[د. سعيد بن ناصر الغامدي في حوار موضوعي مع البيان]
يقوم الاتجاهات الحداثية العربية الجديدة في الساحة النقدية
التحرير
تجاوزت الحداثة التي يتبختر بها بعض المنتسبين إلى الأدب والثقافة من بني جلدتنا التجديد في الأشكال والقوالب الأدبية، لتقدم فكراً وثقافة ورؤية اجتماعية وأخلاقية. وراح كثير من دعاتها يتيهون في مستنقعات الفكر الغربي، ويتقلبون بين مدارسه المختلفة بعقلية هزيلة لا تملك سوى التبعية والإمَّعية الساذجة، وربما تصدّر بعض هؤلاء الحداثيين العرب منابر الأدب والثقافة والإعلام، وتحذلقوا بمصطلحات فلسفية مستوردة، وعبارات رمزية مقَّنعة، تحت شعار الإبداع والتجديد الأدبي والثقافي..!!
ويسعدنا في مجلة البيان أن نستضيف فضيلة الدكتور سعيد بن ناصر أستاذ العقيدة في جامعة الملك عبد العزيز بجدة ليكشف لنا حقيقة الاتجاهات الحداثية العربية.
وفضيلته له عناية مبكرة في دراسة الفكر الحداثي العربي، وكانت أطروحته لنيل درجة الدكتوراه بعنوان: (الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها.. دراسة نقدية شرعية) في كلية أصول الدين، قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة، في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، والرسالة مطبوعة في ثلاثة مجلدات كبيرة.
البيان: يتهرب الحداثيون كثيراً من تعريف الحداثة، ويخلطون ما بينها وبين التحديث، وقد نجد لهم العذر لسببين: الأول تعدد مدارس الحداثة ما بين المدرسة الأوروبية، والمدرسة الأمريكية والروسية، وغيرها من المدارس الفكرية المتنوعة، والسبب الثاني: هو أن الذين ينقلون هذه النظريات الفكرية التي تعالج نظرة الغربي للإنسان والكون والحياة عندما يطبقونها على الواقع يدعون أنها نقد أدبي لا يجدون مسوغاً أمام المتلقي ـ وهو يرى دعوة تغييرية لا تتوافق مع عقيدته ونظرته ـ إلا أن يسعوا للهروب من التعريف أو يقوموا بالخلط بين التحديث والحداثة؛ فما رأي فضيلتكم في تعريف الحداثة؟
- الحداثة عند أصحابها في الغرب ثم عند المستعيرين لها في الشرق مصطلح عسير التحديد مضطرب الحدود، محمل بمعاني مشكلة، ومضامين ملتبسة متداخلة مع عبارات أخرى مثل (المعاصرة) و (التجديد) و (التحديث) و (التطوير) ، وهذا الاضطراب في تعريف الحداثة أورث أفكاراً مضطربة وغير منضبطة في فهم مضمون الحداثة، وأنتج خلطاً بين الحداثة الفكرية الفلسفية، والتحديث العصري التقني؛ ففي الوقت الذي يحاول فيه كاتب مثل د. الغذامي أن يعرف الحداثة (بأنها التجديد الواعي.. أي وعي في التاريخ وفي الواقع) نجده يشير إلى أن هناك تعريفات أخرى عند أدونيس تقول أو توحي بموقف مختلف في مسائل التراث (حكاية الحداثة ص ٣٦) ، وهذا نمط من الالتباس والتلبيس؛ فقضية التجديد الواعي لا يردها أحد، ولكن أي تجديد؟ وما هو الوعي المقصود؟ وهل علماء الإسلام ودعاته ومثقفوه إلا أصحاب تجديد واع وإن كانوا بدرجات مختلفة؟ بل إن هذا التجديد الواعي ـ بحسب منهجيتهم القرآنية والنبوية ـ هو الذي يُلمزون به ويُشتمون ـ من قبل الطرف العلماني ـ بألفاظ من قبيل: (الإسلام الشمولي، والإسلام السياسي، التيار التقليدي، النسق المحافظ) وغير ذلك٠
ثم إشارته إلى أدونيس وتعريفاته التي يقول عنها بأنها توحي بموقف مختلف في مسائل التراث تلبيس آخر؛ فهو لم يقلْ: تنص على موقف مناقض للدين ومناهض لقضاياه، كما هو واضح جلي في كتب أدونيس، ثم لم يقل: نصوص الوحي، بل قال: التراث!! والمراد من إيراد هذا المثال إظهار التلبيس والالتباس حتى عند من يرى نفسه أحد كبار الفاهمين للحداثة والواعين لها، وعلى الرغم من هذا الاختلاف في المفاهيم والاختلاف في العبارات وفي المعاني نجد أن الحداثة الفكرية تتفق على عدة قضايا منها: القضاء على فكرة الثابت والمؤسسي والاستعاضة عنها بفكرة الصيرورة الدائمة، ومنها التشبث بأغصان المادية المتشعبة ابتداءً من الدوران في إطار (الفكر الإنساني/الهيوماني) (الاستناري) الذي يجعل الإنسان هو المركز وعقلانيته هي المصدر والمنطلق، وانتهاءً بالجسد واللذة والمنفعة، وحاجة سوق العمل والاستهلاك، والقوة ومعدلات الإنتاج.
إن التأمل في المنظومات التعريفية الحداثية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار يجد أنها تنطوي على كامن فكري جوهري بدايته إعلان استقلال الإنسان واكتفائه بذاته، ونهايته الوصول إلى تأليهه، لتكون الخاتمة بالقضاء عليه (فكرة موت المؤلف) (موت المبدع) (تفكيك الإنسان) ونحو ذلك.
إن البداية الحداثية الفكرية الفلسفية تدور حول (مركزية الإنسان) واستقلال وجوده، وهو ما يعرف بـ (الفكر الهيوماني) ولهذه الفكرة تعبيرات مختلفة منها (العقلانية، الاستنارة، البنيوية، التفكيكية.. إلخ) وهذه البداية اقتضت وتقتضي تجاوزاً لكل ما يعتقدون أنه (نسقي) أو (محافظ) أو (ثابت) أو (مؤسسي) إلى أن تصل في أقصى درجات غلوها إلى تجاوز (الغيبي) و (القيمي) .
