للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ملفات

العلمانية في العالم الإسلامي.. تساقط الأوراق

(١ - ٣)

القومية وأثرها المدمّر على وحدة الأمة الإسلامية

كمال حبيب

يذهب هذا المقال إلى أن القومية واقعة نفسية؛ بمعنى أنها ليست قاصرة على

الظهور التاريخي للكلمة فقط كما عرفها الغرب، ونعني بأن القومية واقعة نفسية أي

أن إحساس أمة بذاتها ووجودها ووحدة مصيرها يكون في اللحظات الحاسمة من

تاريخها؛ وبهذا المعنى فإن الإسلام حين ظهر في العرب انتقل بهم إلى مرحلة الأمة

التي تقوم على رسالة عالمية، وفي الواقع فإن الأمة العربية التي صنعها الإسلام

رغم شعورها بالتميز والخيرية إلا أنها لم تكن تستند إلى العرف في تميزها، وإنما

استندت إلى ما يمكن أن نطلق عليه: «وظيفتها الإيمانية والحضارية» فالإسلام

كان هو الحدث الأهم في تاريخ العرب، وهو الذي انتقل بهم من الفراغ القبلي إلى

أن يكونوا أصحاب رسالة عالمية ووظيفة حضارية، وباعتبارنا ننظر إلى

«العروبة» بوصفها عملية حضارية واسعة وكبيرة تفاعل فيها المسلمون مع

البلدان المفتوحة عبر آليات عديدة منها العلاقة الوثيقة بين العربية والإسلام، بل

بين العرب والإسلام؛ ومن ثَمَّ كان تعريب الدواوين وإقبال الناس على تعلم

العربية.

وباعتبار أن «العروبة» عملية حضارية أوسع من مجرد الانتماء إلى العرق

العربي، فإنها قد تمَّت بعد ظهور الإسلام؛ أي أن العروبة متأخرة في الحقيقة عن

الإسلام، وأن الإسلام كان البوابة والسبب الذي انتشرت العروبة عبره.

وبقراءة التاريخ الإسلامي فإن ظهور الحركة الشعوبية في العصر العباسي

الأول التي استندت إلى العرق وتمجيد الحضارات السابقة على الإسلام هي التي

فصلت بين العروبة والإسلام لأول مرة فيما أعلم وقد كانت الشعوبية إلى حد ما

تعبيراً قومياً يستند إلى العرق في مواجهة العرب بكونه عرقاً أيضاً، وكانت

الشعوبية تهدف إلى استعادة الحضارات التي قامت لهذه الشعوب قبل ظهور الإسلام

بقصد منازعة الوجود الإسلامي العربي وزلزلته.

ولحكمة إلهية فإن الاجتماع الإسلامي لم ينفرد به عرق معين؛ وإنما تداولته

الشعوب الإسلامية الأساسية؛ فالمماليك دافعوا عن الإسلام عقب سقوط الخلافة

الإسلامية في بغداد على يد التتار ١٢٥٨م ٦٥٨هـ، والبربر والأكراد كانوا جنوداً

للإسلام ومنهم صلاح الدين الأيوبي الذي حرر القدس من أدران الصليبية المجرمة،

وانتصر في معركة حطين سنة ١١٨٧م، ثم جاء الأتراك السلاجقة ثم العثمانيون

فبدؤوا جهادهم وفتوحاتهم في عالم جديد يتكامل مع عالم الفتوحات العربية الإسلامية،

واستطاعوا الانتصار على البيزنطيين الروم وإسقاط «القسطنطينية» عاصمة

العالم المسيحي في ذلك الوقت عام ١٤٥٣م على يد الشاب المسلم «محمد الفاتح»

ولمَّا يبلغ عمره حينذاك خمسة وعشرين عاماً. وبمراجعة الثقافة التركية فإنها لم

تكن تستند إلى العرق أو روابط الدم؛ ولذا فإن الإسلام كان وجودها وحياتها، ولم

يكن العثمانيون في أي وقت يصفون أنفسهم «بالأتراك» ؛ إذ كانوا يعتبرون أن

ذلك دلالة على التخلف الاجتماعي، أي أن التداول الحضاري في الإسلام لم يستند

إلى العرق، وإنما استند بشكل أساس إلى رسالة الإسلام.

كان الإسلام يكسر عنصر الامتناع في القبلية أو القومية؛ بحيث لا تتحول

إلى عصبية ينتصر المنتسبون إليها لبني جلدتهم بالحق والباطل على السواء أما

الانتصار للعصبية بالحق فأمر ممدوح قد يكون واجباً أو مندوباً وكانت القبائل تخرج

تحت راياتها لتتنافس في تحقيق غايات الإسلام ورسالته، فلم يعرف الإسلام برامج

القوميات المعاصرة التي تستهدف صهر الأعراق الأخرى لصالح القومية المتسلطة

أو السائدة.

