للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[العولمة الثقافية حروبها الضرورية]

د. محسن محمود خضر

كيف تتبدى الصورة بين الشرق الإسلامي والغرب النصراني في أوائل الألفية الثالثة؟

لم يعد العالم هو العالم بعد تداعيات حادثة ١١ سبتمبر، فها هي الولايات المتحدة تخوض حرباً فعلية ضد الوجود الإسلامي، والثقافة الإسلامية، في حرب تدور رحاها على قوس يمتد من حدود الصين وروسيا الجنوبية إلى الصومال، وتصل إلى وضع بعض المقاتلين الإسلاميين المأسورين من كهوف أفغانستان داخل أقفاص كالحيوانات؛ تمهيداً لاستجوابهم ومحاكمتهم في قاعدة جوانتانامو العسكرية المنيعة في خليج كوبا.

ويكاد يكون تصريح السيناتور الديموقراطي الأمريكي اليهودي (ليبرمان) الأخير في جامعة (جورج تاون) بواشنطن هو الأخطر منذ تصريح رئيسه (بوش) الشهير: «من ليس معنا فهو ضدنا» ، فقفز فوق تصريحات أسامة ابن لادن السجالية حول تقويض السلام الأمريكي ما دام الشعب الفلسطيني لم ينعم بالأمن والسلام.

فقد أشار (ليبرمان) في تصريحه إلى أن: «جدار برلين الجديد هو قيد التشييد بمساعدة حجارة مصنوعة من الفقر والطغيان، ومدعومة بهاون الحقد والعنف» .

صحيح أن (ليبرمان) دعا رئيسه بوش إلى إعادة النظر في سياسته إزاء الدول الإسلامية بهدف منع الأصوليين من بناء ستار حديدي أيديولوجي؛ ولكن تفكيك تصريح (ليبرمان) قد يفضي بنا إلى نتيجة معاكسة بخصوص مسؤولية الولايات المتحدة ذاتها عن بناء هذا الحائط الأيديولوجي.

إن اشتعال ما يسمى بحروب الحضارات يدلل على أهمية (مراكز الفكر) في صناعة السياسة الأمريكية الخارجية، فأغلب مشروعات التسوية أو إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط تستند إلى دراسات قدمتها مراكز البحوث المتخصصة، وفرق البحث من المحللين الإستراتجيين الأمريكيين فيما يسمى بـ (مستودعات الفكر ـ The Think Tanks) والتي يعكف داخلها مجموعة من المتخصصين في السياسات الدولية ومحللي العلاقات الدولية على وضع تصورات وخطط تغذي باستمرار صانع القرار برؤى وتصورات وخطط للعمل؛ تعينه على رسم وتبني السياسات الخارجية الأمريكية المعينة فيما يخص المصالح الأمريكية؛ سواء تعلق الأمر بالعلاقات مع الصين، أو اليابان، أو روسيا، أو العراق، أو الصراع العربي الصهيوني، أو أمريكا اللاتينية.

وقد صرح وزير الدفاع الأمريكي السابق بضرورة العمل على وضع صدام حسين نفسه في صندوق. ويبدو أن فكرة الصناديق المغلقة التي يوضع فيها أعداء الولايات المتحدة تسيطر على ذهن الساسة الأمريكيين؛ ربما استلهاماً من الوقائع التاريخية حول عبيد روما الذين كانوا يوضعون في أقفاص قبل تقديمهم للأسود الجائعة أو مشاركتهم في قتال يفضي إلى الموت، أو مستمدة من التاريخ الأمريكي القديم الذي شهد اقتياد العبيد الأفارقة من مواطنهم إلى الأرض الأمريكية الجديدة لتسخيرهم لخدمة الرجل الأبيض.

الجدار الأيديولوجي الجديد لم يصنعه الإسلاميون كما يعتقد (ليبرمان) ؛ ولكن صنعته مخالفات السياسات الأمريكية المجانية للعدالة تجاه شعوب العالم المتستضعفة، كما حدث في الانحياز للجانب الصهيوني المستمر، وانتهاءً باستخدام الفيتو الأمريكي رقم ٢٥ لتجنيب دولة اليهود أي قيود أو التزامات تجاه إدانة الدولة الصهيونية، أو تخفيف معاناة الفلسطينين.

وعندما تخرج مجلة (النيوزويك) قبل مدة تتساءل: «لماذا يكرهنا العالم؟» فإن السؤال المستبعد والأصح، والمسكوت عنه الذي يجب أن يطرح هو: «لماذا لا يكره العالم أمريكا؟» .

