[الجرائم الجنسية: سياسة رسمية للمحتلين]
د. رضا عبد الحكيم رضوان
أساليب المحتلين بالتهديدات الجنسية لا نتزاع المعلومات من المعتقلين والموقوفين
تنظم القوانين الجنائية الوطنية التصرفات المؤثمة التي تمثل انتهاكاً للأعراض بالمعنى الشامل العام، وتضع جزاءات واجبة التطبيق ضد مقترفي تلك الأفعال غير المشروعة، فيما جرت عليه التسمية المعروفة (الجرائم الجنسية) ، ويندرج تحت هذا الوصف الزنا، والدعارة، وإدارة الأماكن الخاصة لهذه الأعمال المشينة، والتحرش الجنسي، والمثلية الجنسية بين الذكور (اللواط) أو بين الإناث (السحاق) ، وهتك العرض، والاغتصاب، وغير ذلك من صور أخرى مما نص عليه في القوانين.
والذي نعلمه بالنسبة للجريمة (عموماً) في المجال الدولي، أنها تختلف عن الجريمة الوطنية الداخلية، إذ ترتكب الجريمة الدولية باسم وحساب الدولة التي ينتمي إليها مرتكبو الأفعال، والتصرفات الخارجة على قواعد القانون الدولي وأعرافه، والمعاهدات الدولية، والاتفاقيات المنظمة لحقوق الدول فيما بينها. والمقرر في هذا الصدد أن ثمة فرع قانوني خاص، هو القانون الدولي الجنائي، ومخالفته ـ فيما استقر عليه رأي الشراح ـ تمس الضمير العالمي في أعماقه، مما يخول لمنفذي هذا القانون سلطة إيقاع عقوبات ضد المخالفين؛ باعتبارهم مجرمين دوليين لا مناص، ينبغي الاقتصاص منهم حماية لحقوق المجتمع الدولي، فالعقوبة المطبقة ههنا هي باسم المجتمع الدولي، ولحماية نظامه العام الذي ينبغي أن تراعيه كافة الدول بالمعمورة.
ثمة نماذج تجريمية عديدة نُص عليها في القانون الدولي الجنائي، كجرائم الحرب العدوانية، والتآمر الدولي، والإرهاب الدولي، والتفرقة العنصرية والعرقية، وجرائم تقع أثناء الحرب وبسببها، مثل انتهاك المواثيق الدولية المنظمة لحقوق الأسرى، وغير ذلك كثير مثل: استخدام مواد وأساليب محظور استعمالها دولياً ... وهكذا.
يتوقف هذا البحث عند أنماط تجريمية غريبة ذات أبعاد أخلاقية، تم التوصل إلى التعرف على أشكالها ونماذجها من خلال وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، شاعت مؤخراً من مقتضيات الضبط العسكري أثناء الاحتلال الأمريكي للعراق، ففتحت السجون والمعتقلات، وتم الزج بكثير من أبناء الشعب العراقي عسكريين، ومدنيين، وساسة، وغيرهم.
ولا تناقش الدراسة شرعية التصرفات من عدمه، فهذا يلزم له موضوع مستقل يعتمد على توثيقات ومصادر أصلية للتقرير بالرأي حول مدى التزام القوات الغازية بأحكام القانون الدولي في أحقية الحجز والحبس والاعتقال من عدمه، وذلك بصفة أساسية.
ودون الخوض في تفصيلات شرعية الاعتقال، ومدى التزام القوات المتحالفة الغازية بإحكام القانون الدولي ويهمنا إلقاء الضوء على جرائم أخلاقية وقعت داخل هذه السجون التي أدارتها السلطات العسكرية المحتلة متجاوزة الحدود الشرعية بكل ما تعنيه الكلمات من معانٍ. فالمُحقَّق هو وقوع جرائم جنسية ضد المتعقلين رجالاً ونساءً. وهكذا أجد أن الجرائم الجنسية لم يعد القانون الوطني الداخلي هو موطنها الرئيسي، بل إن الجرائم الجنسية قد تخطت حدود ذلك إلى (الدولية) ، وإنه من الإنصاف، بل إنه من اللازم والموافق للقانون الدولي أن تُفرَد نصوص خاصة تعاقب المجرمين الدوليين مقترفي الجرائم الجنسية ضد المعتقلين، وأن تكون هذه النصوص مشددة الجزاءات تحقيقاً للردع العام الدولي، ذلك إذا كان العالم المتمدن المعاصر يرغب في تحقيق الضبط والمحافظة على إنجازاته التي حققها عبر القانون.
