المسلمون والعالم
السلطة الوطنية
المسافة بين ضم السين وفتحها!
بقلم: د.عبد لله عمر سلطان
هناك مثل أمريكي يقول: (أحسن اختيار كلماتك؛ فإنك لا تدري متى تضطر
إلى بلعها) ، ومادام أن هناك غراماً متبادلاً بين السلطة الوطنية الفلسطينية وكل ما
هو أمريكي فإن من الحكمة أن يتأمل رأس السلطة هذه المقولة علّه يستفيد شيئاً من
هذه العلاقة الخطرة التي تشبه علاقة الصداقة المفاجئة بين الذئب المفترس والحمل
الغبي..، ومناسبة لفت النظر هذا يرجع بالدرجة الأولى إلى تلك التصريحات
العنترية التي لا زالت رموز السلطة الوطنية تطلقها بين الحين والآخر على الرغم
من أن القاصي والداني عرف حجم هذه القيادات، كما أن الشعب الفلسطيني بكل
قطاعاته يدفع يوميّاً ثمن مسلسل الأخطاء الفادحة لقيادة أصبحت تتقن دوماً اختيار
الأسوء وممارسة الفاحشة السياسية في وضح النهار..
لقد ذكر الشاعر الفلسطيني المسؤول عن جهاز الثقافة في منظمة التحرير
الفلسطينية (محمود درويش) في محاضرة له بعمّان قبل أسابيع أن البعض: (يريد
من الفلسطينيين أن يتخلوا عن ذاكرتهم التاريخية خلال عملية المفاوضات) ، ولا
شك أن درويش وهو شيوعي سابقاً، ليبرالي لاحقاً يعبر عن حالة من (القرف)
تنتاب حتى الذين لا يؤمنون بثوابت الأمة وقد يشاركون السلطة الحالية بعضاً من
المسؤولية التي آل إليها الحال بعد اتفاق أوسلو..
لقد أعلن في يوليو ١٩٩٥ عن توصل الطرفين الصهيوني والفلسطيني إلى
اتفاق تنسحب بموجبه قوات الاحتلال الإسرائيلية عن بعض المدن الآهلة بالسكان
في الضفة الغربية المحتلة حسب اتفاق (أوسلو) ، مما يمهد السبيل لإجراء انتخابات
(لم تحدد هويتها أو عدد المشاركين من ناخبين أو مرشحين، حيث لازالت إسرائيل
تفكر في كل هذه التفاصيل) بعد شهور من الانسحاب، وعلى الرغم من أن انسحاب
إسرائيل من أجزاء من الضفة الغربية المحتلة يشكل حدثاً أكبر بكثير من انسحاباتها
الاستعراضية السابقة من غزة أو أريحا، إلا أن الإعلان لم يُصاحَب هذه المرة بتلك
الحملة البهلوانية عبر أجهزة الإعلام العربي، حيث إن كذبة (أوسلو) لا تزال عالقة
بالأذهان، كما أن الحشد العاطفي والكلام الرخيص المنمق الذي وعد به (مسوقو
التطبيع) يترجم حالياً إلى مأساة جديدة يدفع الفلسطينيون ثمنها..
وعلى الرغم من وجاهة المثل الأمريكي السابق، إلا أن عرفات أصر على أن
يدشن الاتفاق بتصريح فولكلوري يذكر بأيام المد الثوري والتصريحات النارية؛
فبعد يومين من الإعلان عن الاتفاق صرح عرفات في جنيف: أن الانتخابات
الفلسطينية لن تجرى قبل انسحاب إسرائيل من كل مدن وبلدان وقرى ومخيمات
الضفة الغربية، وعلى الرغم من أن عرفات سيبتلع هذه الكلمات لاحقاً كما ابتلع ما
هو أكبر منها في السابق، إلا أن النخب السياسية التي يمثلها تعرف حتماً أنه حتى
تلك التصريحات التي لا زالت الطبقة الحاكمة ترى أنها للاستهلاك المحلي لم تعد
تحظى حتى بقبول المستهلكين اللذين يحيون بالإذلال والدونية من تصريحات
رغوية كهذه، في الوقت الذي يكرس الجانب الإسرائيلي مطالبه على أرض الواقع
بدعم كامل من الولايات المتحدة، وبانهزام متعدد الجبهات على الساحة العربية.
