للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فكر

حوار في الديمقراطية

جمال سلطان

نشر الأستاذ فهمي هويدي في منبره الأسبوعي بجريدة الأهرام المصرية فتوى

مثيرة للشيخ القرضاوي حول مسألة (الديمقراطية) ، أراد منها الشيخ القرضاوي -

وفقه الله وإيانا - أن يكشف للإسلاميين عن حقيقة الموقف الإسلامي الشرعي من

(الديمقراطية) أو كما يعبر الأستاذ فهمي هويدي بقوله: (إن الشيخ القرضاوي أراد

أن يحسم في فتوى مفصلة تلك العلاقة المتوترة بين بعض الإسلاميين والديمقراطية، وأن يؤصل من منطق شرعي موقف الإسلام من مختلف القيم التي تقوم عليها

الديمقراطية) .

القضية على جانب كبير من الأهمية، وعندما يدلي فيها بدلوه فقيه في موقع

يوسف القرضاوي، فإن الأمر يزداد خطورة وأهمية، وإذا أضفت إلى ذلك المنبر

أن الذي نشرت من خلاله الفتوى يظفر بقراءة ما لا يقل عن مليون ناطق بالعربية؛

فإن الخطر - ولا شك - يتعاظم، ويفرض نفسه على كل صاحب قلم وحامل فكر.

والفتوى - في صورتها التي نشرت بها - غير ذات موضوع أصلاً، وشبه

معدومة القيمة، وحسبك أن تكون أمام كلام لا تستطيع أن تقول عنه إنه صواب،

ولا تستطيع أن تقول إنه خطأ، وإنما ثمة التباس غريب، وحقائق موضوعية

وتاريخية غابت عن الشيخ أدت إلى خلل في حديثه، يستدعي مني وقفة غير

قصيرة أناقش فيها (حيثيات) الفتوى، مطمئناً إلى سعة صدر صاحبها، لما نعلمه

عنه من حرصه على استبانة الحق حيثما كان، وهمه المخلص -إن شاء الله-

بالقضايا الكبرى التي تشغل الشباب المسلم في هذا العصر

سؤال الفتوى -كما أثبته الأستاذ فهمي- هو: هل الديمقراطية كفر حقاً؟

فافتتح الشيخ حديثه بالقول: (إن جوهر الديمقراطية أن يختار الناس من

يحكمهم ويسوس أمرهم، وألا يفرض عليهم حاكم يكرهونه، أو نظام يكرهونه،

وأن يكون لهم حق محاسبة الحاكم إذا أخطأ، وحق عزله إذا انحرف، وألا يساق

الناس إلى اتجاهات أو مناهج اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو سياسية لا يعرفونها، ولا يرضون عنها. هذا هو جوهر الديمقراطية) .

ثم يضيف الشيخ معقباً: (الواقع أن الذي يتأمل جوهر الديمقراطية يجد أنه

من صميم الإسلام) وهذا المدخل هو الخطأ الأول والجوهري، الذي ترتب عليه

خطأ الفتوى برمتها.

لقد قرر الشيخ أن جوهر الديمقراطية هو أن يختار الناس من يحكمهم.. الخ،

وهذا هو ناتج أساسي من نواتج الديمقراطية، أو مظهر بارز من مظاهرها، وإنما

الديمقراطية هي - في جوهرها - رفض (الثيوقراطية) أي سلطة الدين والحكم باسم

الله في الأرض، والميلاد التاريخي للديمقراطية كان نتيجة صراع الدولة ضد

الكنيسة، الحكم المدني ضد الحكم الديني، الحكم باسم الشعب والبشر ضد الحكم

باسم الله والدين، وبوجه آخر نقول: إن الديمقراطية هي وجه العملة الآخر

للعلمانية، وكان من مترتبات ذلك أن ترفع وصاية أي بشر مهما كان جبروته

وسلطانه، عن كاهل الشعب، لأننا إذا رفعنا وصاية الدين والإله، من أجل الشعب، فكل وصاية دونها على الشعوب تكون مرفوضة بطريقة الحتم والمنطق، ومن هنا

تولدت الوسائل والنظم التي تحكم إرادة الشعوب لمجتمعاتها بحيث. تحول دون

ظهور القهر والتسلط والاستبداد أو بأي وجه يكون، وذلك بعد أن حققت (الدولة

المدنية) بمفكريها ورجالاتها النصر النهائي على الكنيسة ورجال الدين، وانتزعت

السيادة منهم على النحو الذي يعرفه ببساطة أي دارس للتاريخ الأوربي الحديث.

