هموم ثقافية
نكون.. أولا نكون..!
نظرات في مذكرات المرأة الصهيونية الرجل
أحمد عبد الرحمن الصوبان
الدارس لتاريخ الحركة الصهيونية الحديثة يجد عجائب وغرائب كثيرة جداً،
فمن شعب مهين مستضعف مشتت في كلّ أنحاء العالم، يتحول اليهود خلال سنوات
قلائل إلى أمّة قوية مهيبة، يتساقط تحت أقدامها قادة المشرق والمغرب.
جولدا مائير (رئيسة وزراء إسرائيل ١٩٦٩- ١٩٧٣م) إحدى النساء اللواتي
ساهمن مساهمة قوية في قيام دولة إسرائيل، قال عنها ابن غوريون أول رئيس
للوزراء عندما عادت من أمريكا محملة بخمسين مليون دولار بعد حملة تبرعات
واسعة: سيُقال عند كتابة التاريخ: إن امرأة يهودية أحضرت المال، وهي التي
صنعت الدولة [ص١٧١من مذكراتها] ، بل قال عنها ثانية: إنها الرجل الوحيد في
الدولة! [ص٩٧] ، عندما قرأت مذكراتها وجدت دروساً عملية جديرة بالتأمل
والنظر، منها:
الأول: ضرورة الإيمان الراسخ بالهدف الذي يدفع للبذل والعطاء، وتحويله
من حلم إلى حقيقة واقعة.
الثاني: أن آمال الإنسان لا تتحقق إلا بالإصرار والصبر وطول النفس،
واستسهال الصعاب..!
ودعونا الآن نقرأ بعض هذه المقاطع التي لا تحتاج إلى تعليق:
لقد شعرت أن الرد الوحيد على قتل اليهود في أوكرانيا هو أرض فلسطين،
يجب أن يكون لليهود أرض خاصة بهم، وعليّ أن أساعد في تحقيق هذا، لا
بالخطب والتبرعات، بل الحياة والعمل هناك معهم في أرض فلسطين [ص٥٤] .
لقد كانت مسألة العمل في حركة العمل الصهيوني تجبرني للإخلاص لها
ونسيان همومي كلها، وأعتقد أن هذا الوضع لم يتغير طيلة مجرى حياتي في الستة
عقود التالية [ص٥٦] .
لقد كانت (فلسطين) هي السبب، ولأجلها حضرنا جميعاً، ولأجلها تحملنا
المشاق! .. لقد كنت شغوفة في شرح طبيعة الحياة في إسرائيل لليهود القادمين،
وأوضح لهم كيف استطعت التغلب على الصعاب التي واجهتني عندما دخلت
(فلسطين) لأول مرة، ولكن حسب خبراتي المريرة التي مارستُها كنت أعتبر أنّ
الكلام عن الأوضاع وكيفية مجابهتها نوعاً من الوعظ أو الدعاية، وتبقى الحقيقة
المجردة هي وجوب إقامة المهاجرين وممارستهم للحياة عملياً. لم تكن الدولة
الإسرائيلية قد أنشئت بعد، ولم تكن هناك وزارة تعنى بشؤون المهاجرين الجدد،
ولا حتى من يقوم على مساعدتنا لتعلم اللغة العبرية، أو إيجاد مكان للسكن، لقد
كان علينا الاعتماد على أنفسنا، ومجابهة أي طارئ بروح بطولية مسؤولة!
[ص ٧١] .
كان الروّاد الأوائل من حركة العمل الصهيوني هم المؤمنون الوحيدون الذين
يستطيعون تحويل تلك المستنقعات أو السبخات (! !) إلى أرض مروية صالحة
للزراعة، فقد كانوا على استعداد دائم للتضحية والعمل مهما كان الثمن مادياً أو
معنوياً..! [ص٧٤] .
