[التقشف وسيلة المرأة لمقاومة الحصار]
رامي أبو سمرة
المرأة التي أتقنت رتْقَ ثياب أطفالها كانت تصارع الوقت والألم معاً، وكانت تدرك في سريرتها أن زمن (البطر) قد راح مع كل صاروخ تُدَكُّ به غزة، وحلّ وقت آخر هو خليط من اليأس والأمل والحصار والمعاناة؛ يأس السنوات الماضية وأمل السنوات القادمة، وفي الحالتين ثمة مفارقة ظلّت تكتنف المشهد الفلسطيني بِرمّته على مدار الحصار الطويل.
هذه المرأة وغيرها من النساء الفلسطينيات، ظللن يكافحن واقع الحال بصبر وثبات وانتظار، بدأ في كثير من الأوقات غامضاً وحرجاً، ولعل الرجال كانوا ـ وما زالوا ـ أكثر استعداداً لفهم المسؤولية المتنامية في تضييق فجوة الحصار وآثاره على الأسرة.
التقشُّف مفردة اقتصادية أخذت أهميّتها تتسع بين العائلة الفلسطينية خلال العام الجاري، دخلتْ إلى حياة الناس من أوسع الأبواب حقيقةً لا بد من الإقرار بها والتعامل معها كحل أخير في مواجهة الحياة الصعبة. وهكذا يكون التقشُّف وسيلة من وسائل التواصل مع الواقع المأساوي على حساب أشياء كثيرة، ولكن كان لا بد من ذلك؛ فالحياة ما عادت كبيرة جداً في عيون الناس، وزمان السعادة ينحسر بالتدريج.
ولقد رصدت طرق التقشُّف لدى العائلة الفلسطينية عبر الاستطلاع الميداني مع النساء في البيوت؛ لمعاينة الوسائل والطرق التي ابتدعها الناس هنا وهم يواجهون مستقبلاً غامضاً بطبيعة الحال.. فما الذي وجدناه؟
٣ نجاح صبحي (ربّة بيت) : لم تكن امرأة كبيرة في السِّن؛ إنها أصغر مِمّا يعتقده المرء، لكنّ رعبَ السنوات جعل على وجهها تعباً صريحاً؛ فهي أم لسبعة أولادٍ أكبرُهم في العشرين. تقول نجاح عن تدبيرها المنزلي: أكثر ما يزعجني في هذه الظروف ثياب الأطفال؛ أربعة من أولادي صغار لا يفهمون ما الذي يجري بيننا من عذاب، إنهم يريدون دائماً..، ويستهلكون كثيراً..، وراتب زوجي لا يكفي أصلاً لمثل هذه المشكلة! أما بعد أزمة الرواتب فحدِّث ولا حرج، فكان لِزاماً علينا أن نحل هذه المشكلة بِاستثناء الأولاد الكبار؛ فالبقية يتناوبون في استبدال الثياب فيما بينهم حسب الأعمار والطول، ثم إن هذه الملابس تخضع للغسيل والترتيق المستمرَّيْن. وفي أكثر الحالات، بعد الاستهلاك الكلي لها، نستفيد منها كقطعٍ لمسح البيت وأثاثه، أو ألبسة داخلية للأطفال ... ، هكذا نصارع حالنا ونتنصر على الوقت إلى أجل لا نعرفه.
٣ سميّة محسن (ربّة بيت) تواجه حالة الغذاء اليومية بشيء من الارتباك وتقول: إنها توازن بين الحصة التموينية التي توفّرها الدولة (لِكونها مسجلة كحالة اجتماعية) وبين المتطلبات الضرورية الأخرى؛ وهذه المتطلبات هي التي تستهلك الحال المتواضعة، مشيرة إلى راتب زوجها الموظف وبين احتياجات الفطور الصباحي بشكل يومي؛ إذ إن الحصة التموينية لا توفِّر البيض والأجبان واللحوم ومستلزمات أخرى مما تحتاجه الأسرة بشكل مستمر وملِّح، لا سيما بوجود أطفال يحتاجون إلى الأغذية الضرورية الكفيلة بالمحافظة على صحتهم ونموِّهم. وتضيف سمية: إننا نشتري البيض مرة واحدة في الأسبوع، وقد يتخلل أن نشتري الحليب؛ غير أنَّ معظم الأصباح يكون فطورنا الطماطم والبطاطاس والباذنجان، حتى الأطفال تعودوا على ذلك، وليست لدينا مشكلة ولله الحمد.