على سند من تقرير المجموعة المستقلة لمراجعة عمليات الاعتقال من جانب وزارة الدفاع الأمريكية، والمؤرخ بتاريخ ٢٤ آب/أغسطس ٢٠٠٤م، في السنة التالية لغزو العراق اعتقلت العمليات العسكرية والأمنية الأمريكية آلاف الأشخاص، ومن هذه الأعداد ظهرت شكاوى المئات بوقوع جرائم جنسية مشينة ضدهم. ولحفظ ماء الوجه أجرت سلطات الرقابة العسكرية ـ بتوجيه سياسي ـ تحقيقات مع المسؤولين عن وقوع هذه التصرفات. فالأصل أن يعامل المعتقلون بطريقة إنسانية، وبما يتفق ـ إلى الحد الملائم والمتسق مع الضرورة العسكرية ـ مع مبادئ جنيف، والالتزام بالمعايير السلوكية لعمليات الاستجواب التي تمارس حيال هؤلاء المعتقلين ضماناً لتنفيذ نصوص معاهدة تحريم التعذيب، أي: إلحاق الأذى البدني أو العقلي بشكل قاسٍ صعب التحمل.
والحقيقة أن وزارة الدفاع الأمريكية ـ على المستوى الداخلي ـ قد نظمت بلوائح وطنية ضوابط للاستجواب بهدف الحصول على معلومات مخابراتية، بما يخدم مصالحها الحربية في مناطق العمليات، ومن هذه اللوائح مثلاً: الدليل FM-٣٤-٥٢. وقد دلت الأخبار والمعلومات على لجوء قوات الاحتلال إلى أساليب ليست متضمنة في الوثيقة المعتمدة، بل وحتى استثناءات التشدد التي صدرت تباعاً.
كانت وزارة الدفاع الأمريكية في أغسطس ٢٠٠٣م، قد أرسلت فصيلة المخابرات العسكرية رقم (٥١٩) إلى منشأة الاعتقال في سجن (أبو غريب) ؛ لإجراء عمليات الاستجواب، وجمع المعلومات بطرق المخابرات، وقد طلبت هذه الفصيلة من القائد العام للقوات الأمريكية في العراق، إصدار قرار يخولها استخدام أساليب استجوابية أكثر تشدداً، علاوة على ما هو وارد في لائحة الدليل الميداني FM-٣٤-٥٢.
يذكر ـ وهذا مؤكد باعتراف المصادر الأمريكية الرقابية ـ وقوع إساءات ضد المئات داخل المعتقل تمثل تجاوزات إنسانية على قدر كبير من الخطورة، خروجاً على اللوائح الخاصة بالسجون، وحتى ما جاء في الدليل الميداني الأمريكي والتوسعات الاستثنائية التالية. إن إجراء العنف المغالي فيه أثناء الاستجواب أسفر عن حدوث حالات وفاة، وهذه الحالات بالفعل محل تحقيقات لدى السلطات الأمريكية، وحققت السلطات الرقابية في الولايات المتحدة في واقعات وصفها المسؤولون «سلوكيات شاذة» ، كانت هذه السلوكيات قد صُور ممارستها وتم بثها إعلامياً، وفيها إكراه المساجين على ممارسات اللواط! بل وممارسة الجنود اللواط إكراهاً ضد المعتقلين، وغير ذلك من صور مقززة تم نشرها مع مطلع العام ٢٠٠٤م، وقد أكدت التقارير مسؤولية جهاز المخابرات وجنود الشرطة العسكرية والذين ارتكبوا ٤٤ حالة إساءة، وقد أدرجت الوقائع بملفات تحقيقات تتهم مباشرة اللواء رقم ٨٠٠ للشرطة العسكرية، واللواء رقم ٢٠٥ للمخابرات العسكرية، وقائد الكتبية رقم ٣٢٠ للشرطة العسكرية، ومدير المركز المشترك لاستخراج المعلومات والاستجواب.
