عنه، وأعلم أنه لن يقرأ هذه الأسطر فهي في وسط
المقال! ! ، وصاحبي لو حاول القراءة فما أراه يصل إلى هنا إلا وقد نام، فلا أظنه يقرأ مدحي له.
فتملكني الخوف من هذه الطريقة الفاشلة في القراءة، وشككت في فكرة كتاب
الوسادة حين أصبح كل كتاب كتاباً للوسادة، وعزمت على ترك رأي طه حسين
آسفاً له أنه لم يناسبني، ومرت أيام فإذا بي أجد أن مارون عبود كان يجعل القرآن
كما زعم كتاباً للوسادة يقرأه قبيل النوم رغم مارونيته وقد زعموا حفظه له، وقد
وجدت من كتبه العديدة حسن استحضاره للآيات، فتيّقنت أنه كان حسن الصلة به،
والله الهادي، لكني لا أعلم أن (أبا محمد) ! ! قد أسلم، وقد كان أولى به هذا، وأن
يتبع سابقه أحمد فارس لشدياق، وكان معجباً به وقد كتب عنه كتاباً.
ومر زمن حتى وجدتني أقرأ للإمام الغزالي نصيحته لطالب العلم بالجد
والعزيمة في القراءة، وألا يستسلم للنوم حتى يقهره ولايجد منه ملجأً، وفرحت
بقول أبى حامد؛ لأنه ناسب هوى في نفسي، وقد كنا جرينا على الاستسلام لكلام
الآخرين وعدم معرفة مناسبة أقوالهم لأحوالنا، وهذا داء دوي للمثقفين في كل مكان
وعصر، إذ هم قطعان هائمة تلحق مقدمها وهو منها كاتب أوشاعر أو مفكر أو
روائي تهيم وراءه بلا عقل، فإياك إياك وأخلاق المثقفين هذه، فإن عقولهم أحياناً
أصغر جدّاً من ثقافتهم، ومعارفهم وقراءاتهم الواسعة هشيم حَصَادهُ للآخرين، أو هم
في سبيل حصاده، أو تلقى فيه شرارة وعي تلتهمه فتتغذى به؛ لأن الثقافة غالباً
مادة لشيء آخر أو هي لاتثمر في فراغ، فلا بد لها من سياق يحتويها أو عمل
تسعى له أو قضية تخدمها، فهي وقود لشيء غيرها، ولا تظهر دون خدمة هدف،
ثم سهرت ليالي مع أبي حامد وغيره كانت أنفع لي من كتاب الوسادة، ومن بعد:
تذكرت [خذ الكتاب بقوة] ، وإنه وإن كان الكتاب في الآية غير الكتاب هنا،
ولكن مبدأ الجد والفاعلية والتجاوب والأخذ والعطاء مع النص هو ماكُتب له الكتاب، وكل كتاب يكتبه الجادون من الناس، والذي غاب عني وقتها أنني كنت قبل
العشرين وكان طه قد نيف على السبعين، وكان لايطيق النوم ولايجد له سبيلاً،
فيتحايل عليه بالقراءة المنومة، وكسل الصبا ونومه كان يدعوني من كل باب للنوم، وشتان شتان بين الحالين، وقراءة الشباب غير قراءة الشيوخ.
ذاك ما كان من حديث كتاب الوسادة، وكان الأولى لي: (خذ الكتاب بقوة)
وخذ ما يناسبك من الحالين أو غيرهما، ولا تلتزم قولي؛ فإن الخلاصة أن لكل
قارىء طريقه، ولي عودة إلى قوة القراءة.