وكان من مترتبات هذا النصر النهائي للحركة الديمقراطية، أن نزعت صفة

القداسة عن أي وضع وأية قضية وأي معنى، ما لم يقرر الشعب أنه مقدس،

والحرام هو ما غلب رأي الناس أنه حرام، والحلال هو ما غلب رأي الناس أنه

حلال، بغض النظر عن أي مرجعية أخرى، دينية أو غيرها، لأنه إذا قررت أن

ثمة مرجعية تشريعية هي فوق البشر أو قبل رأي الشعب، فأنت بذلك قد نقضت

أصل الديمقراطية، لأنك إذا قلت مثلاً: إن هذا الأمر لا يجوز للناس العمل به

بنص القرآن، فأنت بذلك جعلت الحكم لله، وليس للشعب، وطالما سحب الحكم

والتشريع من الشعب، فقد انتهت القصة (الديمقراطية) .

هذه هي قصة الديمقراطية - باختصار - وهذا هو جوهرها، الذي يعلمه علم

اليقين الأستاذ فهمي هويدي وتياره الفكري، فهل يا ترى نستطيع أن نقول مع

الشيخ: (إن الذي يتأمل جوهر الديمقراطية يجد أنه من صميم الإسلام؟ !) ، أو

أن نقول معه أيضاً: (إن الإسلام قد سبق الديمقراطية بتقرير القواعد التي يقوم

عليها جوهرها، ولكنه ترك التفصيلات لاجتهاد المسلمين وفق أصول دينهم،

ومصالح دنياهم، وتطور حياتهم) الواضح تماماً من فتوى الشيخ، أنه تصور

الديمقراطية على صورة معينة يأملها ويتمناها ثم أصدر فتواه مفصلة على هذا

(الخيال) الذي داعب أمانيه، لا على الحقيقة التاريخية والموضوعية التي صاغت

مصطلح (الديمقراطية) في الفكر الإنساني الحديث.

ولعله من أبين ما يدلك على ذلك، قول الشيخ في فتواه: (وقول القائل إن

الديمقراطية تعني حكم الشعب بالشعب، ويلزم منها رفض المبدأ القائل إن الحاكمية

لله، قول غير مسلم فليس يلزم من المناداة بالديمقراطية رفض حاكمية الله للبشر

فأكثر الذين ينادون بالديمقراطية لا يخطر هكذا ببالهم، وإنما الذي يعنونه

ويحرصون عليه هو رفض الديكتاتورية المتسلطة، رفض حكم المستبدين بأمر

الشعوب، من سلاطين الجور والجبروت) ا. هـ.

وأنا - في الحقيقة - لم أستوعب قول الشيخ إن (الذين ينادون بالديمقراطية لا

يخطر هذا ببالهم، وإنما الذي يعنونه ويحرصون عليه هو ... ) هل أجرى الشيخ

إحصاءاً أنتج له هذه الحقيقة؟ وإذا قال مخالفه: (إن أكثر الذين ينادون بالديمقراطية

هذا ما يدور ببالهم) ما الذي يرجح قول أحدهم على صاحبه؟

إن الفتوى الشرعية تحتاج إلى ضبط في الكلام بصورة أكثر دقة وإحكاماً من

مثل هذه العبارات العاطفية الفضفاضة، وإني لأعذر الشيخ في حماسته هذه في

الدفاع عن قيم العدل والحرية وحفظ حقوق الإنسان وكرامته، فمثله ومثلي، يعرف

كم هي قاسية سياط الجلادين، وكم هي موحشة سجون المستبدين، بيد أن حديث

العدالة والحرية وحقوق الإنسان شيء، وضبط مصطلح فكري سياسي لإجراء حكم

شرعي عليه شيء آخر، كما أن الواقع يبقى دائماً ما كان لا ما ينبغي في تقديري

أن يكون، ولنتأمل قول الشيخ: (والمسلم الذي يدعو إلى الديمقراطية إنما يدعو

إليها باعتبارها شكلاً للحكم، يجسد مبادئ الإسلام السياسي في اختيار الحاكم،

وإقرار الشورى والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومقاومة الجور،

ورفض المعصية، وخصوصاً إذا وصلت إلى كفر بواح، فيه من الله برهان) اهـ.