القومية الجديدة:

ظهرت القومية (Nation) باعتبارها مصطلحاً في الغرب في القرنين

السابع عشر والثامن عشر، وارتبط ظهورها في الغرب بالقضاء على الإقطاع

وظهور الدول الحديثة كألمانيا، وإيطاليا، والمملكة المتحدة، وفرنسا وغيرها،

وارتبط ظهورها بظهور الثورة الصناعية وطبقة التجار والصناع في الغرب

«البرجوازية» ثم الرأسمالية، كما ارتبطت القومية بالعلمانية؛ حيث أدت

التطورات التي عرفتها أوروبا منذ عصر النهضة في القرن السادس عشر إلى

الفصل بين الدين والدولة؛ أي أن القومية في ظل التطورات الغربية التي صاحبتها

كانت حركة توحيد وتحرر؛ لأنها وحدت الأمم الأوروبية المبعثرة والمتناثرة في

دولة مركزية واحدة، فحققت هدف الوحدة، كما كانت حركة تحرير؛ لأنها خلَّصت

أوروبا من تسلط الكنيسة الكاثوليكية التي فرضت التخلف على العقل الغربي،

وحاولت التحكم في كل الأشياء.

وفي إطار موجة التأثر في العالم الإسلامي بالأفكار الغربية ظهرت الفكرة

القومية في أوائل القرن العشرين مطلباً أساسياً روجت له النخبة العلمانية في العالم

الإسلامي، وكان نفوذ هذه النخبة يتعاظم مع تعاظم التفوق الغربي في المجال

المادي وتراجع دولة الخلافة الإسلامية الدولة العثمانية؛ إذ إن الفكرة المهيمنة على

عقول النخبة المتغربة في هذا الوقت: إنه لكي نحقق الإصلاح والتقدم في العالم

الإسلامي لا بد من انتهاج خط الغرب، ونسي هؤلاء أن ما يصلح في مجتمع ويُنتج

خيراً قد ينتج خبيثاً في مجتمع آخر؛ لأنه لا يوجد مجتمع واحد وإنما مجتمعات؛

ومن ثم فلكل مجتمع خط إصلاح مختلف، وكما يقول «زين نور الدين زين» في

كتابه الهام: (نشوء القومية العربية) : في الغرب كانت القومية السياسية جزءاً من

حركة علمنة الحضارة المسيحية، وأسفرت المعركة بين القومية والمسيحية عن

انتصار القومية، أما في الشرق العربي فالإسلام لا يزال عميق الجذور؛ فلم

تستطع الأفكار القومية أن تحدث ثغرة فيه؛ بل استطاع الإسلام أن يقف في وجه

كل محاولة للعلمنة، والمسيحيون القلائل وإلى جانبهم قلة قليلة من المسلمين ممن

كانوا يحلمون بإنشاء دولة عربية علمانية تقوم على حدود جغرافية وطنية معينة لا

على أساس ديني لم يلقَوْا تشجيعاً ولا تعضيداً من قِبَل غالبية سكان البلدان

الإسلامية «.

بدأت الحركة القومية تعبيراً رومانسياً في أواخر القرن التاسع عشر عبر عنه

أدباء ومفكرون مسيحيون من لبنان مثل» بطرس البستاني «و» أحمد فارس

الشدياق «و» إبراهيم اليازجي «و» أديب إسحاق «و» شبلي شميل «وغيرهم،

وكانوا جميعاً مرتبطين بالإرساليات النصرانية الغربية، وهؤلاء عملوا على إبراز

تاريخ العرب قبل الإسلام وإثارة الشعور القومي العربي، وهؤلاء هم الذين فَصَلوا

في العصر الحديث بين العروبة والإسلام فتابعوا فعل الشعوبية في العصر العباسي

الأول، ويعترف» صليب كوراني «بذلك فيقول:» الأثر الأول للحضارة الغربية

في الحياة العربية بعث القومية العربية، وقيام الحركة الاستقلالية التي تشمل العالم

العربي في الوقت الحاضر، وكانت هذه الحركة نتيجة مباشرة للتعليم الغربي «.

ثم بدأت الحركة القومية العربية في طور العمل السياسي ممثلة في جمعية

(بيروت السرية) التي كان طلبتها من خريجي الكلية البروتستانتية، وكانوا كلهم

نصارى، ثم بدأ المسلمون ينضمون إليها.