كل ذلك في إطار تصفية الثنائيات ـ حسب تعبيرهم ـ فالنص دال ومدلول معاً، والإبداع كاتب وقارئ؛ لأن (المؤلف مات بمجرد إنتاجه) ، والثقافة فعل ومفعول في الوقت ذاته، إلى آخر ما هنالك من حذف للفواصل والحدود والأقواس في تراكميات لفظية تعود جميعها ـ جوهرياً ـ إلى إلغاء ثنائية الخلق والخالق، وهي الثنائية التي تعني عند المؤمن الانفصال التام بين الاثنين، وتعني افتقار المخلوق إلى خالقه، وإلغاء هذه الثنائية هو ما عبر عنه نيتشه بـ (موت الإله) ، وعبر عنه بعض الحداثيين العرب بـ (انتهاء المتعاليات) و (عودة الوجود الإنساني) و (أنسنة المقدس) و (أنسنة الوحي) وغير ذلك من التعبيرات.
ربما لا يوافق بعض الناس على ظهور الحداثة بهذه الصورة الصلعاء، وإن كانوا يتداولون مدلولات تنتهي في سياقها الفكري والفلسفي إلى ما أشير إليه آنفاً، ولهؤلاء يتوجه سؤال عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى تفاعل إشكالية انفصال الدال عن المدلول بدءاً بالدراسات الأكاديمية النقدية والثقافية، وانتهاءً إلى الإطار الفلسفي والحضاري، بل لماذا نرى التحولات الغربية تتولى في موجات منداحة من الهيومانية إلى التنوير إلى البنيوية إلى ما بعد البنيوية؟ ثم نجد محترفي (الاستغراب) يتشربون ذلك، وينقلونه بحماسة شديدة، مدعين انفصاله عن جوهره، وانقطاعه عن جذوره الفكرية التي نما وترعرع عليها؟
أليست هذه الإشكاليات تجعلنا ندرك المضمون الفلسفي والإطار الأصولي الذي يجمع كل هذا الشتات؟ وهل استطاع المستعيرون إدراك هذا البعد الكلي، أم أنهم كانوا أوفياء في النقل بلا فهم؟ أم أنهم أدركوا ذلك، ولكن مقتضيات الأسواق المحلية لا تسمح لهم بكشف كل شيء والدعوة إليه؟ هل يمكن لنا ونحن نقرأ أقوالاً ضد (الأنا المتعالية) أن ندرك السلسلة (النسقية الفلسفية) التي أنتجت هذا المصطلح؟ وهل يليق أن نبتر هذا المفهوم عن سياقه الذي أنجبه وأخرجه؟ إذا كان الجواب بنعم، فلا بد من البرهنة على ذلك، وإلا كان هذا الفعل الثقافي ضرباً من التستر وهو فعل خطير.
البيان: فضيلة الشيخ سعيد، يتردد على أسماعنا اليوم، ونقرأ في مقالات هؤلاء الحداثيين ما أطلقوا عليه النقد الثقافي، وأصبحوا يسوقون له في كتاباتهم ومنتدياتهم؛ ما علاقة هذا بالأدب؟ ثم ما الخلفية الفكرية التي ينطلق منها هذا المصطلح أو بالأصح النظرية؟ نريد وضوحاً في تعريف هذه النظرية؛ لأن الذي يرجع إلى كتبهم وتأصيلاتهم كالعادة يجدها طلاسم من المصطلحات المنحوتة التي لا تعود لأصول اللغة العربية؟
- من أوائل من قال بالنقد الثقافي الباحث الأمريكي (فنسنت ليتش) الذي دعا إلى (نقد ثقافي لما بعد البنيوية) ، ثم الألماني اليهودي (تيودور أدورنو) بعنوان (النقد الثقافي والمجتمع) ، ثم تتالى استعماله حتى تم استيراده مؤخراً.
والنقد الثقافي عند من قال به وألف فيه يعني حسب فهمي لما كتب: أنه نظرية ومنهج في الأنساق المضمرة، أي في المعتقدات الذهنية العميقة؛ باعتبارها نماذج راسخة ومنظومة فكرية ثابتة، ذات أثر في النصوص الثقافية، والجمالية بالذات، تتولد منها هذه النصوص بالضرورة. ويمكن القول بأن النقد الثقافي استعمال للأدوات النقدية لنقد الخطاب الثقافي وكشف مجموعة الأفكار المتآزرة والمترابطة التي تكمن في الأعماق، وتؤثر بشكل حتمي في الفعل الجمالي والثقافي، حتى تصبح ذات وجود حقيقي يمثل الأصل النظري للكشف والتأويل.
ولعل من المناسب الإشارة باختصار شديد إلى مفاصل هذا النقد الثقافي عند القائلين به:
١ ـ أنه (نسق) يمكن أن يحدد هذا النسق عبر وظيفته وعمله وأثره، وليس من خلال وجوده المجرد.
٢ ـ أنه نظام بنيوي، بمعنى أن له بنية متآزرة كامنة في أعماق الخطاب الثقافي، وهذا النظام له وجهان أحدهما: ظاهر، والآخر: مضمر.
٣ ـ أن الوظيفة النسقية تظهر في النص الجمالي خاصة: كالشعر، والقصة، وتظهر في غير الجمالي أيضاً.
٤ ـ أن الدلالة النسقية المضمرة موجودة أزلية راسخة لها الغلبة دائماً.
٥ ـ أن الوظيفة النسقية لها جبروت رمزي يقوم بدور المحرك الفاعل في الذهن الثقافي للأمة، وهو المكون الخفي لذائقتها ولأنماط تفكيرها وصياغة أنساقها المهيمنة.
٦ ـ النقد الثقافي بمنهجه الموصوف وأدواته المذكورة وأسسه هو عبارة عن رؤية شمولية معززة بآليات ثقافية ونقدية، تستعمل فيه أدوات النقد من مثل: (المجاز الكلي، التورية الثقافية، المجمل، الكلي، المضمر، الكناية.... إلخ) .