«نرجوكم هاجموا السجن بكل ما تملكون من أسلحة ... دمروا السجن واقتلونا معهم (مع الأمريكين) ... بالله عليكم افعلوا هذا؛ لأن بطوننا امتلأت بأولاد الزنى» .
هذا هو باقتصاب شديد فحوى النداء الذي حملته امرأة عراقية، تعرضت لاعتداء جنسي في سجن (أبو غريب) ، ووصلت سراً في آذار/ مارس ٢٠٠٥م، وكان لها صدى يفوق كل وصف تقريباً في مختلف الأوساط الاجتماعية والثقافية والسياسية. الرسالة بعثت بها امرأة تدعى (نور) . إن هذه العراقية الأسيرة تعرضت وأخريات معها إلى عمليات اغتصاب منتظمة قام بها الجنود الأمريكيون المكلفون بحراسة وإدارة السجن.
والرسالة مؤرخة في ٢٠ شباط/ فبراير ٢٠٠٥م، أي بعد نحو عامين من الاحتلال، ونحو عام من تفجر فضيحة (أبو غريب) ، إثر نشر تقرير الصحافي الأمريكي الشهير (سيمور هيرش) في جريدة نيويوركر (New Yorker) .
لقد خاطبت المرأة المجهولة العراقيين جميعاً من دون أن تسمي أحداً بعينه، وطلبت منهم إذا كانوا يملكون السلاح أن يهبوا لمهاجمة السجن الرهيب، وتحطيمه لتحرير السجينات.
النداء الذي وجهته المشار لها فيما يبدو أنه يصف لحظة جزع، فالمطلوب ليس مجرد الاكتفاء بتحطيم السجن أو قتل السجانيين الأمريكيين وحدهم، بل أيضاً إلى أن يقتلوهن معهم؛ غسلاً للعار، لئلا يلحق بهم الخزي إن هم تخلوا عن الحق في القصاص من جريمة الزنى، فجريمة الزنى هذه وقعت وتكررت في السجن مرات لا تحصى من دون رادع.
فهل كانت جرائم الاغتصاب الوحشي سياسة رسمية للاحتلال؟!
ü الجنس/ نقطة ضعف الآخر:
بدأت فصول فضيحة (أبو غريب الرجالية) تتكشف في الثالث عشر من كانون الثاني/يناير ٢٠٠٣م، أي بعد بضعة شهور من احتلال بغداد، عندما سلم شاب يعمل في سلك الشرطة العسكرية يخدم في السجن، قسم التحقيقات الجنائية التابع للجيش قرصاً مدمجاً (CD) مليئاً بالصور لرجال عراقيين تعرضوا خلال فترات متواصلة بعد احتلال بغداد في التاسع من نيسان/ أبريل ٢٠٠٣م لأشكال فظيعة من التعذيب، شملت أنماطاً شاذة من التعديات الجنسية، وتخللتها ممارسات لا أخلاقية فاضحة. هذه الصور هي السجل الحقيقي وشبه الكامل عن الفضيحة، وخلال ثلاثة أيام كان تقرير قسم التحقيقات الذي تلقى الوثيقة، قد وجد طريقه إلى وزير الدفاع الذي أبلغ بدوره الرئيس الأمريكي بالقضية. أما فصول فضيحة (أبو غريب النسائية) التي ما يزال البنتاغون يواصل تكتمه عن حقيقتها بالرغم من نشر مئات الصور للنساء المغتصبات على شبكة الانترنت، فإنها ستظل في أقبية الطابق السفلي وفي أدراج الغرف المظلمة، حتى من دون الاعتراف بوجود تاريخ مُدَوَّن، أو وثائق تخص الواقعة.
