افتتاحية العدد
[سيهزم الجمع ويولون الدبر]
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي -صلى الله عليه وسلم- بعده، أما بعد:
يحزن كل مسلم مخلص غيور ويغتم، عندما يرى تداعي الأمم الكافرة من كل
صوب على القصعة الإسلامية الحافلة الآن بصنوف المذابح التي تنتهك فيها
الحرمات والأعراض، ويداس فيها على كرامة أمة غفلت عن وعيها.
فالتجمعات السياسية والتحالفات العسكرية والدعاية العالمية تتفق جميعها على
هدف واحد: هو القضاء على المد الإسلامي المتصاعد في جميع أرجاء الأرض،
وذلك تحت مسمى القضاء على الأصولية والتطرف والإرهاب.. يتفقون على ذلك
الهدف وإن اختلفت مللهم ومناهجهم ومصالحهم ... يتفقون على ذلك الهدف وإن
اختلفت نظرتهم وخططهم في الاستئصال والاجتثاث أو التذويب والاحتواء والمسخ.
ولكن المؤمن الواثق بربه، العالم بدينه، الواعي بسننه، يرى في الغيوم غيثاً
واصباً، ويسمع في صراخ المخاض صيحات الوليد، ويدرك أنه ما أتى فجر إلا
بعدما احلولكت الظلمة.
وهذا ما علمنا إياه قرآننا الذي يخشون فهمه وتدبره:
فيوسف (عليه الصلاة والسلام «بدأ التمكين له عندما كان يباع ويشترى،
وحيداً شريداً ضعيفاً؛ [وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ
* وَقَالَ الَذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً
وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ] [يوسف: ٢٠، ٢١] .
ولوط (عليه الصلاة والسلام» جاءته النجاة عندما كان قومه يتأهبون للتخلص
منه بسبب طهره، [فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إلاَّ أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ
إنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الغَابِرِينَ]
[النمل: ٥٦، ٥٧] .
وأصحاب موسى (عليه الصلاة والسلام) : بدأ التمكين لهم وهم في أشد حالات
الاستضعاف: يُذبحُ أبناؤهم وتُسْتَحْيَا نساؤهم، وكان فرعون في أعلى حالات
الجبروت والإفساد: [إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ
طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ
عَلَى الَذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي
الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ]
[القصص: ٤، ٦] .
هكذا نتعلم من كتاب ربنا: أن أقصى نقطة استضعاف هي أول نقطة تمكين
بشرط أن تكون حالة الفئة المستضعفة في أعلى نقطة إخلاص وارتباط بالله ولجوء
إليه، وبعد ذلك تظهر الأسباب التي ينبغي على الطائفة المؤمنة السعي إليها
واستغلالها ... وهذا ما وعاه المؤمنون من أصحاب طالوت بعد سنوات التيه الذي
كان بسبب ذنوب ومعاصي وتمرد بني إسرائيل على أوامر الله: [.. قَالَ الَذِينَ
يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا
وَانصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُم بِإذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ
المُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ
وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ] [البقرة ٢٤٩٢٥١] .
وفي ضوء هذا، نستطيع أن ننظر نظرة مختلفة إلى الأحداث الجارية بعد أن
نعيها ونعي مراميها، ونستطيع أيضاً إدراك أن لكل منا دوراً في الذب عن دين الله: للعالم والجاهل، والكبير والصغير، والقوي والضعيف، والغني والفقير.
لقد ساعدت الهجمة الأممية الشرسة المتواصلة وما صاحبها من بغض وضغينة
ظاهرين على العالم الإسلامي على القيام بدور الصدمات الكهربية اللازمة لإفاقة هذا
العالم من غيبوبته الطويلة، فأخذ يتململ من سباته، رغم الجهود الإعلامية الحثيثة
لتخفيف أثر هذه الصدمات، أو مصاحبتها بمسكنات للألم، أو إفراغ أثرها في
مجرى تغييب الأمة عن رسالتها الحقة.
فالوحشية الصربية والمؤامرة الدولية الماكرة المصاحبة لها نبهتنا أنه ما زال
لنا عرق ينبض في قلب أوروبا، والاجتياح الروسي لأرض الشيشان وما أعقبة من
دك همجي ذكّر المسلمين من أهلها الذين ولدوا في عنفوان الحقبة الماركسية الطاغية
بأن لهم أصولاً إسلامية وتاريخاً إسلاميّاً ينبغي الاعتزاز به والعودة إليه ومحاربة
أعدائه، وهدم المساجد في الهند أرانا أن لهذه المساجد حماة يذودون عنها بأجسادهم
النحيلة العارية.
إننا نعود ونؤكد أن من السذاجة أن ننتظر من أعدائنا أن يحنوا علينا ويرفقوا
بنا، وأن مكرهم وتحالفهم وتكالبهم لا يقلق المؤمن الواعي [وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ
الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إلاَّ إيمَاناً
وَتَسْلِيماً] [الأحزاب: ٢٢] ، [الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ
فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ] [آل عمران: ١٧٣] .
ولكن الذي يقلق حقّاً هو تردي حالنا؛ بالانقطاع عن الله، والغثائية، وتمكن
حب الدنيا والوهن من قلوبنا، وتفشي السلبية والعجز بيننا، وسيطرة الإحباط
واليأس على نفوسنا؛ فالضعف الداخلي هو أول خطوات الانهيار.
وإذا كانت قوى الكفر تملك مقدرات البطش العسكري، والهيمنة السياسية،
والتقدم التقني، والتأثير الإعلامي، فإنها تحمل أيضاً عوامل ضعف وتحلل في
مجتمعاتها، وهي لا تملك إرادتنا وعزيمتنا على التغيير والإصلاح، ولا تملك قدر
الله وإرادته النافذة في ملكه وملكوته.
يوم بدر، بعد أن أحكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أمكنه من أسباب
مادية للنصر، وبعد أن جهز الفئة المؤمنة القليلة: بات ليلته يتضرع إلى الله «فما
زال يهتف بربه حتى سقط رداؤه عن منكبيه» .. «فأخذ أبو بكر بيده، فقال:
حسبك يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ألححت على ربك وهو يثب في
الدرع فخرج وهو يقول: [سيهزم الجمع ويولون الدبر] .
وهزم الجمع وولوا الدبر.
هذا وعد الله ... ولكن هل نستحق نصره؟
[وَعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا
اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ
أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ]
[النور: ٥٥] .