٧ ـ بما أن الأنساق المضمرة هي صلب النقد الثقافي، وبما أنها حتمية؛ فمجموعة المثقفين والمبدعين ليسوا سوى (كائنات نسقية) ، ومهما كانت قدرات الثقافة الشخصية الذاتية الواعية فإنها لا تمتلك القدرة على إلغاء مفعول النسق؛ لأنه مضمر من جهة، ولأنه متمكن ومنغرس منذ القديم، وكشفه يحتاج إلى جهد نقدي متواصل ومكثف.
٨ ـ المراد بالنقد الثقافي كشف المخبوء تحت أقنعة البلاغة والشعر والنص الجميل؛ ولذلك كان من مطالب أصحابه إيجاد نظريات في (القبحيات) ، لكشف حركة الأنساق وفعلها المضاد للوعي وللحس النقدي:
ومما سبق يمكن استنتاج الخلفية الفكرية للنقد الثقافي؛ فهو فرع للنقد النصوصي العام، وإن حاول صاحبه التفريق بين نقد الثقافة والنقد الثقافي، ومن ثم فهو قريب من مجال (الألسنية) إن لم يكن أحد حقولها. وبالنظر إلى الشمولية والحتمية المدعاة في النقد الثقافي يمكن تصور العلاقة مع (البنيوية) التي تحدث عنها دعاتها أول ما استزرعت محلياً بالطريقة نفسها، وبحماسة فريدة وقطعية جازمة، وتكلموا عنها باعتبارها مشروعاً فكرياً له صفة شمولية سوف تغير بنية الثقافة العربية بصورة جذرية كما أكد ذلك ـ على سبيل المثال ـ كمال أبو ديب في (جدلية الخفاء والتجلي) .
وهناك أوجه للالتقاء بين البنيوية والنقد الثقافي منها:
١ ـ تحميل النص وقائله ما لم يرده على أساس لفظي في البنيوية، وعلى أساس مضموني في النقد الثقافي.
٢ ـ الحتمية المدعاة في أثر كل منهما ومنهجيته، وهذا يذكِّر بالحتمية الديالكتيكية في الماركسية، كما يذكر بالتلاقي البنيوي الماركسي.
٣ ـ الإيمان الراسخ بأن البنيوية (سابقاً) والنقد الثقافي (لاحقاً) ليست مجرد أداة إجرائية للنظر في النصوص الأدبية، بل هي رؤية ومنهج عام وشمولي، بل هي رؤية للعالم والوجود والإنسان.
٤ ـ التشابه (الحانوتي) بين الاثنين؛ فكما أعلنت البنيوية موت المؤلف والشاعر والمبدع؛ فقد أعلن النقد الثقافي موت النقد الأدبي.
ومع ذلك فهناك فوارق مهمة بين البنيوية والنقد الثقافي، وأهمها ـ في نظري ـ خطورة السياق الفلسفي والمنهجي للنقد الثقافي، وتلك الخطورة تتمثل في تقديري في الآتي:
أولاً: دراسة النسق، المضمر يرتكز على اكتشاف العيوب والخلل النسقي والقبحيات، والأنساق المضادة للوعي والحس النقدي والحيل النسقية، وهذه طريقة سلبية، وقراءة اقتناصية ونقد ترصدي، يعتمد على حذف الإيجابي ومؤشراته، وعزل سياقات ومكونات مهمة، وخوض بحار التأويل المتناقضة.
ثانياً: أن النقد الثقافي بأسسه النسقية يقوم على فكرة استباقية وعلى (نسقية مؤامراتية) تفترض القبيح والسلبي والخلل والخداع؛ فهو في حد ذاته نسق مضمر ومهيمن، حسب المواصفات المذكورة عن النسق، وعلى ذلك يمكن أن يصبح مخترع النقد الثقافي مشمولاً بكل ذلك النقد العنيف الذي رسخ مبادئه، وأقل ذلك أن يوصف في مرحلته السابقة للنقد الثقافي بأنه كان تحت حالة (العمى الثقافي) التي وصف بها (الغذامي) مرحلة ما قبل النقد الثقافي، وهذا يعني بكل وضوح أن ما كان قبل اختراع النقد الثقافي فهو جهل وتخبط وارتباك، يندرج تحت وصف (العمى الثقافي) .
ثالثاً: الاستنباطات الساذجة ـ أحياناً ـ من دراسة الأنساق الثقافية تدل على عيب منهجي وخلل معرفي، وخاصة إذا نظرنا إلى الدعوى الشاملة القاطعة بأن مجالات الثقافية بل الحياة قد (تشعرنت) أي أصيبت بفيروس (الشعر) القائم أصلاً على المجاز والمبالغة وعدم الإنجاز وعدم الفاعلية وعدم المعقولية، وأن هذا التشعرن عم حتى وصل الخطابة والقصة والقيم والأشخاص والأفعال.
ومثل ذلك ما توخاه (النقد الثقافي) من الاهتمام بما سماه (المهمشين) في الثقافة العربية وهم: الأقليات الدينية أو الطائفية أو العرقية، والتمركز الانتقائي حول الأنوثة ودراسات الجنوسة/الجندر، والتي منها وبناء عليها انبثق فكر الفحل والفحولة التي يرون أنها عمّت كل شيء بوصفها صيغة استبدادية قهرية شاملة.
رابعاً: إن النقد الثقافي بأدواته المذكورة وقراءته الترصدية وبحثه عن العيوب والخلل النسقي سيشمل ـ حالاً أو مآلاً ـ دراسة النسق الاعتقادي عند المسلمين؛ باعتباره النسق الأشمل والأظهر والأرسخ والأعمق.
وبالنظر إلى النفسية الترصدية والنظرة التشاؤمية الغالبة على هذا التيار، وبالنظر الى الخلفية الفكرية المؤطرة بالعلمانية فإنه سيجد ـ بحسب تصوراته ـ أنساقاً اعتقادية كامنة لها تأثيرات سلبية ومخرجات قبحية ـ بحسب أصولهم ونظريتهم ـ ومن ذلك على سبيل المثال القضاء والقدر، والولاء والبراء، والغيبيات كالجن والملائكة وخوارق العادات، وأشراط الساعة
هذه الأنساق الثقافية (الاعتقادية) المؤثرة هي التي عرَّفها الغذامي بقوله: (أنساق تاريخية أزلية وراسخة ولها الغلبة دائماً) ، وهي وإن حصرها في دراسته بالشعر بوصفه محور اهتمامه إلا أن الآلية بما فيها من تعميمية واقتناص وحتمية تعد منصة إطلاق يمكن نقلها إلى حقول أخرى خارج الأدب والشعر: كالتاريخ، والعلوم الإسلامية، وغيرها لممارسة القصف الشامل، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار أن فحيح الحداثيين ضد الثوابت الاعتقادية والأخلاقية والتشريعية واللغوية قد أصبح سمة على أكثر المنتمين لهذا التيار.