لماذا لم يحتفلوا بالانسحاب الجديد؟
عندما زار الكاتب الفلسطيني (إدوارد سعيد) لندن وألقى محاضرة فيها، طالب
السلطة الوطنية الفلسطينية أن تبادر بشجاعة وتعلن على الملأ عجزها عن مواصلة
الطريق المظلم الذي قادت إليه شعبها، وأن تبادر إلى احترام شعبها وتنشيء حواراً
داخليّاً للخروج من مأزق الحل الهزيل الذي أصبح وصمة عار في مسيرة القضية
الفلسطينية، تتم تصفيتها بكل سهولة وبمباركة (سلطة وطنية) (بضم السين وليس
بفتحها وإن كان الفتح يلائم (فتح) هذه الأيام) فالبطالة في عهد عرفات زادت عن
الستين بالمئة وأحلام (سنغافورة الشرق الأوسط) ثبت أنها أحلام ثقيلة الظل،
ووزير الإعلام في سلطة الحكم الذاتي يمنع من الدخول إلى مناطق محتلة ويظل
ينتظر في سيارته أربع ساعات ثم يضطر إلى العودة من حيث أتى، هذا فضلاً عن
رفض إسرائيل حتى لحاشية عرفات بالدخول، ورفضها انتقاله شخصيّاً دون إذن
ولي الأمر الإسرائيلي، أما المشروع الوطني القائم على الاحتفاظ بالأرض
والصلاحيات والسيادة: فقد ذهب أدراج الريح؛ فسلطة عرفات لا تتمتع من مظاهر
السيادة سوى بفرش السجاد الأحمر للضيوف وتقديم عصير البرتقال الفلسطيني بدلاً
من ذلك المصنوع في حيفا! !
لقد أفرزت مرحلة ما بعد اتفاق (أوسلو) حقائق صارخة تجعل من الاحتفال
بهذا الانسحاب لو تم كابوساً آخر تسعى إسرائيل لتجريعه لكل الفلسطينيين، لا سيما
أولئك الذين رضوا بالدنية وساروا وراءها لاهثين.
ولن نستطيع أن نعدد المكاسب والمواقع التي أنجزتها دولة الصهاينة منذ
(مدريد) ، لكن يكفي التذكير ببعض المعالم المهمة.
ظلت (القدس) مربط الفرس والنقطة الأصعب في المفاوضات، ومنذ إعلان
(أوسلو) وحتى الآن، استطاعت إسرائيل أن تغرس مخالبها وأنيابها في محيط
الأقصى، وتوج ذلك بقرار مصادرة ٥٣ هكتاراً من الأراضي المحتلة لبناء
مستوطنات جديدة، واليوم فإن إسرائيل تفتخر وتعلن أن القدس مدينة يهودية؛
فسكانها اليهود يمثلون ٧٥% من مجموع السكان في ظل سياسة مزدوجة بتهجير
سكانها المسلمين عبر جعل الحياة المعيشية لا تطاق (٥٠ ألف غادروها خلال
السنوات الماضية) ، أو عبر إعطائهم الجنسية الإسرائيلية وبعض المميزات التي
تكفل ولاء هؤلاء لدولة صهيون.
إسرائيل تعلن بكل وقاحة على لسان (بنيامين بن العازر) وزير الإسكان:
(بأنها ستصادر ١٢٠ هكتاراً لبناء ثلاثين ألف وحدة سكنية، لأن الأمر يتعلق
بالصراع على مستقبل القدس ولا يمكن لأي شخص أن يملي على إسرائيل موقفاً
حيال تصرفها على أراضيها التي تقع تحت سيادتها في القدس) .
ومقابل التنفيذ الفعلي لسلب القدس وسرقتها وتهويدها: لا تجد التيارات
الفلسطينية من رد فعل سوى جعجعة مؤتمر قمة سرابي سرعان ما تبخر بعد أن
أعلنت إسرائيل (تجميد) قرارها، فقرر الأشاوس (تجميد) مشاعر الأمة وإلهاءها
بصراعات جانبية تساهم في تخفيف درجة حرارة الشعوب الملتهبة! !
لقد انتهجت الصهيونية سياسة ثابتة تجاه مدينة القدس منذ عام ١٩٤٨م حيث
صادروا في البداية ثلث مساحة المدينة، وبعد عام ١٩٦٧م صادروا ما
يقارب ٨٠ % من مساحتها، ومنذ اتفاق (أوسلو) حتى الآن استمرت إسرائيل في المصادرة والسرقة بمعدل ١٠٨١ دونماً شهريّاً بعد أن وصل إلى ٢٣٢ دونماً أيام مؤتمر مدريد.