المجرمون غالباً ما يقومون بإتلاف الأدلة، ومحوِ آثار جريمتهم. ولكن الضحايا غالباً أيضاً ما يتمكنون في النهاية من عرض أجسادهم كدليل دَوَّن المجرمون فيه تاريخ جريمتهم.
ü من وراء حجاب:
في منتصب تموز/ يوليو ٢٠٠٣م كانت قد انصرمت ثلاثة شهور على سقوط بغداد وانهيار البلاد، وغرقها في الفوضى، عندما وردت بعض المعلومات العمومية والأولية عن وضع السجينات العراقيات في (أبو غريب) . كانت المعلومات شحيحة، وربما مشوشة في خضم أحداث متلاحقة وعنيفة. ومع ذلك، فقد كان من الواضح أن أسلوباً جديداً في انتزاع المعلومات من المعتقلين قد بات مطبقاً على نطاق واسع من قبل قوات الاحتلال الأمريكي لا في السجون؛ وإنما كذلك في معسكرات الاعتقال التي يستخدمها الأمريكيون محطات تحقيق مؤقتة قبل نقل المعتقلين إلى السجون.
لقد تجمعت معلومات وشهادات حية من مصادر موثوقة عن تجاوزات وممارسات المحتلين، ففي منتصف تشرين الأول/ أكتوبر أصبحت هناك أول شهادة حية جاهزة لأنْ تأخذ طريقها إلى وسائل الإعلام، وتتضمن تأكيداً قاطعاً بوقوع تعديات، أوله على السجينات العراقيات. تضمنت الشهادة التي سجلت أول تأكيد مدون بحصول عمليات اغتصاب مبكرة للنساء والأطفال (كان هناك اتهام رائج بين العراقيين عن اعتداءات جنسية قام بها الجنود البولونيون على أكثر من خمسة وأربعين من الأطفال القاصرين) .
والمعلومات المتوافرة حتى نيسان/ آبريل ٢٠٠٤م أي بعد عام من الاحتلال، كانت تشير إلى وجود ٢٥ امرأة في سجن (أبو غريب) جرى اعتقالهن، ونقلهن إلى السجن في خضم الفوضى. هذا على الأقل ما بدا أن قوات الاحتلال تعترف به بصورة أو بأخرى. لكن تظاهرات عارمة تم تنظيمها، وكانت لا تزال تتواصل بأشكال مختلفة كل يوم حتى مطلع العام ٢٠٠٥م في منطقة الكرخ في بغداد، وفي الفلوجة، والرمادي كبرى مدن محافظة الأنبار والموصل، ظلت تركز على مطلب الإفراج عن السجينات فوراً.
جاءت التظاهرات الصاخبة بعد تلقي الأهالي في مطلع كانون الثاني/ يناير من عام ٢٠٠٤م، بعد مرور عام على الاحتلال، نسخاً من رسائل تم تهريبها من السجن وبشكل خاص من إحدى السجينات وتدعى (فاطمة) ، قبل أن تعقبها بوقت في شباط/ فبراير رسالة أخرى من المدعوة (نور) . هذه الرسائل والتظاهرات ساهمت في إعادة طرح موضوع نساء (أبو غريب) من جديد. بدأ خطباء المساجد أثناء صلاة الجمعة في العديد من المدن العراقية يتناولون قصة اغتصاب النساء في خطبهم، ويحثون المجتمع على التحرك؛ لوضع حد لهذا النمط الشاذ من التجاوزات. وحين استجابت جماعات عشائرية ودينية، ومنظمات حقوقية لفكرة التحرك، جرى تشكيل الوفود للقاء أعضاء مجلس الحكم المؤقت (المنحل) . لقد كان إنكار وجود سجينات سياسة ثابتة في اللقاءات التي جرى تنظيمها مع الوفود، وهي في الأصل سياسة أمريكية منهجية سرعان ما تراجعت على الأقل في أوساط السياسيين العراقيين الموالين للاحتلال، وذلك لصالح القول: بأن عددهن لا يتجاوز ٧ نساء. غير أن وصول رسالة مكتوبة باسم السجينات أعاد من جديد طرح مسألة وجود ٢٥ امرأة تعرضن بانتظام للانتهاك الجنسي.