البيان: د. سعيد: ماذا يقصدون بالنسق في نظريتهم هذه؟ وهل يدخل الدين في تعريف النسق؟ وكيف ينظرون لثوابت الأمة عند مطالبتهم بالتحرر من الأنساق التي تؤثر على عملية التحديث كما يرون؟
- سبق في جواب السؤال الثاني الإشارة إلى هذا المعنى، والمراد بالنسق (النظام) : أي ما كان على نظام واحد، وكانت عناصره متلازمة ومترابطة بحيث تشكل كلاً عضوياً واحداً، هذا هو (النسق) ؛ فالنسق النباتي ـ مثلاً ـ يتحدث عن التمثيل الضوئي والبذور والجذور والأوراق والثمار، ويسمى (النظام النباتي) وفي العلوم النظرية يراد بالنسق: جملة الأفكار والقناعات المتشاكلة والمتآزرة والمترابطة التي تؤلف نظاماً عضوياً واحداً، ومثال ذلك (نسق داروين) و (نسق فرويد) و (نسق دوركايم) و (نسق كانط) وفي العلوم الإسلامية: مجموعة العقائد والكليات والمضامين المتلازمة التي تشكل كلاً معرفياً وعملياً مترابطاً، وهكذا في سائر العلوم والفلسفات والمعارف.
وأكثر من يستعمل مصطلح (النسق) ؛ هم (البنيويون) ؛ فالنسق عند ميشيل فوكو ـ مثلاً ـ علاقات تستمر وتتحول بمعزل عن الأشياء التي تربط بينها.
و (النقد الثقافي) يعتمد على قضية (النسق) ، وهو عند فلاسفة البنيوية: عامل مؤثر في بلورة منطق التفكير الأدبي في النص.
والنسق أيضاً هو الذي يحدد الأبعاد والخلفيات التي تعتمدها الرؤية، ومن هنا يمكن اعتبار النقد الثقافي سليل البنيوية من وجه، وسليل مدارس النقد الثقافي الأوروبي والأمريكي من وجه آخر.
و (النسقيون) إن صحت التسمية يرون في (النسق) عموماً وفي الفكر النسقي خصوصاً أنه منغلق على نفسه، وهو بذلك قابل للجمود والركود، وقد يقع في التعصب واللاتسامح.
ومن هنا يمكن أيضاً أن نكتشف عيوب وخطورة (النقد الثقافي) والنسقية التي يتحدثون عنها؛ ذلك لأنه نقد مبني على استخراج العيب والقبح والنقص، وهو نقد يعتمد على أن الأنساق (عقدية) كانت أو أخلاقية أو تشريعية أو إبداعية قوة حتمية جارفة أزلية راسخة لها صفة الغلبة دائماً، أضف إلى ذلك أن مروج النقد الثقافي يعدّ أن الكامن الثقافي والمعرفي هو مصدر التشويه والانتكاس، وهذا ينطبق على الكامن العقدي والأخلاقي، وإن لم يقلْ بذلك صراحة، إلا أن منهجيته توصل إلى ذلك قطعاً.
والحقيقة أن النقد الثقافي ـ بصورته التي ظهر بها ـ هو نقد أخلاقي، وإن حصره صاحبه في مجال الشعر، إلا أنه منطوٍ على نقد قيمي أخلاقي قابل للتطبيق ـ بحسب فلسفته وآلياته ـ في مجال الثوابت الاعتقادية والتشريعية.
وفي تقديري أن كتاب (النقد الثقافي) للغذامي لا يبعد كثيراً عن كتاب (الثابت والمتحول) لأدونيس أو كتاب (زمن الشعر) له، اللهم إلا في اختلاف حقلي الدراسة٠
وللقارئ أن يقارن بين هذين القولين الآتيين ليرى أوجه التشابه والاختلاف بينهما. يقول أدونيس: (ما يزال نظام العلاقات القديم بكل إرثه هو الفعال السائد في الحياة والثقافة العربيتين على السواء) ، ويقول الغذامي في النقد الثقافي ص٨٠: (هناك نوع من الجبروت الرمزي يقوم ... بدور المحرك الفاعل في الذهن الثقافي للأمة، وهو المكون الخفي لذائقتها ولأنماط تفكيرها وصياغة أنساقها المهيمنة) ، ومن هنا يمكن أن نفهم مدى خطورة هذه الأيديولوجيا على ثوابت الأمة ومنطلقاتها.
البيان: فحولة الخطاب، والدعوة إلى التسوية كما يتردد هذه الأيام، ماذا يقصد به بناءً على تأصيلهم النظري؟
- لكي نفهم قضية الفحولة والأنوثة التي يثيرها المنتحلون لا بد من العودة إلى جذور هذه الدعوة في محاولة تلخيصية توضيحية تناسب المقام.
١ ـ تقوم الفكرة أصلاً على قاعدة من الفلسفة المادية التي تنكر أي وجود جوهري للإنسان مستقل عن المادة وحركتها.
٢ ـ الفكرة المادية الشمولية، تشكل إطاراً مرجعياً (نسقياً) في أذهان المتأثرين به، بما في ذلك الذين لا يستبعدون الدين نهائياً.
٣ ـ الفلسفة العقلانية المادية في تعاملها مع الإنسان تنظر إليه في إطار نظرة تحليلية مادية تلغي كل الخصائص غير الطبيعية، ثم تقوم بتشريحه / تفكيكه إلى عناصره المادية الأولية.
٤ ـ من منطلقات هذه الفلسفات كان الهجوم المادي العنيف على الطبيعة الإنسانية، والسمات البشرية التي تميز الإنسان عن غيره، والمقومات الفطرية التي لها أثر في تحديد نوعية نشاط الإنسان بناءً على جنسه وخلقته.