لقد أعلن (فريح أبو مدين) في ١٢/٥/١٩٩٥م (أن السلطة الفلسطينية تشعر
بعجز اتفاق (أوسلو) وقصوره ولا سيما بالنسبة لقضيتي الأسرى والقدس) ومبارك
علينا هذا النبأ السار بأن هناك (شعوراً) لا يزال يسري في أوصال السلطة الوطنية
مقابل المخطط الصهيوني المستمر! !
استمر الاستيطان اليهودي في فلسطين منذ الاتفاق حتى الآن، ولابد أن نذكر
أن بعض سماسرة السلام ونخاسته كانوا يطلّون علينا صباح مساء حاثين العرب
على السلام مع إسرائيل قبل أن ينتهي البرنامج الاستيطاني اليهودي وتختفي
الأرض التي تخضع للتفاوض والانسحاب.
وصدق البعض النخاسة، وردد أركان معسكر التطبيع هذه الشعارات، لكن
(رابين) أصر على أن يلطمهم لطمة أخرى حين استمر في برنامج الاستيطان دون
اعتبار أو احترام لاتفاق (أوسلو) ، وهي بشهادة مراقب محايد: عملية استمرت
بنفس الوتيرة رغم التصريحات الوثيرة! (فقد تحولت المستعمرات اليهودية في عهد
(رابين) إلى وحدة واحدة، تلك الأَمنية وأختها السكانية، وهو قد وعد بأن تبقى
المستوطنات الأمنية فقط! ! بل إنه طوّر سياسته لتصبح القدس ومحيطها أكبر
مستوطنة، بحيث تمتد المدينة المقدسة إلى الشرق حتى البحر الميت، وإلى الغرب
مروراً بمستوطنة (متسبيه يريحو) ، وشمالاً إلى رام الله عبر مستوطنة (بيت إيل)
وإلى الخليل جنوباً، مما يعني اقتطاع أهم المناطق وعزل (الهر) العرفاتي وقطع
أوصال الضفة الغربية إلى جزئين: مهم، ومقدس، يمثل معظم مناطق الضفة
المحيطة بالقدس، وأخرى تتركز فيها كثافة سكانية عربية يتولى عرفات وزبانيته
سومها بالحديد والنار، ومما يدفع إلى هذا: أن إشارات من عرفات بدأت تبرز
مؤخراً تدلل على قبوله برام الله مقراً دائماً لسلطته الخنفشارية..!
استمر الإذلال المعيشي للشعب الفلسطيني، ووصلت الأوضاع الاقتصادية إلى
أسوأ مستوى لها مقارنة بوضع الفلسطينيين حتى أيام الاحتلال.
الأرقام تقول إن معدلات البطالة فاقت نسبة ٦٠%، وأن دخل الفرد وصل
إلى مستوى أنجولا وبنغلاديش، وأن رجال عرفات من أفراد السلطة وجيشها
منهمكون في عمليات إتجار غير مشروعة في كل شيء من العقار وحتى تجارة
( ... ) ، وقبل أسابيع ألقي القبض على رجل شرطة قتل زميلاً له ليبيع سلاحه من
أجل أن يأكل ... هذا حال السلطة المحظوظة، فما حال الشعب؟ حاله لا يسر،
لكن المأزق كبير، ويكفي أن عرفات لم يجد ما يدفعه لأفراد سلطته وجيشه إلا بعد
أن وصله شيء من المساعدة التي وعدته بها الدول المانحة والتي أحجمت عن ضخ
مزيد من الدعم، خصوصاً بعد أن تبين لها أن الفساد يزكم الأنوف، وأنه في الوقت
الذي تعيش فيه غالبية الفلسطينيين فقراً مدقعاً: تتمتع قمة الهرم بترف وثراء غير
مشروعين، وقد نقل مراسل محطة التلفزيون الأمريكية () حنق الشارع في غزة
من تصريحات (سها عرفات) بأنها لا تثق بالخدمات الصحية في غزة، ولذا: فإنها
وضعت مولودتها في إحدى أرقى مستشفيات باريس! ! وكأن فرنسا وحدها دون
سائر البلاد العربية والغربية هي التي تملك خدمات صحية يوثق بها! ، أم إن الثقة
المفقودة هي في الجنسية الفلسطينية، لذا: لزم ضمان جنسية أخرى (يُعتز بها!)
