إن وظيفة الصحافة من حيث المبدأ تنوير الرأي العام، وتزويده بالحقائق التي
تكشف له الطريق، وإرساء أسس صحيحة للحكم على الأمور وهي - باختصار -
أداة تثقيف وتوجيه.
ولكن هذه الأداة قد تقود إلى نتائج عكسية، أو لا توصل إلى نتيجة، إيجابية، فبدلاً من التنوير يكون التعتيم، وبدلاً من كشف الحقائق تحاول سترها بأغطية
صفيقة، وعندما يتطلب الأمر تحديد معاني الكلمات والمصطلحات تتعمد التضليل
والغموض المقصود.. كل ذلك يكون عندما تتحكم بهذه الأداة عقليات معينة تريد
فرض أفكارها على غيرها، وتحب أن يساق المجتمع سوقاً إلى ما تريد.
أن المجتمعات التي تبتلى بمثل هذا النوع من الصحافة تصاب بأمراض نفسية
يصعب علاجها، وينزل بها الانفصام والانقسام، وتدب بها الفوضى الفكرية،
وتتزلزل فيها القيم الثابتة، ويحل محلها فكر مشوه يراد له أن يملأ الفراغ، فلا
القديم النافع يبقى؛ ولا الأفكار (الجديدة) تضرب بجذورها، لأنها تفقد المناخ
المناسب لذلك.
وهذه هي الصحافة الشائعة بين الناطقين بالعربية اليوم، صحافة الرأي
الواحد، والحزب الواحد، صحافة الفكر العلماني الذي يصول ويجول، لا رقابة عليه ولا تضييق، يتبارى فرسانه بالترجمة عن غيرهم ويدعون الإبداع، ويريدون بهذا المسخ أن يغيروا ويبدلوا، ويهدموا ويبنوا، ويخيل إليهم غرورهم أنهم مصلحون وهم المفسدون، وأنهم مستقلون أحرار وهم العبيد يخدمون الفساد والمفسدين، ويعيشون مرتزقة لا يتقنون إلا التزلف والتملق لأصحاب الأمر والنهي، والهجاء المقذع والحسد لأهل الخير والإصلاح؛ إنهم الذين يضع فيهم كل فرعون ثقته ليكونوا عقله ولسانه، وقليل منهم من يكون له شجاعة سحرة فرعون فيثوب للحق بعد خدمة الباطل، ويصحو ضميره فيكفّر عما اقترب من تزوير للحقائق وتزويق للأباطيل.