٥ ـ من معطيات الهجوم المادي على الطبيعة الإنسانية والفطرة الخلقية للإنسان كانت دعوات الشذوذ الجنسي، والدعوة إلى تقنينه وتطبيعه اعتماداً على إلغاء ثنائية الذكر والأنثى، المستندة أصلاً إلى المعيارية الإنسانية، المستمدة من معيارية وجود خالق ومخلوق.
٦ ـ من تطبيقات هذه المبادئ ظهرت حركات تحرير المرأة والدفاع عن حقوقها، ثم ظهر من سنوات قريبة مصطلح (الأنوثة) Fenminism، وحل محل حركة تحرير المرأة.
٧ ـ مذهب (الأنوثة) يقوم على رؤية تفترض مركزية الإنسان واستغنائه بذاته، وينطلق البرنامج الثقافي والفكري والاجتماعي لعقيدة (الأنوثة) من منطلق (مركزية المرأة) و (المرأة أولاً) ، ومن قاعدة أن الأنثى دائماً في حالة صراع كوني مع الرجل، مع السلطة الأبوية والزوجية، ومن هنا ظهرت نظريات عن أنوثة الإله ـ تعالى الله ـ وعن التفسير الأنثوي للتاريخ، وعن تأنيث اللغة، إلى آخر ما هنالك من أفكار ومذاهب تقوم على استحالة التواصل بين الذكر والأنثى؛ لأنهما في صراع مستمر لا ينقطع، ومهمة الدعوات (الأنثوية) تحطيم الفحولة والقضاء على الرجل المتسلط، وتحسين أداء الأنثى في عملية الصراع هذه.
٨ ـ من هنا يتم الهجوم على (الفحولة) أو ما يعبر عنه بـ (ذكورية اللغة) الذي هو في حقيقته هجوم على اللغة ذاتها وتشويهها، والتلاعب بمدلولاتها الحقيقية، بل المجازية أيضاً.
٩ ـ آخر المطاف وليس نهايته يصل مذهب (الأنوثة) ومقاومة الفحولة وتحطيم الرجل العدو اللدود للمرأة ـ حسب نظريتهم ـ يصل المذهب إلى (الجنوسة) Gender (الجندر) الذي: هو عبارة عن زيادة التمركز حول المرأة، وإيقاد نيران الصراع مع الرجل.
والجنوسة أو الجندر يعود في أصله إلى مصطلح لغوي ألسني، ومن هنا يمكن تلمس منابع مصطلحات (الفحولة) و (الأنوثة) في الخطاب المذكور٠
وتعتمد (الجنوسة) أو الجندر على إلغاء أي شكل أو نوع من أنواع التمايز بين الرجل والمرأة، تحت ذريعة إخراج المرأة من الهيمنة والسلطة والتسلط، وحصار الهوية، وهوس الفضيلة ونحو ذلك. والجنوسة في الفكر الغربي حاولت تحييد الرجل وإبعاده، والعجيب أن ذلك تم بأفكار ومنطلقات (ذكورية) تزداد فيها سيطرة الرجل على الأنثى، وتتسع بها مجالات استمتاعه بها، كما هو حاصل في دعوات تحرير المرأة ودعوات الأنوثة، وقد زعمت هذه الأفكار بأنها سوف تقلب بنية التضاد بين الذكر والأنثى؛ لكي تصبح الأنثى أصلاً والذكر فرعاً، وهذه الدعاوى المستندة على الفكر المادي التصارعي لن تستطيع فعل شيء في هذا المضمار، سوى أنها ستستخدم آلية القمع التي تزعم أنها جاءت لمناهضتها، وتوقع الأنثى في شراك خادع وفخاخ انتهازية شهوانية ذرائعية نصبها لها الرجل.
١٠ ـ إن التطبيق العلمي لدعوة (الأنوثة) أو (الجنوسة) ومحاربة (الذكورة) والقضاء على (الفحولة) تعني إلغاء أشكال السلطة المعروفة في الحياة الاجتماعية.
والمستعيرون لهذه الأفكار من أبناء المسلمين لا يخفون ذلك، بل يعتبرونه مجداً وفخراً وإنجازاً، ولو كانت هذه السلطة هي حق الله ـ تعالى ـ في التشريع والأمر والنهي، وهي ما يسمونه القضاء على (الأنا المتعالية) التي تمتد أيضاً لتصل إلى سلطة الأب على ابنته؛ فالأب ذكر فحل والبنت أنثى، أو سلطة الزوج الفحل أو سلطة النظام الذي يمثل الخطاب الفحولي، أو سلطة المدرس الذي يتمتع بالصلاحيات الفحولية. ثم يستمر الهوس (الأنثوي) (الجنسوي) (الجندري) عند هؤلاء لتطالع مفرداتهم من قبيل: (تدوين الأنوثة، تأنيث المكان، استرداد اللغة لأنوثتها، تأنيث الذاكرة) ، ونحو ذلك من المصطلحات والمفردات المكتوبة بحروف عربية وأفكار غربية، لا يتورع صاحبها أن يصف كل خطاب ونص له هيمنة بأنه خطاب (فحولي) (ذكوري) يجب أن تسحب منه هذه الصلاحيات، ويفكك ويشرَّح ليعود إلى الأصل، وهي الأنثى كما سمت نوال السعداوي كتابها (الأنثى هي الأصل) في خطاب يستند إلى الماركسية والتحليل الفرويدي، وهو خطاب صريح واضح وعدواني إلى الحد الذي جعل جورج طرابيشي يصفها بأنها (أنثى ضد الأنوثة) ، بعكس خطاب الغذامي ونظرياته المستعارة في الفحولة والأنوثة فإنها تؤصل وتضرب الأعماق من بعيد، بطريقة (فحولية) أيضاً ويا للعجب!
ومن يتتبع مسيرة حركات التحرر ثم الأنوثة ثم الجنوسة والسياق المستعار عند فاطمة المرنيسي ـ مثلاً ـ ثم عند عبد الله الغذامي يجد القدرة على استقبال الأفكار وإعادة صياغتها ونشرها باللغة العربية.