وأنا هنا أوافق الشيخ تماماً على ما حدده من منهج للحكم الإسلامي، ولكن ما

الذي يدعوك - يا سيدي - لكي تضع خاتم الديمقراطية على هذا الحديث وذاك

المنهج؟ ! ما هي بالضبط القداسة التي يحملها مصطلح غربي التكوين والنشأة

والتاريخ والصراع والدلالة، لكي تستميت في الدفاع عنه وتحسين صورته أمام

المسلمين، بالقدر الذي يذكرنا بالهوس الذي طاف بعقول بعض المسلمين في

الخمسينات والستينات حول مصطلح (الاشتراكية) حتى جعلوها والإسلام وجهين

لعملة واحدة! وها هي التجربة تعود مرة أخرى مع مصطلح (الديمقراطية) .

إن الديمقراطية ليست ما تفصله أنت على مقاسك، أو يفصله غيرك،

الديمقراطية منهج كامل لصياغة البناء الاجتماعي، إما أن تقبله وإما أن ترفضه

وتبحث لك عن منهج آخر يولد لك مصطلحات أخرى تناسب عقيدتك ودينك

وتاريخك وإنسانك.

وإذا جاز أن نقبل المصطلح مع إجراء بعض التعديل عليه ليناسب بيئتنا، فما

قولك في مصطلح (الثيوقراطية) ، وهو (الحكم الإلهي) فقط سنستبعد منه احتكار

رجال الدين للحكم باسم وصاية السماء على ما عرفه التاريخ الكنسي الأوربي ويبقى

لنا أنها تعني جعل حكم الله هو المهيمن على البشر والمحدد لشريعة المجتمع، هل

نستطيع أن نقول حينئذ أن جوهر الديمقراطية (حكم الله) هو الإسلام؟ !

إنه بالقدر الذي تقول به: إن الديمقراطية من الإسلام، يصح القول إن

الثيوقراطية من الإسلام! ! أما نحن فنقول: إن الديمقراطية والثيوقراطية كلاهما

مصطلح أوربي النشأة والتكوين والتاريخ والدلالة، ولا يعنينا أمرها كمسلمين لأن

الإسلام لم يعرف حكم طبقة رجال الدين كما لم يعرف يوماً (صكوك الغفران) كما لم

يعرف الصراع بين الدولة المدنية والكنيسة أو بين الدين والدولة إجمالاً لأن الإسلام

كدين وتاريخ وحضارة يختلف عن المسيحية كدين وتاريخ وحضارة، مما يعزز لنا

-بالبديهية المحضة- اختلاف المصطلحات الفكرية والسياسية والمنهجية بين كلا

المنظومتين.

القضية هنا، أن بعض المسلمين يتخيل أن حقوق الإنسان والعدالة والحرية

وحق تداول السلطة ومنع التجبر في الأرض هي أمور حكر على التنظيم

الديمقراطي للمجتمع، بحيث لا يمكن لهم تصور هذه المبادئ تتحقق تحت أي مظلة

أخرى مصطلحية في الإسلام، وهذا خلل خطير، إن هذه الحقوق والمبادئ

الإنسانية مجرد ناتج لميلاد العلمانية/الديمقراطية في المجتمع الأوربي، ولكنها أيضاً

يمكن إنتاجها وحمايتها وفرضها في المجتمعات الأخرى عن غير طريق

العلمانية/الديمقراطية.

ولكن الهيمنة الفكرية الغربية على تيارات الفكر والسياسة في المجتمع

المعاصر، والجبروت الذي تمارسه المركزية الأوربية على عقول ونفوس أبناء

العالم الثالث - ومنهم كثير من المسلمين - لم تدع فرصة للعقل غير الأوربي أن

يفكر بأصالة، أو يتخيل نتاجاً فكرياً ومنهجياً لا يجذب إلى (القطب الأوربي)

ومنهاجه ومصطلحاته، فكانت معظم الجهود (العالمثالثيه) في مجال الأفكار والمناهج

والمصطلحات - ومنه هذه الفتوى - مجرد تذييلات وهوامش على المتن الأوربي،

بيد أننا في الحالة الإسلامية يأبى الضمير الإسلامي إلا أن يسجل تحفظاته الخجلى

على الديمقراطية، ويتجاهل أن هذه التحفظات تعني في الواقع الموضوعي رفض

الديمقراطية ولكننا نصر على الاحتفاظ بالمصطلح والدفاع عنه رغم أننا -

موضوعياً - أبطلناه.

