[من مشكاة النبوة]
منصور الأحمد
عن ابن شهاب، أن عروة بن الزبير حدثه أن عائشة زوج النبي - صلى الله
عليه وسلم - قالت: ألا يعجبك أبو هريرة؟ ! جاء فجلس إلى جانب حجرتي،
يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسمِعني ذلك، وكنت أُسبِّح، فقام
قبل أن أقضي سُبْحَتي، ولو أدركته لرددت عليه، أن رسول - صلى الله عليه
وسلم - لم يكن يسرد الحديث مثل سردكم) .
أبو داود، باب سرد الحديث.
من كتاب العلم من سننه ٣٢٠/٣.
لم يعرف تاريخ الدعوات شخصاً بعيد التأثير في أمته؛ كالرسول - صلى الله
عليه وسلم -، ولم نعرف أن أحداً استطاع أن يؤثر في كل جانب من جوانب حياة
أمة من الأمم كما أثر محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - في أمته، فقد كان
المثل الأعلى في كل شيء، وكان القدوة الكاملة في كل سلوك سواء كان ذلك في
حياته العامة أو الخاصة.
ومع أن حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كلها تشكل القدوة للمسلمين،
لكن أكثر جوانبها أهمية هو ما يختص بالدعوة، وما يتعلق بالتبليغ.
ولقد حفظت لنا السيرة النبوية هذا الجانب من حياة نبينا ونشاطه أوضح ما
يكون الحفظ.
وإنني لا أستطيع - ولا أدعي - في هذه العجالة أن أرسم صورة كاملة
لشخصية النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يدعو الناس ويبين لهم، ويبلغهم ما
أوحى إليه، فهي صورة ممتدة متراحبة عبر السنة النبوية غنية، ممتلئة بالمعاني
السامية تظل أية صورة منقولة من عالم الواقع أو الخيال بعيدة عن أن تقارن بها،
فضلاً عن أن تقاربها.
ومن أبرز سمات الداعية في شخصية النبي - صلى الله عليه وسلم - سمتان
رئيسيتان هما:
١- الحرص على إفادة الناس من أقرب طريق وأوضحه.
٢ - والبعد عن التكلف والافتعال.
هذان اثنان من كبار الصحابة، ومن أكثرهم رواية عن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - أبو هريرة، وعائشة، رضي الله عنهما. فلننظر إلى واحد منهما، في تأثره بجانب الدعوة من شخصية النبي - صلى الله عليه وسلم -. لقد لازم
أبو هريرة النبي عليه الصلاة والسلام ملازمة تامة، منذ وفوده على النبي - صلى
الله عليه وسلم - مسلما، في السنة السابعة من الهجرة، وقد حرص - رضي الله
عنه - على الاستزادة من العلم، ولهذا لم يشغل نفسه خلال معاصرته لرسول الله -
صلى الله عليه وسلم - بشيءٍ ماخلا العلم والحفظ عن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -، فلم يشغله الصفق في الأسواق كما عبر هو مرة حين ليم على كثرة
تحديثه، لذلك فقد حفظ أبو هريرة عن رسول - صلى الله عليه وسلم - كثيراً وكان
أكثر الصحابة حديثاً عنه - صلى الله عليه وسلم -.
وقد كان حريصاً - رضي الله عنه - أن يبلغ ما سمع من رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - إلى الناس، أداءً للأمانة، وقيامه بواجب الدعوة إلى الله، كما
فهمها من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
«نضّر الله امرءاً سمع منا شيئاً، فبلّغه كما سمعه، فربُّ مبلَّغٍ أوعى من
سامع» (الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح) .
«من سئلَ عن علمٍ فكتمه أُلْجِم يوم القيامة بلجام من نار» (أبو داود
والترمذي، وقال: حديث حسن) .
وقوله: «من تعلم علماً مما يُبتغى به وجهُ الله عز وجل، لا يتعلمه إلا
ليصيب به عَرَضاً من الدنيا، لم يجد رائحة الجنة يوم القيامة» (رواه أبو داود
بإسناد صحيح) .