لقد قدم الغذامي كتبه الثلاثة عن المرأة (المرأة واللغة) و (المرأة واللغة: ثقافة الوهم) و (تأنيث القصيدة والقارئ المختلف) وهو يحوم حول مفاهيم مستعارة وشواهد مجتزأة، لا ليصل إلى حلول عملية تجلب المصالح الحقيقية للمرأة، وتدفع المفاسد عنها، وإنما ليتحدث منتشياً بقدرته على التعاطي مع السوق النقدية العربية وفق نظام العرض والطلب، المتساوق مع رهج العولمة وزخمها السياسي والاقتصادي والإعلامي.
إن الإعلان الاستعراضي عن حرب (الأنوثة) و (الفحولة) مرتبط بخلل في التصور والفهم، ومؤكد على انفعالية استعارية لم يحفل أصحابها بالمضمون الذي تحتويه، ولم يروا الأبعاد الحقيقية لهذه الدعوى؛ فإذا كانت اللغة العربية ـ حسب رأيهم ـ لغة فحولية ذكورية متسلطة مستبدة تغيب المرأة عن التاريخ والواقع، وخطاب هذه اللغة ـ حسب وصفهم ـ خطاب فحولي متحكم متعال، وذاكرة هذه اللغة ذاكرة فحولية مهيمنة ومهمشة للأنثى، إذا كانت كل هذه الأوصاف في اللغة العربية؛ فماذا عن القرآن العظيم الذي جاء أكثر خطابه بصيغة التذكير: هل تنطبق عليه كل هذه الأوصاف الشنيعة؟ إن قال دعاة الأنوثة: نعم! فذلك من أعظم أنواع السخرية والاستخفاف بكلام الله، وإن قالوا لا، فقد تناقضوا.
ثم هناك البعد الأخلاقي الخطير في دعوة (التأنيث) هذه؛ وذلك لامتلائها صراحة بالتحريض ضد الرجل، والتحريش ضد معالم الرجولة أو ما يسميه الفحولة، والتأجيج التاريخي واللغوي والعاطفي بين جنسين خلقهما الله ليتكاملا لا ليتصارعا.
ومما يؤكد ذلك ما نقلته الناقدة (ضياء الكعبي) ، وأشارت إليه في سياق دراستها لبعض مؤلفات الغذامي، وهي دراسة إطرائية متساوقة مع الغذامي إلى حد كبير. تقول الكاتبة: عندما تلقيت كتاب (المرأة واللغة) للمرة الأولى بسملت، وحوقلت..، وأذكر ما قالته لي صديقة متزوجة إنها عندما قرأت هذا الكتاب وصلت إلى مرحلة التطهير الأرسطي؛ فتمنت في عقلها الباطن أن تقتل زوجها انتقاماً من جنس الرجال قاطبة وما فعلوه بالنساء، وقتها حمدت الله أني لست متزوجة؛ كي لا يكون مصير زوجي التقطيع في أكياس، إذن نستعيذ بالله من فتنة القراءة الغذامية ومن شر إغوائها.
البيان: يردد هؤلاء بأن هناك غياباً شبه كامل وعدم وجود نظرية إسلامية تخدم الأدب العربي منذ نشأته في العصر الجاهلي وحتى يومنا هذا، بل كل الإنتاج الأدبي هو عبارة عن خطابات فحولية تمجد الذكورية في طياتها، كما أنه عبارة عن مخرجات (لا واعية) متأثرة بالأنساق المسيطرة وتجبن في الخروج عليها؟
- لا يُتوقع من دعاة (الأنوثة) و (الجنوسة / الجندر) و (اليوني سكس أي الجنس الوسط) أن يعترفوا بوجود نظرية إسلامية تخدم الأدب العربي؛ وذلك لأن خطابهم في التجني على الثوابت والتحريض ضدها قد تجاوز اعترافهم بهذه القضية، أي أنهم قطعوا شوطاً بعيداً في الالتصاق بمنظومة أخرى لا ترى في الخطاب العربي واللغة العربية إلا الفحولة المستبدة، والذكورية الماكرة، والتعالي الفحولي، وغير ذلك من ألفاظ الثورة ضد اللغة ومدلولاتها وظلالها، وأبعادها ومعانيها ومراميها وعلاقاتها.
هذا الهجوم على ما يسمى (ذكورة اللغة) هو في واقع الحال هجوم مادي على مصادر اللغة والتي منها القرآن والسنة والشعر العربي والنحو العربي والبلاغة والصرف وتشويه لها، وتحويلها إلى مجرد أيقونات.
هذا هو وجدان ومضمون الخطاب (الأنوثي) المؤطر بإطار العقيدة المادية الطبيعية التي تستخدم الجنس أصلاً لإدراك كل شيء، والحكم على كل شيء، والمؤدى القريب أو البعيد لهذه الدعاوى تقويض حدود اللغة القائمة وضوابطها ومدلولاتها، وإبعاد المرجعية الإنسانية المتخطية لحدود المادة، أعني المرجعية الغيبية الدينية، وغني عن القول أن هذه النظرية تصوغ المرأة إما أنها أكثرمن أنثى أي (عدو للذكر) وخصم له، وإما أنها أقل من أنثى (متطابقة مع الرجل) باسم الجنوسة أو الجندر أو اليوني سكس، وفي كلتا النظريتين تسقط المرأة بوصفها الأم الحنون، والزوجة الرؤوم، والبنت البرة، والأخت الوفية، والمربية البانية، والمعلمة الحانية، ويحل محلها المرأة المتصارعة مع الرجل أباً كان أو زوجاً أو ابناً أو أخاً.
وبهذا السقوط تسقط الروابط الاجتماعية تحت حرب ميليشيات دعاة (الأنوثة) و (الجنوسة) ؛ وبذلك تسقط الأسرة في الحرب المفتعلة بين الذكور والإناث؛ وبذلك يتلاشى جوهر الوجود الإنساني؛ إذ يصبح كل فرد عبارة عن وجود رقمي مستقل، يعيش مصلحته الخاصة، ورغباته الذاتية، ويسقط في قبضة الحياة المادية الساحقة، وينزلق في حرب مستمرة قاتلة لكلا الطرفين.
