[رسالة إلى الأمة]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين الذي شرفنا الله ـ تعالى ـ فجعلنا من أمته، وبعد:
فمنذ عدة سنوات ازداد زخم التعدي على الإسلام ورموزه وثوابته؛ فقد علم المسلمون بالهجوم الذي يشنه كثير من القادة: الساسة والمفكرين في العالم الغربي على الإسلام ووصفه بصفات جائرة غير حقيقية وغير لائقة، ثم مشاركة العسكريين بالعدوان على بلاد المسلمين، ثم العدوان على المصحف وهو كلام رب العالمين، ثم السخرية من رسول رب العالمين - صلى الله عليه وسلم -. وانتشر ذلك وشاع في العديد من الصحف والمجلات حتى وصل الأمر أن يتطاول كبير النصارى علناً على الإسلام وعلى الرسول الكريم في سابقة غير معهودة في العصر الحديث. وقد قامت الشعوب المسلمة بجهود في التصدي لذلك العدوان ما بين مقاطعات اقتصادية، ومؤتمرات دولية تعلن مناصرتها للإسلام والقرآن والرسول - صلى الله عليه وسلم - والانحياز إلى ذلك انحيازاً تاماً من غير استثناء أو تحفظ، وكل ذلك معلوم للقارئ، ولا جديد فيه، لكن الذي ينبغي أن نفكر فيه وأن نبحث له عن إجابة: ما الذي جرأهم على هذه النقلة في التعامل مع العالم الإسلامي، وإظهارهم للطعن في كل ما يعظمه المسلم ويفتديه بنفسه وماله وولده؟ إنه يهمنا بشكل كبير جداً أن تقف هذه الحملات الغربية الظالمة الجائرة على ديننا الحنيف، وما لم تكن لدينا القدرة على معرفة السبب الحقيقي الذي جرأهم على إظهار ما كانوا يخفونه، والعمل على تلافي ذلك السبب فلن نكون قادرين على وقف تعدياتهم.
ربما يقول البعض: إن السبب في ذلك هو كفرهم وضلالهم وكرههم للإسلام والمسلمين. لكن هذا ليس هو السبب؛ فإن كفرهم وضلالهم وعداوتهم للإسلام أمر قديم ليس بالجديد. وقد يقال: إن السبب راجع إلى تلك الفترات التي غلبت فيها جنودُ الرحمن جنودَ الشيطان واستطاعت أن تنتشل من بين براثن الكفر والضلال شعوباً ودولاً وتُدخِلها في رحمة الله بدخولها في الإسلام، لكن هذا أيضاً أمر قديم.
وقد يكون السبب في ذلك هو قدرة الإسلام على الانتشار في أوساط النصارى في الغرب؛ فهناك دراسات وإشارات واضحة إلى أن الإسلام يكسب كل يوم أرضاً، وخوف النصارى قادةً وساسةً ومفكرين أن يصير الإسلام قوة رئيسة في الغرب في القريب المنظور مما يُؤْذِن بانهيار الغرب النصراني، يجعلهم يسلكون هذا المسلك، وقد يكون هذا سبباً حقيقياً للقلق الذي ينتاب الغرب من ظاهرة الإقبال على الإسلام، ومحاولة الحد منه وفرض القوانين التي تضيِّق على المسلمين هناك؛ إلى جانب التعديات المتكررة من أفراد المجتمع النصراني الغربي، لكنه يبقى مع ذلك سبباً قاصراً عن تفسير انتشار ظاهرة التطاول والجرأة الشديدة التي بدأت تظهر بشكل يلفت الأنظار إليه؛ بحيث صار هذا من الأمور المتكررة وبأكثر من أسلوب وفي دول متعددة وفي مستويات متفاوتة من طبقات المجتمع.
ويتلفت المؤمن يميناً وشمالاً يبحث عن مخرج من هذا المأزق؛ فمنهم من يدعو للقيام بمسيرات سلمية، ومنهم من يطالب بسحب السفراء، ومنهم من يدعو إلى المقاطعة الاقتصادية، ومنهم من يطالب بالاعتذار، ومنهم من ينادي بتعميق الحوار، لكنَّ هناك خياراً مهمّاً أغفله أكثر الناس ولم يتطرقوا إليه.
إن من أعظم الأسباب التي جرأت اليهود والنصارى على إظهار التطاول على ديننا هو ذلكم الضعف الشديد والتخاذل الكبير ـ الناتج من ذلكم الضعف ـ الذي تصر جهات متعددة من الأمة على البقاء عليه والتمسك به بقوة في كثير من المواقف الفاصلة، ويبدو من ذلك واضحاً أن البحث عن مخرج من هذا المأزق مع إهمال التفكير في خيار امتلاك القوة الرادعة والبحث عنها وتملكها فعلاً ـ التي تكون سبباً في مهابة العدو المتربص، وإجباره على الاعتدال في مواقفه من هذا الدين ـ هو من قبيل إضاعة الأمانة.