إن السجينات كن يتعرضن بالفعل لما يمكن اعتباره عمليات اغتصاب منتظمة وذات طابع نمطي. كانت هناك سجانة (مجندة) أمريكية، وهناك مجموعة من النساء المسجونات ـ تقول سيدة من وراء حجاب لإحدى الصحف الفرنسية ـ: «ومساء كل يوم تأتي السجانة ومعها عدد من الجنود، ويتم تجريدنا من الملابس لتبدأ الحفلة. وعندما كنا نمتنع ونقاوم، كان الجنود ينهالون علينا عندئذ بالضرب بواسطة الهراوات، وفي أحيان كثيرة كان الضرب يتركز على أطراف الأيدي، والأرجل، وتسدد اللكمات إلى الوجوه» .
لقد ألقى الأمريكيون القبض على السيدة صاحبة الرواية بتهمة أن زوجها من قادة المقاومة، وكان من الواضح أنهم استخدموا على نطاق واسع أسلوب التهديد الجنسي لا من أجل الحصول على معلومات مباشرة من المعتقلين، بل من أجل إرغام نشطاء المقاومة العراقية على الاستسلام. كان الابتزاز واضحاً بما فيه الكفاية في هذا السلوك.
ذكر أحد المراسلين أثناء معارك نيسان/ إبريل ٢٠٠٤م في الفلوجة وبعدها بقليل. قام الأمريكيون بمداهمة منزل في حي الجولان بحثاً عن عضو قيادي في حزب البعث، وأحد نشطاء المقاومة (قبل اعتقاله بعدة أشهر) . لم يتمكن الأمريكيون في هذه الغارة من إلقاء القبض على الرجل المطلوب، ولكنهم شاهدوا مصادفة شابة تبلغ من العمر ٢٢ عاماً كانت لا تزال في اليوم الثالث من شهر العسل. ولم يكن من الملائم بالنسبة إليهم العودة دون صيد ثمين، فقد اقترح أحد الجنود إلقاء القبض على الفتاة، فاستشاط الأهالي غضباً، وخرج عشرات الآلاف منهم، ومعهم أهالي الفلوجة والرمادي في تظاهرات عارمة تطالب بالإفراج عن الفتاة، وطوق المتظاهرون معسكراً للقوات الأمريكية في المنطقة، وهددوا بأن تظاهراتهم ستستمر إن لم يفرج عن الفتاة.