البيان: السبئية، ثورة الزنج.... وغيرهما نماذج وتجارب لم يكتب لها النجاح في تأريخنا ـ في الخروج على النسق العام، وهؤلاء يدعون للاستفادة منها، ما علاقة هذا بالحداثة الأدبية كما يزعمون في كتاباتهم؟
- إذا نظرنا إلى أصول ومنطلقات الحداثة الأدبية فإننا نجد أنها قامت أساساً على ابتغاء التحول والدعوة إلى صيرورة جديدة منعتقة من الثابت والمؤصل في صياغة تتخذ التغيير مذهباً، والتقويض مسلكاً، وفي سبيل هذا الاتجاه الأيديولوجي تم اصطناع الأدوات المناسبة لعملية الهدم والتقويض: أدوات لغوية باسم (تفجير اللغة) و (تأنيث اللغة) و (القضاء على معجمياتها) و (نحوها وصرفها) وأدوات اعتقادية تجزم بحتمية الصيرورة الدائمة، وحتمية الحداثة، وأدوات تاريخية تستهدف التشكيك في التاريخ الثابت المنقول، كما تستهدف إحياء الأقليات التاريخية المارقة والمنحرفة تحت شعار البحث عن المهمش والمقصي؛ وبذلك ترسخت المفاهيم الباطنية في الشعر العربي الحديث، وساعد على ذلك وجود أشخاص متبوعين من هذه الطوائف المنحرفة، مثل: أدونيس، وزوجته خالدة سعيد، والبياتي، ومظفر النواب، ومهدي عامل، وحسين مروة، وشوقي بزيع، وحنان الشيخ، وتوفيق زياد، وسميح القاسم، وغيرهم.
وهذا ما لحظه إحسان عباس في كتابه (الاتجاهات الجديدة ص ٨١) ، حيث قال: (لا ريب أن عدداً من الشعراء المحدثين ينتمون إلى الأقليات العرقية والدينية والمذهبية في العالم العربي، وهذه الأقليات تتميز ـ عادة ـ بالقلق والدينامية ومحاولة تخطي الحواجز المعوقة والالتقاء على أصعدة أيديولويجية جديدة، وفي هذه المحاولة يصبح التاريخ عبئاً والتخلص منه ضرورياً، أو يتم اختيار الأسطورة الثانية؛ لأنها تعين على الانتصاف من ذلك التاريخ بإبراز دور تاريخي مناهض) .
وهذا الولع بالنماذج والتجارب الشاذة في التاريخ أصبح سمة عند هذا الاتجاه، حتى من أبناء المسلمين غير الطائفيين؛ وذلك لأن تنظيراً في هذا الاتجاه قد تأسس في أذهانهم وتشربوه كالمسلَّمات اليقينية، فساروا عليه، فأثر على كتاباتهم بالأسماء والرموز الشاذة في إطار امتداحي تبجيلي مخادع، يسير عليه بعض الكتّاب بعمى ثقافي وصمم معرفي لا يعرفون ما وراء الأكمة، ولا يرغبون في معرفته، بل قد ينهالون بالنقد والثَلْب لمن أخبرهم بأبعاد وخلفيات هذه الممارسة التي ظاهرها ثقافي أدبي وحقيقتها تقويض وهدم.
يقول أدونيس في الثابت والمتحول (٣/٩، ١٠) : (ومبدأ الحداثة: هو الصراع بين النظام القائم على السلفية والرغبة العاملة على تغيير هذا النظام، وقد تأسس هذا الصراع أثناء العهدين الأموي والعباسي؛ حيث ترى تيارين للحداثة: الأول سياسي فكري، ويتمثل من جهة في الحركات الثورية ضد النظام القائم بدءاً من الخوارج وانتهاءً بثورة الزنج ومروراً بالقرامطة، والحركات الثورية المتطرفة، ويتمثل من جهة ثانية في الاعتزال والعقلانية الإلحادية وفي الصوفية على الأخص) ، ولعل في هذا النص بعض الإجابة عن خلفيات هذه القضية وأغوارها.
البيان: ما تعليق فضيلتكم على التنقل بين النظريات الغربية، والتي تعالج الفكر الإنساني، وكلما لاح في سوق الفكر الغربي نظرية جديدة أو تحول جديد رأينا ممّن يدعون نقاد الحداثة يسعون وراءها، وهل هذا التنقل الفكري ينم عن استقرار نفسي ووضوح في الرؤية و (تجديد واعٍ) ، كما عرف الغذامي الحداثة؟
- طبيعة وكلاء التوزيع الفكري التنقل بين شركات الإنتاج الفكري والفلسفي، كما أن طبيعة المستهلك الثقافي تبرز جودتها في اعتناق كل جديد، ولو أدى ذلك إلى التناقض التام، وهذا ما نجده في أشخاص مشهورين عاشوا حالات الارتحال الفكري من النقيض إلى النقيض من الماركسية إلى البعثية اليسارية إلى الليبرالية الغربية. إن من أساسيات هذه المشكلة من زمان طه حسين إلى الآن الانحصار في مجرد النقل عن الآخر. يقول محمد مندور في كتابه (الميزان الجديد) مشيراً إلى ما تعلمه من أستاذه طه حسين: (لقد أخذت عنه شيئين كبيرين هما: الشجاعة في إبداء الرأي، ثم الإيمان بالثقافة الغربية، وبخاصة الإغريقية والفرنسية) ، وهذا النمط استمر وبطريقة مضاعفة في الأجيال اللاحقة، وهذا يدل على (العمى الثقافي) حقيقة وعلى التبعية العمياء، وممارسة (الاستغراب) ، كما سماه حسن حنفي مادحاً٠
وهذا النمط نفسه هو الذي جاء به الحداثيون منذ سنوات مضت بحماس شديد ليستنبتوا المناهج الغربية في بيئة النقد العربي والفكر والثقافة والفلسفة، بوصفها مشروعاً فكرياً لها القدرة الخارقة على تغيير البنية الثقافية بشكل جذري؛ فالبنيوية أو الواقعية الاجتماعية أو الألسنية أو التفكيكية ليست مجرد مناهج فنية أو أدوات إجرائية، بل هي ـ حسب قولهم ـ رؤية للإنسان والعالم والوجود، وهذا مثال واحد من عشرات الأمثلة، تدل على أن الزعم بأن الحداثة (تجديد واع) ليست كذلك بحال، وفي تقديري أن لذلك أسباباً كثيرة، بعضها معرفي فكري، وبعضها نفسي، وبعضها أخلاقي، والكلام عن هذه الأسباب يطول.
