للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

[لماذا اختارت موريتانيا التطبيع؟!]

يحيى أبو زكريا [*]

عندما لجأت موريتانيا إلى تطبيع علاقاتها مع الدولة العبرية، وفتحت سفارة

لتل أبيب في عاصمتها نواكشوط لم تقدم للرأي العام الموريتاني والعربي على

السواء المسوغات الموضوعية التي دعتها إلى اتخاذ هذه الخطوة التي اعتبرت بأنها

تشكّل خرقاً لمواثيق الجامعة العربية القاضية بوقف التطبيع بكل أشكاله مع الدولة

العبرية ريثما يتجلى ما سوف تكون عليه المفاوضات النهائية.

وجاء الإعلان عن إقامة علاقات موريتانية - إسرائيلية بعد لقاءات سرية هنا

وهناك أفضت دون علم الموريتانيين إلى عرس التطبيع في واشنطن بحضور ممثلي

الديبلوماسية من كلا البلدين.

والواقع أنّ موريتانيا لجأت إلى التطبيع لأسباب كثيرة منها أن موريتانيا كانت

على الدوام تشعر أنّها مهددة من قِبَل الجزائر والمغرب.

ومعروف أنّ موريتانيا تحدّها من الشمال الشرقي الجزائر، ومن الشمال

الغربي المغرب؛ فالجزائر في عهد هواري بومدين سبق لها أن أطاحت بنظام

مختار ولد داده في نواكشوط بسبب وقوف هذا الأخير إلى جانب المغرب في قضية

الصحراء الغربية التي كانت تدعمها الجزائر، كما أن المغرب كانت ترفض جملة

وتفصيلاً قيام الكيان الموريتاني.

وكانت الرباط تعتبر أنّ موريتانيا كيان مختلق وهي في الواقع امتداد للأرض

المغربية شأنها شأن الصحراء الغربية. وعندما منحت فرنسا الاستقلال لموريتانيا

في ٢٨/١١/١٩٦٠م كانت المغرب تنظر بعين الريبة إلى هذه المناورة الاستعمارية

الجديدة، إضافة إلى أن جمال عبد الناصر في مصر كان لا يعترف باستقلال

موريتانيا التي كان يعتبرها أرضاً مغربية؛ وهو الأمر الذي خلق عقدة موريتانية

رسمية تجاه الفكرة القومية العربية التي كان يتبناها جمال عبد الناصر.

وعندما نعود إلى بدايات تشكل الكيان الموريتاني نكتشف أنّ فرنسا ساهمت

بالدرجة الأولى في إقامة الدولة الموريتانية الحديثة، ولما كانت موريتانيا ترزح

تحت السيطرة الفرنسية أصدرت باريس قراراً يقضي بأن موريتانيا يحق لها ترشيح

نائب واحد يمثلها في البرلمان الفرنسي، وسمح هذا المناخ السياسي بتأسيس أحزاب

في موريتانيا ومنها الاتحاد التقدمي الموريتاني بقيادة مختار ولد داده وحزب الوفاق

الموريتاني بزعامة خورما ولد بابانه، وقيل في موريتانيا إنّه كان عميلاً للسلطات

الفرنسية، وأسس حزبه للتصدي لعلماء الدين وشيوخ الإصلاح.

وفي سنة ١٩٥٦م أخذت فرنسا تفكر في إدارة مستعمراتها في الشمال الإفريقي

بطريقة مغايرة حتى تتمكن من التصدي للثورة الجزائرية التي كانت ملتهبة في ذلك

الوقت، وبناء عليه أنشأت فرنسا مجلساً حكومياً في موريتانيا رئيسه فرنسي ونائب

الرئيس موريتاني، وقد اختار الفرنسيون مختار ولد داده لمنصب نائب الرئيس،

وعندما قرر الفرنسيون منح الاستقلال لموريتانيا دعموا وصول مختار ولد داده الذي

أصبح رئيساً لجمهورية موريتانيا، وقد أقرّ الدستور الموريتاني أنّ اللغة العربية

والفرنسية هما لغتان رسميتان في موريتانيا، وقد ساهمت البنية الفرانكفونية للنظام

الموريتاني في دفع نواكشوط باتجاه التطبيع على اعتبار أن فرانكفونيي المغرب

العربي يعتبرون أنهم أقرب إلى المحور الغربي الإسرائيلي منه إلى محور العالم

العربي والإسلامي.

ويضاف إلى عاملي الخوف الموريتاني من الجزائر والمغرب والبنية

الفرانكفونية للنظام والنخبة الحاكمة الموريتانية عامل آخر دفع باتجاه التطبيع

الموريتاني الإسرائيلي؛ ويتمثل في بداية تصدع العلاقات الفرنسية - الموريتانية؛

حيث إن باريس ما فتئت تطالب نواكشوط بضرورة تحسين وضع حقوق الإنسان

وإطلاق التعددية السياسية في موريتانيا، ووصل الأمر بالسلطات الفرنسية أن

اعتقلت رسميين موريتانيين في فرنسا بحجة قيام هؤلاء الرسميين بتعذيب سياسيين

موريتانيين. ونواكشوط التي كانت تشعر بالضعف من جارتيها القويتين: الجزائر

والمغرب، خافت أن يؤدي تراخي علاقاتها بالحليف الفرنسي الى تكريس ضعفها

أكثر من اللازم، وراحت تبحث عن حليف أشد سطوة وقوة وهو الآن الولايات

المتحدة الأمريكية؛ والوصول إلى هذا الحليف يقتضي المرور بالدولة العبرية الممر

الضروري باتجاه واشنطن، وكان لنواكشوط ما تريد.

وقد صادف هذا التوجه الموريتاني هوى في نفس تل أبيب وواشنطن لأسباب

عديدة منها أنّ موقع موريتانيا حساس للغاية؛ فهي تطلّ غرباً على المحيط الأطلسي،

وجنوباً على دول إفريقية عديدة منها السنغال ومالي، وحول مدينة شنقيط

الموريتانية تقع ثروة موريتانيا الأسطورية الحديد الذي ينتشر على شكل سلاسل

جبليّة، ويقال إنه عند اندلاع الحرب العالمية الثانية شكا الطيارون من حدوث

تغييرات على مؤشر البوصلة في كل مرة يطيرون فيها فوق الجبال المحيطة

بشنقيط، وبعد أن وقفت الحرب جاء الخبراء لكشف سرّ تلك الظاهرة، وما كادوا

يبدؤون عملهم حتى اتضح لهم أنّ جبل سفريات وجبل كديت الجلد ما هما إلا كتل

هائلة من الحديد، وثبت أنّ حجارة هذه الجبال تحتوي على ٩٤.٥٢ من أكسيد

الحديد، وهذه النسبة تضارع أعلى نسبة حديد موجودة في مناجم العالم.

ويبدو أن موريتانيا وثرواتها الطبيعية أصبحت تحت المجهر، وأن تطبيعها

مع الدولة العبريّة لن يكون لصالح موريتانيا بل ضدّها؛ وما خبر المطبعين عنا

ببعيد!


(*) صحفي جزائري مقيم في استوكهولم.