وبدأت الجمعيات السرية والعلنية القومية المطالبة بإصلاح الوضع في الدولة

التركية مطالبة بحق العرب في الحصول على حقوق سياسية وثقافية في إطار الدولة

التركية؛ وكان التطرف القومي التركي الذي مثلته جمعية» الاتحاد والترقي

الحاكمة «هو الذي أدى إلى ظهور تيار قومي عربي؛ لكنه لم يكن مطالباً بتفكيك

الدولة وكما يقول زين نور الدين زين:» إن فكرة الانفصال العربي عن الدولة

العثمانية لم تظهر إلا في إطار التطرف القومي للاتحاد والترقي بعد عام ١٩٠٩م «،

وإبَّان الحرب العالمية الأولى، ومع انضمام تركيا إلى ألمانيا بدأت بريطانيا

توظف رغبة العرب في الانفصال عن تركيا بقطع عهود على نفسها بإقامة خلافة

عربية على رأسها الشريف حسين إذا هم ساعدوا الحلفاء في الحرب، وبعد مساعدة

العرب المخلصة للحلفاء وحربهم تركيا وكانوا سبب هزيمتها خدعتهم بريطانيا،

وقُسِّمت الدول العربية في الاتفاق المعروف باسم: (سايكس بيكو) .

في كل الفترات التي ظهرت فيها القومية قبل الحرب العالمية الأولى كان

للنصارى وللأيدي الغربية ولسفارات الدول الأجنبية المعادية للدولة العثمانية دور

في تحريك الحركات القومية بقصد تفتيت الدولة العثمانية، ويلاحظ أن القومية في

المشرق كانت ترفع راية العروبة حتى تقضي على الدولة العثمانية لصالح الإنجليز؛

حيث كانت الدول المشرقية لا تزال ضمن الدولة العثمانية؛ أما في مصر فإن

الإنجليز شجَّعوا الدعوات الطائفية كالفرعونية والمصرية، ولم يسمحوا للعروبة

بالظهور؛ لأنها ستكون ضد المصالح البريطانية.

القومية بعد الاستقلال:

الجامعة العربية هي صنع بريطانيا؛ لأنها خشيت أن تقوم رابطة قوية للعرب

تهدد مصالحها؛ فعملت على إيجاد الجامعة العربية كياناً يحمل بذور فنائه في تكوينه

وبنيته، وفي عام ١٩٤٨م ومع ظهور التحدي الصهيوني في فلسطين هُزمت

الجيوش العربية مجتمعة، وبدأ الوعي بأهمية وجود عالم عربي موحد، لما هو

مقرر دولياً من حق كل شعب في أن يكون له دولته السياسية التي تعبر عنه، ومع

بزوغ دولة ما بعد الاستعمار طرح الفكر القومي مشروع الوحدة العربية استناداً إلى

وجود اللغة والتاريخ والمصير المشترك، لكن الوحدة (المصرية السورية) عام

١٩٥٨م انحلت عام ١٩٦١م، ونشبت الخلافات بقوة بين حزب البعث العربي

السوري وحزب البعث العربي العراقي، وعقدت اتفاقيات للعمل العربي المشترك

مثل معاهدة الدفاع العربي المشترك، والتعاون الاقتصادي عام ١٩٥٠م، والوحدة

الاقتصادية عام ١٩٥٧م، والاتفاقيات المنشئة للعديد من المنظمات العربية

المتخصصة، والاتفاقيات المنشئة للتجمعات الإقليمية الجزئية كمجلس التعاون

العربي، والإنماء المغاربي ... إلخ.

ولم تستطع القومية العربية أن ترقى إلى مستوى التحديات المنوطة بأمتها

فأخفقت في تحقيق الوحدة العربية، كما أخفقت في تحقيق أي مستوى من مستويات

التعاون الاقتصادي فلم تحقق التنمية، كما لم تستطع أن تنجز مهمة التحرير

والتحدي للهيمنة الغربية وربيبتها الكيان الصهيوني، ولم تفلح كل محاولات الوحدة

حتى الجزئية، لكن النهاية الكارثية القومية كانت مع هزيمة يونيو ١٩٦٧م؛ حيث

كانت الهزيمة مفاجأة للقوميين العرب، كما كانت خاتمة أفول القومية العربية، وبدأ

الحديث عن وجود خلل في البنية الذاتية للمشروع القومي العربي، وبدأت النزعة

القُطرية في التصاعد إلى حد أن الصراعات (العربية العربية) جعلت بعض الدول

العربية تستجدي أمنها من دول غربية، وكان الغزو العراقي للكويت عام ١٩٩٠م

قمة المأساة للقومية العربية وللنظام العربي الذي عرف كثيراً من الصراعات؛ لكنها

لم تصل إلى حد غزو دولة من دولة لأخرى.