ولنتأمل انغماس القوات الأمريكية في الواقع في محاربة مختلف أشكال الحركات الإسلامية المطالِبة بحقوقها المستلَبة مثلما يحدث في الفلبين، فأمريكا أرسلت قوات أمريكية (٢٤ عسكرياً) سيزدادون إلى ١٢٠ فرداً من أمن القوات الخاصة من البحرية والقوات البرية وسلاح الجو لمساعدة القوات الحكومية؛ للتدريب على محاربة أنصار (أبو سياف) . ويبدو أن الإدارة الأمريكية ليست عازمة على محاربة تجار المخدرات، وخارقي حقوق الإنسان والديموقراطية من النظم الصديقة، ولا المتاجرين بديون ومصالح العالم الثالث، بل أصبح اللاعبون الأمريكيون طرفاً مباشراً في الحرب ضد الجماعات الإسلامية لا فارق بين أن يكون اسمها (أبو سياف) أو (حزب الله) أو (حماس) أو (جيش محمد الكشميري) .

ضرب الحركات الإسلامية العسكرية وتصفيتها يقض مضاجع الإدارة الأمريكية، لِتدلل بالفعل على إشعالها حرباً جديدة قد تكون الحرب العالمية الثالثة بين الغرب وديار الإسلام، بحيث تقلب السياسة الأمريكية مفهوم (دار الحرب ودار الإسلام) الذي يتبناه الفقه الإسلامي إلى (دار الإرهاب واللاإرهاب) ، على طريقة «من ليس معنا فهو ضدنا» ، وكأننا أمام أحد أفلام كوبولا وجيمس بوند.

انغماس السياسة الأمريكية السياسي والعسكري في القتال ضد الحركات والجماعات الإسلامية يعزز بالفعل فكرة حائط (برلين) الأيديولوجي الجديد بين الشرق والغرب، وكأنه يستعيد مقولة (كبلنج) الشهيرة: «الشرق شرق والغرب غرب؛ ولن يلتقيا» ، وهكذا فإن تنظيرات (فوكوياما) و (فريد مان) و (هنتجتون) حول (نهاية التاريخ) و (الخطر الإسلامي الأخضر) و (صِراع الحضارات) تؤسس الأرضية الفكرية للتحركات العسكرية للأساطيل الأمريكية وقوات المارينز وسلاح الجو.

عصا التأديب الأمريكي وصلت في وقاحتها إلى حد المطالبة بتغيير مناهج التعليم في الأقطار الإسلامية خصوصاً مناهج التعليم الديني، في سابقة لا يمكن أن توصف إلا بالوقاحة لتدخلها في الشؤون الداخلية للدول الإسلامية، وقد تابعنا مؤخراً كيف أمر الجنرال الباكستاني (برويز مشرف) بإدخال دراسة اللغة الإنجليزية والعلوم في مناهج المدارس القرآنية الباكستانية، وغير بعيد ما فعله الخبراء الأمريكيون في المناهج التعليمية المصرية في بداية التسعينيات بتعديل مناهج التاريخ والدين الإسلامي بحذف ما يشير إلى انحراف اليهود وخياناتهم. صحيح ـ من جهة أخرى ـ أن هناك خطاباً إسلامياً يتخذ موقفاً متشدداً من الثقافة الغربية؛ لكنه يبقى في النهاية رد فعل للسياسات الأمريكية المنحازة ضد الحقوق والمصالح العربية والإسلامية.

وإذا كانت تداعيات هجمات ١١ سبتمبر مستمرة فإن تداعيات الحرب الأمريكية ضد أفغانستان لم تظهر بعد، وإذا أخذنا بقوانين الفيزياء حول الفعل ورد الفعل، فإن محصلة الحمى الأمريكية ضد الحركات الإسلامية سوف تتجمع في المستقبل لتصب في غير صالح وجهة النظر الأمريكية، وخاصة لدى أجيال شابة ستتأثر لما حدث للشعب الأفغاني، بصرف النظر عن مدى مسؤلية تنظيم القاعدة، وحركة طالبان من هجمات ١١ سبتمبر.