وأمام مسؤولية أداء الأمانة، وتبليغها بيضاء نقية، والحرص على وصل
الناس الذين لم يسعدوا برؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - به.
فقد كان ربما حدث بأكثر من حديث في مجلس واحد، وفي أحد هذه المجالس
سمعته أم المؤمنين عائشة -رضى الله عنها- التي ذكرها هذا المجلس من أبي
هريرة بجانب من شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - الداعية. وأم
المؤمنين حرية أن تكون من أكثر الناس خبرة ودراية بذلك، كيف لا؛ وهي في
زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمطلعة على ما دقّ وجلّ من حياته ... وهديه.
لقد قارنت بين طريقة النبي -صلى الله عليه وسلم- في تبليغ الناس وتعليمهم؛ وبين طريقة أبي هريرة وبعض حَمَلَةِ السنة فوجدت أنه - صلى الله عليه وسلم -
كان يحرص على الإفهام لا على، حشد المعلومات، ويهتم بالكيف لا بالكم،
فحسب الناس جملة قصيرة ذات معنى جامع يفهمونها ويطبقونها ويكون فيها الغناء
عن سرد كلام طويل لا يُفرغ من آخره حتى ينسى أوله.
وكان هذا دأبه - صلى الله عليه وسلم - في شتى أموره سواء كان تبليغ
القرآن، أو حديثه للناس، وإن المتتبع لسيرته في ذلك يرى عجباً.
يرى درايته وعمق معرفته بنفوس المخاطبين، ومعرفته لمقتضى الحال التي
ينطلق منها في وصل الناس به، فربما سأله سائل فيكتفي برده بكلمات قصار وربما
سئل عن أمر فتلطف بالرد غاية اللطف بأن جعل الجواب في ثنايا موعظة مؤثرة.
وربما صرف ذهن السائل إلى قضية أو قضايا أكثر أهمية من القضية
المسؤول عنها، وربما أجاب السائل بسؤال جوابه معروف مستقر في البديهة في
صنوف من الأساليب الحكيمة التي تستهدف غرس الحقيقة في نفوس المخاطبين من
أقرب طريق وبقائها حية فاعلة بين حارسين من يقظة العقل وصحوة الوجدان.
ولئن غابت هذه الحقيقة عن بعض الصحابة - كأبي هريرة - وهذا لا ينقص
من أجر هذا الصحابي الجليل ولا من قدره - فلقد وعاها آخرون منهم - رضي الله
عنهم جميعاً - مثل عائشة- في هذا الحديث - وابن مسعود.
فعن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: كان ابن مسعود، -رضي الله عنه-
يذكرنا في كل خميس مرة، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، لوددت أنك ذكّرتنا
اليوم، فقال: أما إنه يمنعني من ذلك وأني أكره أن أمِلَّكم، وإني أتخَوَّلُكم بالموعظة
كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخوَّلنا بها مخافةَ السآمة علينا.
(متفق عليه) .
وفي تبليغه القرآن كان - صلى الله عليه وسلم - يحرص على أن يعلم
أصحابه الآيات ذوات العدد ولم يكن يجاوز ذلك إلا بعد أن يطمئن إلى حفظهم لها،
والعمل بها.
ولقد غفل كثير من الدعاة المسلمين في العصور المتعاقبة عن هذه الحقيقة
وجاوز بعضهم حد الشطط في الحرص على الإطالة والإسهاب - من غير طائل -
سواء كان ذلك خطابة، أو كتابة.
فكم من خطيب نراه يهوي في خضم من الشرح والتفصيل والاستطراد حتى
يُمِلَّ الناس ويصرفهم عنه بتشقيقه الكلام، حتى لتحسبه يريد أن يشرح لهم تعاليم
الإسلام - التي مكث محمد ابن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثاً وعشرين
سنة يبلغها للناس - كل ذلك في جلسة واحدة، غير عابئ بطاقات الناس، ولا
مراع التفاوت في الفهم والاستيعاب بين من يخاطب، لهذا لا نستغرب إذا ما وجدناه
يهيم في وادٍ، والمخاطبون في واد آخر! .