إن حزب الفراشة الإيطالي - حزب المومسات - فرض نفسه على الساحة

الحزبية، ودخلت بعض أعضائه إلى البرلمان الإيطالي لكي يكون (صوت المومس)

كافياً لتشريع أي قانون جديد في المجتمع إذا تساوت الأصوات، الذي لا يريد أن

يعترف به الشيخ القرضاوي أن حزب الفراشة يمارس حق الديمقراطية، وأنك إذا

رفضت وجوده أو رفضت دخوله البرلمان، أو رفضت الاعتداد بأصوات أعضائه، فأنت غير ديمقراطي، وهذا فعل ضد الديمقراطية، هذه حقيقة موضوعية لا حيلة

لك فيها، ولا مهرب لك من الإقرار بها.

صحيح أنك ترفض ذلك وأنا كذلك أرفضه، ولكن معنى ذلك أننا نرفض

الديمقراطية كإطار منهجي للحكم في بلاد الإسلام، ويبقى أن نبحث أنا وأنت عن

مصطلح جديد ومنهج جديد، يربط بين الدين والدنيا، الشريعة والمجتمع، العدالة

والأخلاق، الحرية والقيم، حق الله وحق العباد، وهي كلها جوانب لا صلة

للديمقراطية بها ابتداءاً، ولا يؤرقك يا سيدي أن يرفض الغرب الاعتراف

بمصطلحك الجديد ومنهجك الجديد، فهو يرفض دينك من حيث الأصل [١] ، كما

أن المنطق الذاتي للديمقراطية التي تحكم حياته يلزمه بقبول وضعية التعددية، هذا

إذا أحسنا الظن بالتزامهم أي مبدأ لا سيما العلاقات الدولية.

في فتوى الشيخ يوسف القرضاوي عن الديمقراطية، هناك خلل آخر في

محاولته تحليل مشروعية بعض الجوانب الإجرائية في الممارسة الديمقراطية،

حيث حمل على فهم بعض الإسلاميين لها، وأنا أترك نص الحديث له ثم يكون

تعقيبنا:

يقول الشيخ: ومن الأدلة عند هذا الفريق من الإسلاميين على أن الديمقراطية

مبدأ مستورد، ولا صلة له بالإسلام، أنها تقوم على تحكيم الأكثرية، واعتبارها

صاحب الحق في تنصيب الحكام، وفي تسيير الأمور، وفي ترجيح أحد الأمور

المختلف فيها، فالتصويت في الديمقراطية هو الحكم والمرجع فأي رأي ظفر

بالأغلبية المطلقة أو المقيدة في بعض الأحيان فهو الرأي النافذ وربما كان خطأ أو

باطلاً.

هذا مع أن الإسلام لا يعتد بهذه الوسيلة ولا يرجح الرأي على غيره لموافقة

الأكثرية عليه، بل ينظر إليه في ذاته أهو صواب أم خطأ، فإن كان صواباً نفذ،

وإن لم يكن معه إلا صوت واحد، أو لم يكن معه أحد، وإن كان خطأ رفض، وإن

كان معه (٩٩) من ال (١٠٠) ! !

بل إن نصوص القرآن تدل على أن الأكثرية دائماً في صف الباطل وفي

جانب الطاغوت كما في مثل قوله تعالى: [وإن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ

عَن سَبِيلِ اللَّهِ] [الأنعام: ١١٦] ، [ومَا أَكْثَرُ النَّاسِ ولَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ]

[يوسف: ١٠٣] ، وتكرر في القرآن مثل هذه الفواصل القرآنية [ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ

لا يَعْلَمُونَ] [الأعراف: ١٨٧] .

ثم يضيف الشيخ معقباً على ذلك بقوله: وهذا الكلام مردود على قائله وهو

قائم على الغلط والمغالطة. فالمفروض أن نتحدث عن الديمقراطية في مجتمع مسلم

أكثره ممن يعلمون ويعقلون ويؤمنون ويشكرون ولسنا نتحدث عن مجتمع الجاحدين

أو الضالين عن سبيل الله.

ثم إن هناك أموراً لا تدخل في مجال التصويت ولا تعرض لأخذ الصوت

عليها، لأنها من الثوابت لا تقبل التغيير إلا إذا تغير المجتمع ذاته ولم يعد مسلماً.