لقد أصبح التهديد الجنسي أسلوباً شائعاً في ممارسات الجنود الأمريكيين، ولم يعد مقتصراً على السجون الرهيبة المنتشرة في العراق (بوكا في البصرة، وسجن مطار بغداد، والحبانية) . ففي الخامس والعشرين من آذار/ مارس ٢٠٠٥م، وعلى الرغم من الصدمة التي تركتها فضيحة (أبو غريب) في العالم كله، قامت وحدة خاصة كان تطارد أحد نشطاء المقاومة ـ وهو مهندس شاب أفلت من أيدي المهاجمين ثم قتل فيما بعد ـ بمهاجمة منزل عائلته في منطقة الصقلاوية شمال الفلوجة. لقد نظمت وحدة خاصة هجوماً ليلياً مباغتاً على منزل عائلة المهندس الشاب بعد منتصف الليل، وعندما اكتشفت القوة المهاجمة أن الشخص المطلوب لا يقيم مع عائلته، قام أفرادها على الفور بإلقاء القبض على والدته المسنة مع طفل صغير لا يتجاوز عامه السابع، حيث جرى نقلهما إلى سجن الحبانية. وحتى الأسبوع الأخير من آذار/ مارس ٢٠٠٥م، كانت التجاوزات التي يقوم بها الجنود المهاجمون لا تزال معتمدة بصورة رسمية، وتحظى بالقبول من جانب القادة العسكريين، فهي تمثل من وجهة نظرهم استمراراً في أساليب معتمدة من البنتاغون لانتزاع المعلومات. في الخالدية مثلاً، قام الجنود الأمريكيون أثناء مداهمة ليلية لأحد المنازل في هذه المدينة البدوية الصغيرة، بتجريد سيدة من ملابسها في تهديد صريح بالاغتصاب إن هي امتنعت عن الإدلاء بمعلومات، وهو ما يوضح إلى أي حدّ يجري استخدام أساليب التهديد الجنسي من أجل انتزاع المعلومات من المعتقلين والموقوفين، كأن دوي فضيحة (أبو غريب) لم يحدث أي أثر لصدمةٍ أخلاقيةٍ ممزقة للوجدان الأمريكي.
ü السجن والمسجد: الاغتصاب بوصفة استراتيجة عسكرية:
هذا السلوك من منظور العقيدة العسكرية الأمريكية في الحرب يدل على أن العدوان الجنسي المستمر والمتواصل بشكل متعمد على النساء في العراق مرتبط بشكل وثيق في العدوان العسكري عليه. ومن النادر ـ إذا ما عاد المرء إلى التاريخ الإمبريالي المكتوب، والمروي بطريقة تفصيلية ـ رؤية مثل هذا التلازم في أي حرب سابقة، بين استعمال الجنود السلاح والعتاد الحربي الهائل في عملية قرصنة عسكرية عدوانية شاملة للاستيلاء على هذا البلد، واستخدام السلوك الجنسي في أي حرب أمراً لا فكاك منه. إن التحريض ـ المباشر من جانب القادة العسكريين ـ على ممارسة سلوك جنسي مشين ضد النساء، ووقوع هذا الممارسات من قبل الجنود والشرطة العسكرية، ليسا ـ تماماً ـ مجرد أمر عرضي، بل هما لب سياسة السيطرة على السكان بواسطة استغلال ما يدعى (نقطة الضعف) ، أي شعور السكان بالعار والخزي، إنه جزء عضوي من سلوك متعمد أعم، وممنهج في استراتيجية الإخضاع.
هذا السلوك المشين، المصمم بصورة مقصودة فاضحة ضد مجتمع النساء من أجل الحصول؛ بواسطة الهتك العنيف والشرس للأعراض؛ على معلومات تمكن قيادة الاحتلال من فرض السيطرة، هو في خاتمة المطاف؛ وكما بينت سلسلة الوقائع؛ سلوك مراقب ومهيمن عليه، وتحت الإشراف المباشر، وليس سلوكاً عابراً وفردياً. إنه جزء فعال في الخطة العسكرية. إن أي محاولة لتبريره أو التخفيف من وقعه هو تضليل وخداع.
حين تصبح الانتهاكات الجنسية في بلد ـ كالعراق ـ سياسة ذات طابع استراتيجي، لا مجرد حالات فردية معزولة ناجمة عن التدني في معرفة ثقافة البلد وتقاليده الوطنية، أو نتيجة الضعف في التدريب أو الكفاءة، أو تراخي درجة الانضباط والالتزام بالتعليمات، فإن السلوك المشين يغدو نوعاً من عقيدة. كانت الفكرة الاستشراقية الحمقاء القائلة: إن نقطة الضعف الكبرى والمركزية عند العرب هي الجنس؛ لأنهم يشعرون بالعار والخزي من تعرض نسائهم للانتهاك، مادة حديث دائم، ومتواصل بين المحافظين المؤيدين للحرب في واشنطن خلال الأشهر التي سبقت الغزو في آذار/ مارس ٢٠٠٣م، وكان كتاب (العقل العربي) لـ (رفائل باتاي) ، المؤلف اليهودي العنصري، هو أنجيل المحافظين الجدد، حيث ضمّن المؤلف فصلاً مقيتاً وسطحياً، مملوءاً بالمغالطات التاريخية عن العرب والجنس، فما يقوله الكتاب ينطوي على تبسيط أخرق: العرب لا يفهمون سوى لغة القوة، وأن أكبر ضعفهم هو الشعور بالعار.