إن العالم من حولنا بشتى دياناته وعقائده وإمكاناته يبحث عن القوة الرادعة التي تؤمِّن له حريته وقدرته على اتخاذ القرار والحفاظ على خصوصياته، وينفق في سبيلها كرائم الأموال ونفيسها، بل منهم من يحاول بكل ما أوتي من قوة أن يحتكرها لنفسه ويمنع الآخرين من تملكها أو الوصول إلى أسرار صناعتها، حتى يظل متفرداً بالقدرة على مهاجمة الآخرين وإرهابهم، ومن ثم ابتزازهم.
إنه لا ينبغي لنا ـ معاشرَ المسلمين ـ ساسةً وقادةً وعلماءَ ومثقفين، أن يقتصر دورنا ـ في مواجهة الهجمة الصليبية ـ على البحث عما يسمونه (الحلول السلمية) التي تخفي في طياتها ضعفاً واستسلاماً للواقع الأليم؛ فإن هذا وحده لن يؤدي إلا إلى مزيد من التطاول والعنجهية والهمجية.
ولنا أن نتساءل بموضوعية: أكان عُبَّاد الأوثان ـ من الساسة والقادة والأحبار ـ قادرين على التطاول على ديننا لو علم هؤلاء أن للمسلمين قدرة على معاقبتهم وتأديبهم التأديب الموجع؟
إن المجتمع الدولي اليوم لم يعد يهتم بالضعفاء حتى ولو كانوا أصحاب حق، ولا يقيم لهم وزناً ولا يلتفت إلى أنينهم وعذاباتهم، وإذا كنا نريد تعظيم حرمات الإسلام حقاً وكف أيدي العابثين فلا مناص من الدعوة إلى امتلاك القوة الرادعة التي ترهب العدو، والعمل على ذلك، وهذا ما أمر الله ـ تعالى ـ به فقال: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: ٦٠] ؛ فإن من الناس من لا يزيدهم العفو إلا طغياناً وكِبْراً، فإذا ظهرت قوة الحق رجعت إليهم عقولهم.
ولهذا قال الشاعر في هذا الصنف، وينسب لحسان ـ رضي الله عنه ـ:
دعا المصطفى دهراً بمكة لم يُجَبْ وقد لان منه جانب وخطابُ
فلما دعا والسيفُ صَلْتٌ بكفه له أسلموا واستسلموا وأنابوا
ولا شك أن تحصيل القوة الرادعة لا يمكن أن يتحقق بين عشية وضحاها، وإنما هي في حاجة إلى إعداد جاد وطويل، بعيداً عن الاستعجال والتهور في اتخاذ المواقف التي قد تجر إلى كوارث، وبعيداً أيضاً عن الإهمال والتكاسل والتهاون الذي يجر إلى كوارث أشد.
إنه من غير الممكن الدعوة إلى شن حرب على تلك القوى المجرمة؛ فذلك فوق القدرات المتاحة، ولكن ينبغي الدعوة إلى العمل على امتلاك القوة الرادعة التي تعيد لهم صوابهم، وذلك أمر في الوسع والطاقة إذا صدقت النيات وتكاتفت الأيدي.
إن الجري أمام القوى الظالمة وتلبية طلباتها ومعاونتها في مشاريعها والتلطف معها في القول والعمل، لن يدْعوها إلى مراجعة نفسها والندم على جرائمها وأخطائها في حق أمتنا، بل يدعوها ذلك إلى مزيد من الظلم والغطرسة والطغيان.
وقد يلوح المخرج من هذا المأزق في عدة أمور:
الأول: العناية التامة بالإسلام عقيدة وشريعة، تعلماً وتعليماً والتزاماً على جميع المستويات، والجد في ذلك وعدم التهاون أو التقصير.
الثاني: امتلاك القوة الرادعة والقدرة على استعمالها بكفاءة.
الثالث: الإرادة الجازمة والعزم على استخدامها عند الحاجة إليها.
ولا شك أن هذا المخرج يحتاج إلى صبر ووقت، لكن صواب البدايات يؤدي إلى تحقيق النتائج المرجوة في النهايات.
فمتى نجدُّ ونجتهد ويقوم كل صاحب ولاية بما هو مطالب به في ولايته؟ ومتى تتحول مجتمعاتنا من مجتمعات لاهية عابثة يُستغرَق جل وقتها في البحث عن شهوات البطون والفروج، إلى مجتمعات عاملة جادة تسعى لكي تقوم بدورها المناط بها باعتبارها خير أمة أخرجت للناس، وتحقق مكانتها التي جعلها الله لها؟ لقد حان الوقت؛ فهل من مشمر؟!