فلا مجال للتصويت في قطعيات الشرع وأساسيات الدين وما علم منه

بالضرورة إنما يكون التصويت في الأمور الاجتهادية التي تحتمل أكثر من رأي،

ومن شأن الناس أن يختلفوا فيها، إذا اختلفت الآراء في هذه القضايا فهل تترك

معلقة أو تحسم؟ هل يكون ترجيح بلا مرجح؟ أم لابد من مرجح؟

إن منطق العقل والشرع والواقع يقول لا بد من مرجح، والمرجح في حالة

الاختلاف هو الكثرة العددية فإن رأي الاثنين أقرب إلى الصواب من رأي الواحد

وفي الحديث: «إن الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد» ، وقد ثبت أن

النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأبي بكر وعمر: «لو اجتمعتما على مشورة ما

خالفتكما» أ. هـ..

وهذا الكلام يحتاج إلى بعض التفصيل لما فيه من أوهام ومغيبات وبداية أنا

أتعجب من كون الشيخ وضع رأي مخالفيه الذين يرى بطلان قولهم وصدره بأنهم

يرون أن الديمقراطية مبدأ مستورد، ولا صلة له بالإسلام، فهل يرى الشيخ

القرضاوي - يا ترى - أن الديمقراطية مبدأ غير مستورد، وأنه مبدأ أصيل نشأ

وتولد وترعرع في حنايا التاريخ الإسلامي وتحولاته الحضارية والمنهجية والدينية

والسياسية؟ ! فمتى إذا حدث ذلك؟ وفي أي زمن منذ بعثة النبي -صلى الله عليه

وسلم- حتى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي؟ ! ومتى استوردت أوربا

الديمقراطية من المسلمين؟ ! وما ملابسات ذلك الحدث التاريخي الفذ والمثير الذي

خفي على العالمين هذه القرون الطويلة؟

أظن إنه ما كان يليق بالشيخ أن يصدر حديثاً بتلك العبارة وذلك أنه أو أي

مسلم آخر لا يستطيع الادعاء بأن الديمقراطية مبدأ غير مستورد من المنظومة

الأوربية، وإنما الخلاف هو في موقف الإسلام منها، هذه واحدة، أما قول الشيخ

في رده (المفروض أن نتحدث عن الديمقراطية في مجتمع الجاحدين أو الضالين عن

سبيل الله) ، فهذا فساد موضوعي ظاهر، فالديمقراطية لا تعني بهوية الإنسان

وإيمانه وكفره، نوعية القيم التي يحملها، فالكل سواء، عالم الدين والبغي والمسلم

والنصراني، أما إذا قلت بأن حق الممارسة الديمقراطية في المجتمع المسلم موقوف

على المسلم المتدين ولا يدخل فيه غير المتدين، أو الشاذ جنسياً أو النصراني أو

اليهودي أو الملحد، فأنت بذلك تتحدث عن نظام آخر، ومنهج آخر، سمه ما شئت، إلا أنه - على وجه القطع - ليس الديمقراطية، وكذلك قول الشيخ (ثم إن هناك

أموراً لا تدخل مجال التصويت ولا تعرض لأخذ الأصوات عليها لأنها من الثوابت

التي لا تقبل التغيير، إلا إذا تغير المجتمع ذاته ولم يعد مسلماً.

والمفارقة التي يستغربها الشيخ هنا أن المجتمع إذا تغير ولم يعد مسلماً أمكن

له أن يكون ديمقراطياً، أما إذا ظل مجتمعاً مسلماً فقطعاً لن يكون ديمقراطياً، لأنه

يملك منظومة أخرى من الثوابت والعقائد والقيم التي يستحيل إخضاعها لرأي البشر.

وهنا نعود إلى أصل الخلل في تصور الشيخ لماهية الديمقراطية وجوهرها،

ففي الديمقراطية الشعب هو المرجع، وهو الحاكم، وهو المشرع، وهو الثابت

الوحيد، فإذا قلت: إن هناك أموراً لا تخضع للتصويت أو لا تدخل في مجال

التصويت، فأنت بذلك غير ديمقراطي قطعاً، وإذا قلت: إن هناك ثوابت فكرية أو

دينية أو خلقية أو اقتصادية أو سياسية لا تقبل التغيير فأنت بذلك غير ديمقراطي،

وكذلك قول الشيخ (فلا مجال للتصويت في قطعيات الشرع) قول غير ديمقراطي،

لأن تقريرك أن هناك شرعاً يحكم فوق إرادة البشر فهذا طعن في صلب الديمقراطية

وجوهرها.