السؤال الذي ترفض العقلية الأمريكية والخطاب الأمريكي الإجابة عنه بصراحة هو: عن أسباب تنامي موجة العداء في العالم الإسلامي للسياسات الأمريكية؟ وهي سياسات معادية ومنحازة وخاصة ما يحدث في فلسطين. مغالطة الخطاب الأمريكي ذاته تصل إلى حد حرمان أسرى القاعدة وطالبان من اعتبارهم (أسرى حرب) ، فبأي منطق يمكن وصف ما حدث تجاه نقل مقاتلين من بلدهم إلى معسكرات اعتقال؟ وحسب تصريح أخير لوزير الدفاع الأمريكي (رامسفيلد) بأن هؤلاء الأسرى «معتقلو معارك» ، وليسوا «أسرى حرب» ؛ وبالتالي لن تكون لهم الحقوق المكفولة لأسرى الحرب، وربما سينطبق ذلك في المستقبل على أسرى من اليمن، والصومال، وحزب الله، وحماس، والجهاد.

وربما نتهلل لكون السلطات الأمريكية ستمنح لكلٍ من هؤلاء الأسرى بساطاً صغيراً، ومنشفتين، وثلاث وجبات يومية، ومعجوناً للأسنان، وصابون شامبو دلالة على تحضرها ورقة قلبها! وعلينا أن نتناسى مؤقتاً زنازين القرود التي سيوضع فيها هؤلاء الأسرى، في عرضٍ حيٍّ في بدايات الألفية الثالثة وكأننا نتجول في شوارع روما القديمة في العهد القيصري.

ربما لا يعني الخطاب الغربي، ولا منظري وساسة البيت الأبيض وعواصم الغرب، الجهود الفكرية الهائلة لمفكري العالم الثالث والإسلامي الذين يشغلون أنفسهم بالدعوة إلى (حوار الثقافات) عوضاً عن (صِدام الحضارات) وكأنه حوار الطرشان.

نستعيد قصة رمزية من عالم كليلة ودمنة للقرد الذي أراد أن يطهر قلب الأسد المفترس من عنفه وتعطشه للدماء بأن أخذ يغنِّي بصوت رخيم للأسد علَّه يؤسر قلبه ويصفيه، ولكن لسوء حظ هذا القرد كان الأسد أصماً لا يميز الأصوات، فهجم على القرد وافترسه، وهكذا يبدو أننا بدعوتنا إلى حوار الثقافات والتسامح بين الشعوب واحترام الخصوصيات الثقافية نغنِّي لأسد أمريكي أصم؛ حيث يستعمل الغرب المفاهيم التي ينتجها بمعنى واحد وفي اتجاه واحد يعبر عن وجهة نظره الأحادية بين المركز إلى الأطراف، ومن الأنا إلى الآخر، كنوع من النرجسية.

الرئيس (بوش) تصرف بتلقائية تحركها الذهنية الغربية، أو ربما هي أقرب إلى تعبير عابد الجابري (اللا شعور السياسي) أو تعبير فرويد (فلتات اللسان) ليلخص في كلمة واحدة الموروث المتراكم والهائل من العداء والخوف الموجه للعرب والصليبيين عندما نطق كلمة: «سيشنها حرباً صليبية» وإن تراجع، ليؤكد أن الكلمة التي تفوّه بها لا تعني الحملات الصليبية القديمة الموجهة ضد الأرض العربية؛ بل بمعنى (الحملة) كما تستخدم الكلمة في السياق الغربي.

كما عزز (بوش) في مناسبة لاحقة هذا المكتوب السياسي الغربي عندما قال: إن الاعتداء لم يكن موجهاً ضد الولايات المتحدة فحسب، بل ضد الدول الحضارية. وكأنه يستعين بقاموس المفكر الأمريكي (صموئيل هنتجتون) صاحب نظرية (صِدام الحضارات) والذي اعتبر الإسلام آخر تهديد لقيم الحضارة الغربية. قوبلت نظرية (هنتجتون) في حينها بموجة رفض وحملة تنديد من مفكري العالم الثالث؛ وخاصة آسيا وأفريقيا والدوائر الثقافية الإسلامية التي رفضت توصيفه للنظام القيمي العالمي الذي أفرزته العولمة بأنه صِدام حضارات، داعين إلى أن يتحول إلى حوار ثقافي إنساني عميق بين كل الفرقاء.. هل تجدد عملية (الكاميكازم) فوق واشنطن ونيويورك الحاجة إلى إعادة نظرية (هنتجتون) حول (صِدام الحضارات) والتي كشفت الأحداث الأخيرة عن صحة جزء منها؟

الفكرة الرئيسية في نظرية (صِدام الحضارات) هي أن البعد الرئيسي الأكثر خطورة في السياسة الكونية الناشئة، سوف يكون الصِدام بين جماعات من حضارات مختلفة، ولذا فإن صدام الحضارات هو الأكثر تهديداً للسلام العالمي.