هذه الطريقة في فهم العراق والعرب هي التي مهدت الطريق لارتكاب الجريمة في (أبو غريب) ، وقادت الجنود إلى ممارسة الجنس داخل مساجن الفلوجة!!
كانت جرائم (أبو غريب) الجنسية مستوردة بأدق المعاني تطبيقاً حرفياً لجرائم وممارسات مماثلة تشهدها المدن والسجون الأمريكية بانتظام ويعرفها المجتمع الأمريكي والغربي عموماً. بينما تبدو مثل هذه الجرائم في التاريخ الجنائي العراقي وكأنها من دون أي سياق منطقي. جرائم الشرف في تاريخ هذا البلد العربي تكاد تتمحور في موضوع واحد: علاقة عابرة بين امرأة ورجل، ينجم عنها حمل يتسبب في قتل المرأة في الغالب، بينما يفلت الرجل من العقاب، أو ينال قصاصاً مخففاً. ولذا تبدو قصة الاغتصاب في (أبو غريب) برمتها جديدة تماماً، وصاعقة بالنسبة إلى مجمتع محافظ مثل المجتمع العراقي.
القصة بدأت من التاسع من نيسان/أبريل ٢٠٠٣م من احتلال بغداد، ولكنها لم تنتهِ بعد؛ لأن فصلاً إضافياً أنجزه الجنود الأمريكيون في مساجد الفلوجة مؤخراً، يمكن أن يؤدي إلى مضاعفات أخلاقية، أو يضيف أبعاداً جديدة تجعل من فضيحة السجن أقل أهمية من فضيحة تحويل المساجد إلى أمكنة عبث مفضلة. ومهما يكن من أمر، فإن توسيع نطاق السلوك الجنسي المشين، بحيث يشمل مسجد المدينة وسجنها معاً ـ أي: يقوم بدمجهما معاً في فضاء جغرافي واحد ـ من شأنه أن يدعم وجود هذه الانتهاكات، وأن يخرج بها إلى العلن على رغم كل تدابير السرية. إنه التوسع الجغرافي الذي سوف يرغم المنتهك على الكشف عن جريمة انتهاكية.
من بين أكثر الأدلة قوة على أن سلاح الاغتصاب بشكل منهجي في سياسة فرض السيطرة داخل العراق ما حدث في الفلوجة أثناء اجتياحها الأخير. تكشف صحيفة آفاق عربية، وشبكة البصرة على الإنترنت في ١٧ آذار/مارس ٢٠٠٥م النقاب عن وقوع ١٤٩ حالة اغتصاب داخل مساجد الفلوجة وحدها.
وتناول هذا تقارير خاصة تؤكد أن قوات الاحتلال انتهكت أعراض ١٤٩ امرأة داخل المساجد.
يتضمن هذا التقرير الخطر والمفجع معلومات يصعب إنكارها نظراً إلى الشواهد الكثيرة على الانتهاك والقسوة: دمار هائل، تخريب فظيع لكل شيء، والتقرير في الإطار ذاته يتضمن توثيقاً لحالات اغتصاب جرت خارج أسوار سجن (أبو غريب) .