البيان: ما معنى النص المفتوح؟ وهل له أثر ملموس أو متوقع على تفسير القرآن الكريم والسنة النبوية؟ وهل هناك كتب عربية توسعت في هذا؟
- مصطلح (النص المفتوح) من المصطلحات المستخدمة في مذهب (ما بعد الحداثة) التي اهتمت بمناهضة الشكل المنتهي، ودعت للشكل المفتوح والفوضى التخريبية، والدعوة إلى التقويض، والنصوصية المتداخلة، والبعد الأفقي، وأهمية المكتوب، ومعاداة السرد، والاحتفاء بالمهمش والمقصي، واعتماد نظرية اللاتقريرية في قائمة طويلة من الألفاظ والمصطلحات التي تبدو عليها آثار الطروحات البنيوية وما بعدها.
ولـ (النص المفتوح) أبعاد فلسفية وتاريخية وسياسية؛ فأما البعد الفلسفي: فقائم على الأساس المادي، والعقل المادي الذي يؤكد أصحابه دائماً بأن (الحقيقة الثابتة) ليست سوى صناعة لغوية.
أما البعد السياسي (الأيديولوجي) فقائم على أن أهمية الشيء مرهونة بنتائجه، وهنا تلتقي مع (البراغماتية / الذرائعية)
ومنظور ما بعد الحداثة معني بإيجاد الإشكاليات ضمن المسلَّمات؛ حتى يمكن له خلخلة الثقة بها، ثم تقوم بعد ذلك بإعادة تعريف الحقائق المتغيرة، وزعزعة الثقة بالثوابت؛ من أجل ذلك سعت حركة ما بعد الحداثة إلى تأصيل النص وانفتاحه، وقدرته على إنكار الحد والحدود؛ مما يجعله يقبل التأويل المستمر والتحول الدائم، وبذلك ـ حسب رأيهم ـ تتحول النصوص إلى نصوص لا نهائية في نصيتها، ولا محدودية في معانيها؛ مما يفضي إلى تعدد الحقائق والعوالم بتعدد القراءات.
وفي الناتج العملي لفكرة (النص المفتوح) نجد البراغماتية والليبرالية التي يعتبر أصحابها (أن القطعيات والحقائق الثابتة والمطلقة عبارة عن نسق مغلق) تركي الحمد في كتابه (من هنا يبدأ التغيير ص ١٣٧) ، أما الليبرالية ـ حسب قوله ص١٣٨: (فتبقى نصاً مفتوحاً على عكس (لنصوص المغلفة في بقية الأيديولوجيات) ؛ ولذلك ـ حسب رأيه ـ انتصرت الليبرالية في صراعها مع بقية الأيديولوجيات، ولسنا هنا بصدد مناقشة هذا النوع من الادعاء، بل المقصود بيان أوجه التلاقي الفكري الفلسفي مع التنظير السياسي بين نظرية (النص المفتوح) و (الليبرالية المؤدلجة) . أما علاقة ما يسمى (النص المفتوح) بالوحي فإننا نجد أثر ذلك في هجوم نصر حامد أبو زيد، ومحمد (أركون) على نصوص القرآن، حيث يرى أبو زيد أن النصوص الدينية ليست سوى نصوص لغوية، ويتبنى القول ببشريتها، وينادي بتأويلها تأويلاً مفتوحاً متنوع القراءات بحسب نوعية وعدد القراء؛ لأنه يرى أن التمسك بحرفية النص ودلالاته اللغوية يجعل النص مغلقاً، ومن ثم ينحصر فهم النص في أقلية مستبدة مسيطرة حسب قوله، ونحواً من هذا الطرح ومن زاوية تاريخية يدرس أركون نصوص الوحي وفق مفهوم (النص المفتوح) أيضاً، وضمن منظور الدلالات المفتوحة القابلة للتجدد مع تغير آفاق القراءة، المرتهن بتطور الواقع اللغوي والثقافي ـ حسب كلامهم ـ وأما الكتب التي تناولت نصوص الوحي وفق هذا المنظور المادي التقويضي المستهدف تدنيس المقدس وتهميشه؛ فمنها كتب نصر أبو زيد، وخاصة كتابه (مفهوم النص) ، وكتاب لإبراهيم محمود بعنوان (قراءة معاصرة في إعجاز القرآن) ، وللتزيني كتاب (النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة) ، ولنائلة السليني (تاريخية التفسير القرآني) ، ولأركون (العلمنة والدين والإسلام) و (الفكر الإسلامي قراءة علمية) ، وغيرها.
البيان: ما تعليقكم حفظكم الله على من يقول أن النقد الأدبي قد انتهى، وأن الوقت الآن حان لما يسمى بالنقد الثقافي؟
- سبق أن ذكرت أن مشروع ما بعد الحداثة تقوم استراتيجياته ومنهجيته وطروحاته الفكرية والفلسفية على التقويض والفوضى التخربية والإنهاك والتشتيت وزعزعة الثقة بالأنموذج والأصل، كما أن الحداثة في أصلها قائمة على مقاومة الثابت والمؤسسي علمياً وفكرياً وثقافياً، يضاف إلى ذلك أن مروج (النقد الثقافي) هو الذي أعلن موت النقد الأدبي، وهذا الإعلان جزء من منظومة المزاعم المولعة بالمفارقة والتغييرات المصطنعة، والتقويض، وهو إعلان مستمر لكمية من الجنائز التي أولع الحداثيون بتشييعها مفتخرين! وإعلانات الوفاة عندهم كثيرة منها: موت المؤلف، موت اللغة، موت المسلَّمات، موت المتعاليات، موت الإنسان، موت الكلمة، موت التعبير الفني، إلى آخر ما هنالك من جنائز يعلن عنها أصحاب هذا الاتجاه انطلاقاً من العدمية والنسبية المطلقة، والفوضى، والهدم المعبر عنه بـ (التفكيكية) و (التشريحية) و (التقويضية) ، وغيرها من المصطلحات والعبارات.