وكم من كاتب يسوِّد صفحات كثيرة، بكلام هو تحصيل حاصل، ويبدئ
ويعيد في قضايا قتلها العلماء بحثاً، ولو نُظِرَ إلى (إنتاجه العلمي الغزير!) بل إلى
(إنشائه) بعين الإنصاف، لسُلِك في سِلكِ (الورمَ الثقافي) الذي ينتاب ثقافة ما في
وقت من الأوقات.
لقد أصبحت قضية الإنشاء في مجال الكتابات الإسلامية مرضاً حَرِيّاً بالمعالجة، وقضية جديرة بأن تناقش على ضوء المنهج النبوي في الدعوة. ولو استعرضنا
خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - وخطب الصحابة وتابعيهم، لا تضح لنا كم
كانوا يحرصون على الإيجاز والوضوح، وأن يكون لكلامهم معنى ولأدركنا مدى
اهتمامهم بمعرفة نفوس الجماعة المخاطبة.
خطب قصيرة، وجمل مؤثرة، ممتلئة بالحكمة، مكتنزة بالخبرة في النفوس
والأزمنة، صادرة من قلوب مطمئنة عامرة بالإيمان، مفعمة باليقين الذين يدفعها
إلى العمل. بعيدة عن التكلف الذي ينبت في ظلال الفراغ، ويكثر في أجواء
الخمول. وهاهنا خطب طويلة مملة، وموضوعات مختلطة متشعبة يبدأ أحدها بأمر
وينتهي بأمر، وتحسب خطبة دخلت في شيء فإذا هي تخرج إلى اللا شيء. همّ
أصحابها الحرص على التباهي وتزجية الوقت، وقد يسأل صاحبها الناس: كيف
وجدتم الخطبة، لا: كيف تأثركم بما سمعتم، وصراخ في وقت يقتضي السكينة،
وجعجعة والناس نيام، ولا حول ولا قوة إلا بالله! ! .
ترى ما الذي دفع بخطباء اليوم إلى انتهاج ذلك السمت المخالف لما كانت
عليه خطابة الأمس؟ هل هو الفراغ الثقافي الذي يعاني منه مسلمو اليوم؟ ؛ أم هي
الرغبة التي تعتري من قل علمه حين يعتلي منبر الخطابة فإذا هو يحسب نفسه
كقائد قد امتطى صهوة جواده وراح يضرب في الأعداء يمنة ويسرة وهو يزمجر
ويصيح بما تفزع منه النفوس.. ولا تحصل معنى من وراءه العقول! ؟ أم هي
مجرد محبة الكلام التي أولعت بها القلوب منذ عصر انحطاط العالم الإسلامي،
وإحلاله للشكل محل الموضوع، وتقديمه للنظري مقابل العملي، وما يستتبع ذلك
من تفضيل الإطالة على الإيجاز والتكرار على التجديد.
إن دلالات تلك الظواهر على ما يسود المجتمع الإسلامي اليوم من تأخر في
كافة نواحي الحياة هي دلالات مؤكدة تحتاج إلى من يقف عندها متفحصاً دارساً ...
ثم مداوياً. وهي تحتاج إلى عقل واعٍ قد فقه الكتاب والسنة، وتعمق في دراسة
النفس الإنسانية ودوافعها، وإلى عين تدربت على تمييز الباطل وإن حاط نفسه
بالكثير من الصواب، وإلى نفس قد احتسبها صاحبها لله فباشر العلاج بشجاعة
وهمة تلك هي نفس الداعية..
ما أحوج المسلمين - وأخص الدعاة منهم -إلى ترك الفضول من القول
والعمل، وتوفير الجهد والوقت، والانصراف إلى النافع من ذلك، والتأسي بهدي
النبوة، ودراسة الواقع الذي يتحركون فيه، والناس الذين يخاطبون، حتى يقع
كلامهم الموقع المرتجى، وتثمر جهودهم الثمر المرتقب، وعلى الله قصد السبيل،
وهو حسبنا ونعم الوكيل.