اللحوم مرة كل شهرين.. والأسماك في المناسبات
٣ أم محمد (أم لتسعة أطفال) تقول: الواقع يعصف بنا جميعاً ويضعنا في دوامة كبيرة من الظنون والترقّب ومواجهة الاحتمالات القاسية، ونتطلع إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يزيح هذه المشكلة؛ لنعوّضَ أولادنا ما فاتهم من حاجات واحتياجات.
وتضيف قائلة: إن اللحوم أصبحت حلماً لدى أطفالي؛ فعملنا مع أزمة الرواتب وقلّة الحال أن نشتري اللحوم مرة كل شهرين. وبالنسبة للأسماك فأطفالي لم يتناولوه منذ تسعة شهور.
٣ سماح السيد (موظفة) ترى في التقشُّف منفعة كبيرة وتقول: إنه عوّدنا على الصبر والكفاف والقناعة، ومواجهة الأيام الصعبة والقاسية. وتقول أيضاً: نتدبّر أمرنا بالمواد التموينية من أهل الخير وبعض الجمعيات الخيرية، وأما الباقي فنتدبر أمره ولله الحمد. أما بالنسبة للملابس وخصوصاً (ملابس المناسبات والمدارس) فأمرها في غاية الصعوبة؛ لِكون الحصار الظالم والأزمة المالية الخانقة وأزمة الرواتب جعلت مجراها صعباً، ولكني جعلتُ أولادي يتبادلون الملابس مع أقاربنا، وخضعنا للواقع.
وأضافت: بالنسبة للبنات فتبدو مشكلتهن أكثر صعوبة وتعقيداً؛ بسبب طبيعة المرأة التي تحب أن تلبس الثياب الجديدة دائماً، ولِكون بناتي في الجامعة؛ ولكن واقع الحصار الظالم الطويل ربما غيّر شيئاً قليلاً من الثوابت التي تعوّدنا عليها. وبالتدرّج أمام هذه الحقيقة اكتسبت البنات شيئاً مهمّاً في التعليم والتربية وقلة الطلبات.
الأدوات الكهربائية ليست ضرورية
٣ أما (أم علاء) فترى التقشُّف نوعاً صريحاً من الصبر. وأمام مشكلة الحصار تقول: عالجْنا الأمرَ أولاً بمدّخرات بسيطة؛ غير أنها نفدت بعد شهور قليلة. وأمام الحالة الصعبة المتنامية كان علينا أن نتخلّص من عادات موروثة في التبذير والشراء الكيفي لبعض الحاجات المنزلية؛ لذلك كان أمامنا تخطيط آخر في التوقف، أو التقليل من بعض الالتزامات الاجتماعية غير المبررة في كثير من الأحيان. ومع هذا فقد كان الحصار يزحف علينا بشكل مخيف ويهدد وجودنا كأفراد وأسر، وكان لا بد من مواجهة موجودات المنزل ... وجدنا أن هناك ما هو فائض كنا قد اشتريناه في أيامٍ كانت الدنيا (حلوة) ! فقمنا ببيعها لنعيش بعض الشهور بلا منغِّصات، مع التقيّد الحازم بعدم التساهل في الصرف.
وقمنا ببيع جميع الأدوات الكهربائية لكي نستطيع توفير قُوْتِ أولادنا، ولم نعد نحتاج إلى الثلاجة لعدم تبقّي أي أكل يُحفظ فيها. أما الغسالة؛ فالغسيل اليدوي يكون أنقى (يضيّع وقتاً ويسلّي) . بهذه العبارة جعلت (أم علاء) الأساسيات مجرد كماليات للمنزل، رغم تعبها وألمها من كثرة العمل الذي توفّره الأجهزة الكهربائية.
تصمت لتقول: نحاول أن نلهمَ أنفسنا بعدم ضرورة الشيء. وإن شاء الله تُحلُّ الأزمة ويُفكُّ الحصار، ونعود لحياتنا وسأكون أحسن من أول..!
لم يبقَ سوى بيع أولادنا..!
(أم أشرف) ترسم ملامح الشقاء والبؤس على ملامحها، تقول وتطلق تنهيدة تكاد تفلق صدرها، وتصمت لِتذرف دمعاً يحاول غسل وجهها الذي بدّده الحصار والضياع والتشريد، تقول: ابني الكبير هاجر إلى الخارج لقلة الرواتب، والأزمة، وعدم وجود فرصة (أكل عيش له هنا) .
لم يتبقَّ لدي أي مصاغٍ أو أثاث في المنزل، قمنا ببيعه كله لنقتات بثمنه، ولم يبقَ في منزلي سوى المراتب والأغطية وملابس الأولاد، لم يبقَ غير بيع أولادنا في المزاد!