الحضارات السبع المتصارعة التي سوف تتصادم في نظر المفكر الأمريكي الكبير هي: الغربية، والهندية، واليابانية، والإسلامية، والغربية، واللاتينية، والأفريقية.

وفي خريطته الفُسيفسائية؛ فإن الغرب أسهم وحده في إنتاج الأيديولوجيات السياسية الكبرى في القرن العشرين وتتضمن: الليبرالية، والاشتراكية، والفوضوية، والاتحادية، والماركسية، والشيوعية، والديمقراطية، والمحافظة، والقومية، والفاشية، والديموقراطية المسيحية.

ومن الغريب أن المفكر المغربي الكبير (المهدي المنجرة) قد سبق (هنتجتون) في استشراف هذه السيناريوهات منذ السبعينيات؛ حيث صاغ تخوفات الغرب في ثلاث قنابل، القنبلة الديموغرافية، والقنبلة الآسيوية (الصين واليابان) ، القنبلة الإسلامية، ولعلها نفس القنابل الثلاث التي حاول (هنتجتون) بناء استراتيجية لتفجيرها خارج المدار الغربي.

إن (المهدي المنجرة) اعتبر أن التعدد الثقافي أمر جوهري، لكن لا يمكن اعتباره أمراً حاصلاً، إنه هدف يجب الدفاع عنه كعنصر أساسي لإقامة السلام واستمرار حياة البشر، وهو بذلك سبق تقرير اليونسكو الشهير (تنوعنا الخلاق Diversity Our Creatve) الصادر عام ١٩٩٦م.

إن (هنتجتون) الداعي في نظريته حول صدام الحضارات إلى تفجير العالم، وعسكرته، وإن اتخذ الأمر قناعاً ثقافياً، وهو ما يناهضه (إدوارد سعيد) حيث يصف (هنتجتون) بأنه خبير في عالم تدبير الأزمات؛ ومن ثم فإن أطروحته ليست إلا إحدى التداعيات التي تعيشها الإدارة العسكرية الأمريكية.

أطلت الحروب الثقافية من سباتها بعد تفجير مركز التجارة العالمي، وأطلقت مخزون العداء الغربي في اللاوعي الغربي، وهو المخزون الذي تنامى منذ صدام الجيوش الإسلامية والأوروبية، ثم على أسوار القسطنطينية، وتالياً في الحروب الصليبية وفي الأندلس، ومروراً مع حملة (نابليون بونابرت) على مصر والشام في ١٧٩٨م، ثم تجددت مع تحطيم أسطول محمد علي في نفازين في ١٩٢٩ وإجهاض مشروعه النهضوي، وتجددت ثانية مع تحطيم القوات المصرية في صحراء سيناء ٦٧ لإجهاض مشروع النهضة العربي الثاني مع جمال عبد الناصر، ثم يعود الصِدام ليتجدد في صحراء الكويت ليوسع من تشويه المدرك العربي للعرب والإسلام، وهو ما نجحت آلة الدعاية الصهيونية في النفخ فيه، (إذا قربنا أيضاً دروس الثورة الإيرانية) .

الأشباح الذي أذلوا العنجهية الأمريكية بعمليات قد يختلف في توصيفها؛ لم تطِح فحسب بالهيبة الأمريكية؛ بل بِنظرية الأمن القومي الأمريكي، حيث أتى العدو من الداخل وليس من الخارج، أي ضرب ضربته في الداخل بعيداً عن أي تصديق.

أصبح الإسلام مجدداً في قفص الاتهام، وبالرغم من تطمينات الحكومات والزعماء الغربيين لشعوبها تجاه الإسلام وتنقية صفحته، فإن حملة العداء الشرسة التي امتدت ضد كل ما هو إسلامي وعربي من الدانمارك إلى كندا غرباً، ومن الولايات المتحدة إلى استراليا هي تأكيد لهذا الصراع الثقافي بين الغرب والآخر الإسلامي.

هل فعلاً نصبت المصيدة والسيد بوش ونحن معه أيضاً نمشي إليهما؛ كما يحذر الكاتب البريطاني (روبرت فيسك) في مثال أخير له من حرب شهوة الانتقام البغيضة؟ هذا التحليل يربط الانتقام من المسلمين بالبنتاجون ومركز التجارة، ولكن لا أحد في العالم يستطيع أن يحدد حتى الآن متهماً رئيسياً.


(*) أستاذ بجامعة عين شمس ـ القاهرة.