عندما أتذكر وضع (السوليل بونيه) [منظمة يهودية] منذ زمن أي: منذ
١٩٢٧م في مكتبها الصغير في القدس يوم كانت لا تستطيع دفع أجور العمال، ثم
أفكر في وضعها الحالي، والخمسين ألف موظف وموظفة، وبمدخولها الذي وصل
إلى ٥. ٢ مليون ليرة إسرائيلية، عندها أحتقر أي شخص يقول أو يُنكر على
الصهيونية تفاؤلها [ص ٩٥] .
إننا في اجتماعنا هذا لن نُعيد المسيح إلى الحياة (في زعمهم) ، ولكن لابد لنا
من القيام بمجهود لنقنع العالم بما نريده وبما نحن عليه! ! [ص٩٩] .
أعتقد أن هناك سببين فقط يمثلان المحنة القومية التي مررنا بها، أحدهما:
الانهيار والاستسلام، والقول: لا أستطيع أن أتابع. والثاني: أن تكشر عن أنيابك
وتحارب بكل ما أوتيت من قوة على كل الجبهات التي تواجهك مهما كانت المدة
صعبة وطويلة، وهذا بالضبط ما قمنا به في السابق، ونحن قائمون به الآن!
[ص ١٢٠] .
أدركت أنه لا يكفي لشعب ضعيف أن يثور لكي ينال عدلاً مطالبه، أما مبدأ
(نكون أو لا نكون) فعلى كل أمة أن تعمل به وبالتالي تقرر مصيرها بطرقها
الخاصة، وعلى اليهود ألا يعتمدوا على أحد من أجل تقرير مصيرهم [ص١٣٠] .
لم يقدم لنا الاستقلال على طبق من فضة، بل حصلنا عليه بعد سنين من
النزاع والمعارك، ويجب أن ندرك بأنفسنا ومن أخطائنا الثمن الغالي للتصميم
والعزيمة [ص٢٣٨] .
أخبرت اليهود في جميع أنحاء أمريكا أن الدولة الإسرائيلية لن تدوم
بالتصفيق ولا بالدموع ولا بالخطابات أو التصريحات! ، إنما يجب توفر عنصر
الوقت لبنائها، قلت في عشرات المقابلات: لن نستطيع الاستمرار دون مساعدتكم؛ فيجب أن تشاركونا بمسؤولياتكم في تحمل الصعاب والمشاكل والمشقات والأفراح، صمموا على المساعدة وأعطوني قراركم! لقد أجابوا بقلوبهم وأرواحهم بأنهم
سيضحون بكل شيء في سبيل إنقاذ الوطن! ! [ص١٨٥] .
[٢]
أرجو من القارئ الفطن أن يقرأ هذا المقطع بتمعن شديد، ثم يقارنه
بالشعارات الثورية التي ملأت الأمة بضجيجها وصخبها لعبد الناصر ومن بعده من
قادة التحرر العربي ... ! ! .
تردد الجموع بكل بلاهة:
من الخليج الثائر.. إلى المحيط الهادر.. لبيك عبد الناصر!
فتجاب بكل استهتار ومهانة: سنرمي إسرائيل في البحر!
والنتيجة هي تحطيم الطيران المصري كله على أرض المطار.. فالقادة
يعبثون ويشربون حتى الثمالة، ويتراقصون على أنغام الموسيقى، ولا يدركون ما
حدث إلا حينما انتهى كل شيء..! !
وبعد هذا الإحباط.. حتى تلك الشعارات الثورية سقطت.. وتحركت القلوب
الرحيمة تندد بالفدائية، وتنادي بالسلام وحقن الدماء.. فلابد أن نتفرغ للبناء، فقد
أنهكتنا الحروب..!
إنها حرب عقيدة، ولن تنتصر الأمّة بشعاراتها النفعية وإعلامها الرخيص،
فمتى يدرك الناس أننا قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله؟!. فإما نكون أو لا نكون..! ! [ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم
يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون] [النساء: ١٠٤] .