هل اتضحت الصورة الآن أمام الشيخ وهويدي وتياره؟ إنني أوافقهم تماماً

على كل الضوابط والحدود والأطر التي وضعوها لسياسة المجتمع المسلم، ولكن

الخلل الأساسي أنهم يأبون - ولا أدري لماذا - إلا أن يضعوا شعار الديمقراطية

على منهج الله ونظام الإسلام السياسي، هل يظنون أنهم يجملون الإسلام ومنهجه

بوضعهم هذه اللافتة المستوردة عليه؟ إن الإسلام - يا أصحابي - أجمل وأعلى

وأطهر وأعدل من الديمقراطية ومن كل تصور بشري وضع لسياسة المجتمع، لا

أقول ذلك مجرد انتصار للدين، أو حماسة إيمانية مجردة وإنما هي قناعة راسخة

من تجوال البحث والنظر والتأمل في تحولات التاريخ الإنساني القديم والحديث

ومآلات الأوضاع في العالم الإنساني المعاصر.

يا إخواني: إنكم بذلك تثيرون الارتباك والحيرة والتشتت الذهني في عقول

وضمائر شباب الصحوة الإسلامية، الذي تأمل من الأمة تحقيق نهضتها المرتجاة.

لماذا لا تبحثون عن فكرة أصيلة بناءة، تصوغون بها مشروعاً إسلامياً أصيلاً

للنهضة لتنظيم الفعل الاجتماعي الإسلام الجديد؟ هل أصبحت وظيفة الفقيه المسلم

أو المفكر الآن أن ينتظر البضاعة الغربية فكرية أو مادية لكي يضع عليها الشعار

التقليدي: (مذبوح على الطريقة الإسلامية) ؟ .

يا إخواني: ألم يعرف الإسلام نظاماً ومجتمعاً وحضارة ونظريات سياسية

وأنماط إدارية قبل ظهور الديمقراطية؟ ألم يعرف الإسلام ومجتمعه عدلاً ورحمة

وحرية واستنارة وتحضراً وشورى وتعددية فكرية ومذهبية وغير ذلك قبل ظهور

الديمقراطية؟ !

إذا كان الإسلام يعرف ذلك فحدثونا عنه، وأعيدوا صياغته، وطوروا آلياته

ومؤسساته، ودققوا في تنظيماته ووسائل تحقيقه، وولدوا ما تحتاجون إليه من

مصطلحات أصيلة وشعارات مسلمة تعبر عن خصوصية منهج الإسلام في الحكم

بدلاً من هذا التسول الفكري والمذهب الاصطلاحي المزري والمهين عند أعتاب

الفكر الأوربي الحديث.

فضيلة الشيخ يوسف، الديمقراطية والعلمانية وجهان لعملة أوربية واحدة،

ومن قال لك غير ذلك فقد كذبك، وكلاهما مرفوض إسلامياً، ولكن ليس معنى

رفضهما أننا - بالحتم - نرفض بعض النتاجات التي تولدت عنها والتي تتشابه مع

بعض القيم الإسلامية، فحق الأمة في اختيار الحاكم وحق عزله إذا انحرف أو

محاسبته إذا أخطأ، وحرية الرأي وحق الاختلاف، وحفظ كرامة الإنسان وآدميته،

وحق تداول السلطة، واحترام حقوق الأقليات ونحو ذلك كل هذه أركان أصيلة في

منهج الإسلام في الحكم بنص كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-،

ولكنها أركان تقوم على أسس تصورية وعقيدية، وتحكمها ضوابط وأطر منهجية،

تختلف تماماً عن الأسس والضوابط التي تمثلها (الديمقراطية) كمنهجية لسياسة

المجتمع البشري.

يا فضيلة الشيخ، ليس هذا دورك، ولا تلك قضيتك، وإنما هذه تهويمات

أدعياء الاستنارة والمترفين فكرياً، والذين لا يحملون هموم الأمة ونهضتها ولا

يعرفون قدر دينهم ومعنى أنهم يحملون رسالة الإسلام للعالمين.

يا فضيلة الشيخ، لقد سارت فتواك في الناس، واطلع عليها الجمع الغفير من

مثقفي الأمة، إني أسألك بحق العهد والميثاق الذي تحملونه (لتبينه للناس ولا

تكتمونه) أن تعيد النظر وتجيله فيما أثبته في هذا الحوار، لعل الله يهدينا لأقرب من

هذا رشداً، والحمد لله أولاً وآخراً، ولا حول ولا قوة إلا بالله.


(١) بل يرفض الديمقراطية نفسها إذا أحس أن المسلمين سينتفعون منها، كما هو حاصل في أكثر من مكان في العالم الإسلامي
- التحرير -.