تقع الفلوجة فعلياً في الفضاء الجغرافي لسجن (أبو غريب) الرهيب، وتربطها به شبكة طرق زراعية، فضلاً عن طريق سريع يصل ما بين بغداد والمحافظات. إن لهذا الأمر دلالة خاصة؛ لقد نقل الأمريكيون سلوك الاغتصاب الجنسي، كسياسة رسمية في استراتيجية السيطرة على المناطق، من زنازين السجن المغلقة إلى المدينة ومحيطها مروراً بالمسجد، وبذلك فإنه نوع جديد وغير مسبوق في المدينة، يعملون على تدنيسها، وتهشيم كل قدسية محتملة لها (كانت الفلوجة ولا تزال في أنظار العراقيين رمزاً مقدساً للمقاومة البطولية) .
وبذلك فإنهم، وعبر هذا النقل الميداني للعنف الحربي الممزوج بالسلوك المشين، يقومون عملياً ببناء مجتمع النساء النموذجي الذي تنقلب فيه طهارة المسجد إلى دنس، ويتحول فيه مكان العبادة إلى مكان موبوء وملوث ومتسخ ومملوء بالقاذورات. ولعل المشاهد المحزنة التي نقلتها الفضائيات لمساجد الفلوجة، وقد تحولت إلى أماكن ملوثة بفعل القاذورات، والأوساخ، والأتربة الناجمة عن الدمار، تعطي صورة دقيقة إلى حدٍ ما عن مغزى التلويث وحجمه وحدوده، والغرض منه. بيد أن وقوع حالات الاغتصاب داخل المساجد ـ وهو أمر لا شبيه له في أي حرب سابقة ـ من شأنه أن يجعل من هذه المعلومات مصدر فضيحة أخلاقية وثقافية كبرى.
لقد أصبح المسجد امتداداً للسجن بفضل هذه الاستراتجية. إنه السجن النموذجي للمسلم، سواء أكان امرأة محجبة أم رجلاً. بهذا المعنى، فإن الوظيفة الحقيقة للانتهاك الجنسي للنساء المحجبات داخل المسجد، إنما هي دمجه ومماهاته مع السجن. وبذلك يتحول المسجد إلى زنزانة، مثله مثل الحجاب في تصورات الأمريكيين له.
يلاحظ أن الجنود والضباط الذين يتولون التعذيب في سجن (أبو غريب) ينتمون ـ في غالبيتهم ـ إلى المسيحية الصهيونية، وهذا جلي في حالة سجن آخر هو سجن المطار (مطار بغداد) ، وفي سجن قصر السجود. ثمة سجن ثالث يدعى (سجن بوكا) في أم قصر، إنه من المعتقلات الرهيبة التي لم يكن العراقيون قد سمعوا بها من قبل؟! الآن تحول الميناء الجميل المطل على الخليج إلى سجن. يقول المراقبون: «كانوا يتركون السجناء من دون استحمام طوال شهر في طقس صيفي حار لا يطاق، وفي ظروف شديدة القسوة، بعد ذلك يأمرون السجناء رجالاً ونساء بالاستحمام الجماعي» . في هذه الحالة يصبح مجتمع الاغتصاب النموذجي مكتملاً من حيث معماريته الاجتماعية، فهو ينقل الاختلاط بين النساء والرجال إلى مرحلة العري البدائي الكامل، وينجز من دون تردد العودة إلى العرية الأولى: «ربي كما خلقتني» .
إن حالات العدوان هذه أضحت وسيلة أو أداة لانتزاع المعلومات، وكذلك لتدريب المجتمع المحتل بأسره على تقبل ثقافة أخرى هي ثقافة الاختلاط العاري، والعودة إلى الحرية الأولى للإنسان. وعلى الأرجح ترتبط مثل هذه الانتهاكات بشكل وثيق ـ كما بيّن التاريخ الجنسي للكولونيالية في آسيا وأفريقيا، وكما يوضِّح التاريخ الجنسي للإمبريالية الأمريكية في كوريا واليابان والفلبين ـ بدرجة تعاظم نفوذ وسيطرة القوة المحتلة، إلى الحد الذي يصبح فيه اعتداء الجنود على نساء البلد المحتل جزءاً من نظام السيطرة الثقافية.