ولم يعد العرب قادرين حتى على اجتماع القمة بوصفها آلية لحل المشاكل

المستعصية لهم؛ لأن قرار هذا الاجتماع لم يعد بيدهم وإنما بيد أعدائهم.

تجاوز القومية:

بالطبع فإن الحركة القومية العربية كانت مقصودة من أعداء الأمة الإسلامية

ببث الفكر القومي فيها لما للعرب من ثقل بالنسبة للإسلام، ثم انتشرت هذه الفكرة

كانتشار النار في الهشيم في كل البلدان الإسلامية. وفي الواقع فإن الفكرة القومية

التي تؤسس للرابطة على أساس العرق تؤدي إلى ظهور أفكار طبقية أقل لشعوب

داخلها مثل الفرعونية والقبطية والآشورية والفينيقية وغيرها من أفكار ذات طابع

تجزيئي وطائفي، ومع التحديات والهزائم التي واجهتها القومية باتخاذها حركة

تستبعد الإسلام بدأ الحديث بين القوميين عن العلاقة بين العروبة والإسلام، وبدأت

مراجعات واسعة عند القوميين العرب؛ حيث أصبح الإسلام بالنسبة لهم هو مادة

العروبة التي لا يمكن أن تنفصل عنه، وكما يقول جميل مطر في مقاله (مستقبل

العروبة) :» لم تعد القومية قادرة بظروفها الراهنة وظروف السياسة والسياسيين

في العالم العربي على ملء فراغ الفكر السياسي؛ وهو الفراغ الذي تدور فيه النخب

السياسية والقوى الحاكمة العربية، وتجر شعوب المنطقة بأسرها لتدور معها في هذا

الفراغ المدمِّر «.

ويقول محمد حسنين هيكل:» على مدى خمسين عاماً كانت قضية تحرير

فلسطين فكرة ملزمة للجميع؛ فالأمَّة العربية سوف تشعر وكأنها كتلة رخوة تنجذب

إلى بؤرتها بالمعتقدات الأساسية للدين، وسوف يعود مزيد من الناس إلى الهوية

الأصلية للمنطقة؛ ليست هوية قومية ولا عروبية وإنما هوية إسلامية. إن الإسلام

هو مركز الثقل في العالم العربي والإسلامي، ولا يمكن لأي مشروع للنهضة أن

يتحقق بدونه، وكما قال الشاعر الألماني (غوته) : «من كان عليه أن يرفع حملاً

ثقيلاً فإنه ينبغي عليه أن يعرف مركز الثقل» ، ومركز الثقل في المجتمع العربي

هو الإسلام «.

* * *

المراجع:

١ - محمد محمد حسين، الإسلام والحضارة الغربية، القاهرة، دار

الفرقان، د. ت.

٢ - محمد محمد حسين، الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، القاهرة،

مكتبة الجماميز، ج٢، د. ت.

٣ - زين نور الدين زين، نشوء القومية العربية مع دراسة تاريخية في

العلاقات العربية التركية، بيروت، دار النهار، ١٩٧٩م.

٤ - برهان غليون، المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات، القاهرة، سينا

للنشر، د. ت.

٥ - أحمد يوسف أحمد، مصر وتجديد المشروع القومي العربي، رؤية ذاتية،

بحث مقدم إلى المؤتمر السنوي العاشر للبحوث السياسية، ديسمبر، ١٩٩٦م.

٦ - أحمد ثابت، تجديد المشروع القومي في الفكر المصري، بحث مقدم إلى

المؤتمر السنوي العاشر للبحوث السياسية، ديسمبر، ١٩٦٠م.

٧ - جميل مطر، مستقبل العروبة، الهلال، يوليو ١٩٩٣م، ع ٧.

٨ - MOHAMMED H. HEIKAL , ISREAL & Palestine

The Independent, sep, ١٣, ١٩٩٣.

٩ - كمال السعيد حبيب، الأقليات والممارسة السياسية في الخبرة الإسلامية،

رسالة ماجستير في العلوم السياسية، ١٩٩٥م، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية،

جامعة القاهرة.

١٠ - محمد أنيس، الدولة العثمانية والشرق العربي (١٥١٤ ١٩١٤م) ،

القاهرة، الأنجلو، ١٩٨٥م.

١١ - عصمت سيف الدولة، العروبة والإسلام، بيروت، مركز دراسات

الوحدة العربية.