للمولودة الجديدة، وذلك بولادتها على الأرض الفرنسية (حق الأرض، حسب
القانون الفرنسي) ؟
ظهر الانحياز الأمريكي في أبشع صوره خلال الفترة الماضية، فأمريكا
تخلت عن باقي مظاهر الحياد و (المكياج) الخادع، وأعلنتها صريحة أنها تساوي
إسرائيل، وأن إسرائيل تساوي أمريكا، وقد قامت أمريكا بدور مكشوف وقح في
دعمها لإسرائيل في مصادرة أراضٍ مقدسة، وصوتت وحدها في مجلس الأمن
لصالح اليهود، وأصبح زعماء الديمقراطيين والجمهوريين يتنافسون في كسب ود
الصهاينة، ولم يصل الحال إلى درجة أن يزايد الأمريكيون حتى على الإسرائيليين
أنفسهم إلا في هذه المرحلة؛ ففي السابق: كان الصهاينة يطرحون طلباتهم، فتلبي
أمريكا الطلب بطيب خاطر، أما الآن: فإن (روبرت دول) مرشح الحزب
الجمهوري يطالب بنقل السفارة الأمريكية للقدس فيتمنى عليه (رابين) التمهل
والانتظار.. (لقد ثبت الآن بعد تصريحات كلنتون في مؤتمر (إيباك) أن الأمريكان
أكثر تطرفاً من (رابين) وأنهم صهيونيون أكثر من الصهاينة) كما قال (ماكلرم
رديتش) المعلق البريطاني.
ماذا بعد؟
في يوم واحد صدرت عدة تصريحات، وبثت تقارير تستحق الإشارة إليها،
خصوصاً أنها صدرت في ساعات قليلة بعد يوم واحد من الإعلان الأخير.
فقد أعلنت قيادة حزب ليكود أن الاتفاق الهزيل مع عرفات يمكن إلغاؤه، فقال
زعيم الحزب (نيتانياهو (: إن الأمن في المناطق الفلسطينية يجب أنه يظل في
أيدي اليهود، وإن قواته لن تؤمر بغزو غزة وأريحا (قوات عرفات أكثر كفاءة في
قمع الفلسطينيين) وأشار إلى أن عرفات سيبقى مسؤولاً عن جزيرتين مكتظتين
بالسكان دون دعم فعلي من إسرائيل.
وأعلن (ياسر عبد ربه) مدير الإعلام العرفاتي: أن محادثات نقل السلطات
إلى الفلسطينيين لم تحرز تقدماً، وأن الجانب الآخر يدفع بنا إلى الانسحاب من هذه
المفاوضات الجهنمية.
وزير العدل الإسرائيلي يقترح ضم قسم من الضفة الغربية، وأشار تقرير
لصحيفة (ها آرتس) أن برنامج حزب العمل سيسمح لسلطة عرفات في النهاية
بالإشراف على ١٨% من مساحة الضفة الغربية فقط!
في الساعة نفسها: بثت وكالة الأنباء أن مستوطنة يهودية جديدة قد بوشر في
بنائها بين (القدس) و (تل أبيب) .
بعدها بساعتين: أنباء عن فشل اللجنة الرباعية الخاصة ببحث عودة نازحي
عام ١٩٦٧م ... أما نازحو ١٩٤٨م فليسوا على قائمة البحث.
تقارير من (تل أبيب) و (لندن) عن بدء نشاط جديد بين سلطة عرفات وجهاز
المخابرات الإسرائيلي (شين بيت) والذي اتفق عليه قبل ثلاثة أشهر في (روما)
مهمته الأولى: إسكات الصوت الإسلامي المعارض للهزيمة، والركوع تحت اللافتة
المكررة (محاربة الأصولية) ...
هذه الأصولية هي الصوت الباقي، الصوت الضعيف المطارد الذي يدافع
بأسلحته العتيقة وإيمانه الوقاد كل هذا الباطل المتبجح المغرور وتلك العمالة التي
يأبى الله إلا أن يفضحها مع مطلع كل يوم يشرق بنور العودة إلى الله، فتظهر على
حقيقتها: تجعجع بكونها سُلطة، بينما تثبت الأيام أنها أوراق وزعامات ومكونات
جمعت في طبق يذكر بسَلطة لا تثير الشهية أو الرغبة في المضي قدماً لتناول وجبة
الاستسلام السامة!