المسلمون والعالم
حرب البوسنة: لا مكان للضعفاء!
بقلم `د. عبد الله عمر سلطان
ربما يجد الكاتب صعوبة بالغة في الحديث عن البوسنة وأحداثها، فالواقع أن
نهر الدم والقهر الجاري قد أصبح مثالاً واقعاً، يحمل بين ثناياه مزيداً من التعاسة
والحسرة، ولذا: فإن أي مأساة بوسنية جديدة لا تثير في النفوس إلا مشاعر أو
زفرات قصيرة العمر؛ ذلك أن المأساة نفسها قد طالت وحفلت بشتى ألوان الظلم
والعسف والوحشية، حتى أصبح الرأي العام المحلي والدولي مهيأً دوماً لاستقبال
المزيد من الكوارث والرزايا، بل ربما وصل الأمر ببلادة الحس وموت المشاعر
أن يُستغرب مرور أسبوع أو شهر دون حصول مأساة جديدة ضحاياها هم المسلمون
الضعفاء هناك..!
وابتداءً: فإن عجز الدول والشعوب الإسلامية تجاه مأساة البوسنة بأطوارها
المتلاحقة لا يحتاج إلى تدليل أو بيان، ولا أجد هنا من شاهد سوى أن أحداث
البوسنة الأخيرة قد خنقت حتى أزير الشجب المبحوح أو صور الاستنكار الفلكلوري
المعتاد، فحتى هذا أختفى ووُئِد وتلاشى الآن؛ فالجميع مشغولون بما هو أهم: من
محاربة الأصولية والتطرف ... وربما كان الحفاظ على الهوية المسلمة في قلب
أوروبا جرحاً لمشاعر القارة المتحضرة أو استفزازاً للرجل الأبيض، كما يفتي بذلك
خبراء الإرهاب ومفكرو الحملة القمعية ضد كل نَفَس أو صوت إسلامي في قلب
أوروبا أو في بلاد الإسلام ذاته.
هذا الخور الذي يلف العالم الإسلامي تجاه متحف البربرية الصربية الراهنة،
يجعلنا نلتفت قليلاً إلى أصحاب القرار الحقيقيين الذين ثارت حميتهم، وارتفعت
أصواتهم حينما مُس الدم النصراني المتمثل في تصفية جنود الأمم المتحدة،
فسارعوا إلى الحديث عن بربرية الصرب ووحشيةٍ تذكرهم بالقرون الوسطى!
الفتيل:
بدأت موجة التوتر في البوسنة في التصاعد بعدما شهد صرب البوسنة هزيمة
منكرة على أيدي القوات الكرواتية، التي دحرتهم من أقليم سلوفينيا الغربي الذي
يشكل ثلث الأراضي الكرواتية المحتلة من قِبَل صرب البوسنة التي أطلقوا عليها
اسم (جمهورية كارايينا) بعد أن نجحوا في احتلالها عام ١٩٩١م، ومع الزمن: بدا
أن حلم صربيا الكبرى القائم على تحالف جمهورية صربيا والجبل الأسود مع
جيوب الصرب في كرواتيا والبوسنة يشهد مزيداً من التصدع؛ فالمسلمون
والكروات اليوم أقوى من ذي قبل، بينما يشهد الجانب الصربي تراجعاً في وحدته
وقوته، ففي المعركة التي جرت في شهر ذي الحجة من عام ١٤١٥هـ
(مايو ٩٥ م) تراجعت الوحدات الصربية بسبب ظهور خيانات واسعة في الجيش الصربي الذي يقوده ميلان جيلكتش الذي وجه اللوم مباشرة إلى زعيم صربيا سلوبدان ميليفتش متهماً إياه بالتخاذل عن نصرة إخوانهم الصرب في حربهم الخاسرة أمام كرواتيا.
لقد وضح بالدليل القاطع أن الصرب استطاعوا من خلال حلفهم القوي أن
يجتاحوا مناطق واسعة من البوسنة وكرواتيا، لا سيما وأن الشعار المرفوع كان:
الوحدة فقط تنقذ الصرب.. وبعد ثلاثة أعوام من قيام دويلات الصرب الهمجية في
مناطق أعدائهم ظهر أن هذه الوحدة الظاهرية مهددة بالفعل، لا سيما وأن القادة
العسكريين والسياسيين انخرطوا في تجارة تهريب المواد الممنوعة والسجائر
والوقود، مما دفع العديد من الطواقم المهنية المدربة إلى الهجرة خارج حدود هذه
الدويلات، حيث يتندر هؤلاء الهاربون بالفساد والمحسوبية التي وصلت إلى حد أن
زعماء سلوفينيا الغربية كانوا مشغولين عن مواجهة الكروات بتجارة بيع الوقود إلى
القوات الحكومية المسلمة بعد استيراده من كرواتيا! !
ولا يخفي الصرب أن محاولة شق صفوفهم عبر إصدار تصريحات علنية
تنتقد فيها قيادةٌ صربية قيادةً صربية أخرى: تمثل محاولة استصدار وفاة للحلم
الصربي كما أن تقاعس صربيا الكبرى وقيادتها عن دعم صرب كرواتيا ربما ينتقل
بدوره إلى وقف المساعدة عن صرب البوسنة الذين يشكلون أقدر قيادة صربية حالية، وربما كان الوصف الصحيح لها أن تضاف نقطة لحرف الدال لا سيما بعد الجرائم
الأخيرة! .
لقد هاجم سلوبودان ميلوسيفيتش الصرب الكروات لقصفهم زغرب خلال
حرب سلوفينيا الغربية، وكان هذا دليلاً كافياً على خطورة حالة الوحدة الصربية،
ثم ما لبث أن ذاع نبأ المحادثات الصربية الأمريكية لرفع الحظر عن بلجراد مقابل
اعتراف شكلي بجمهورية البوسنة والهرسك (دون الاعتراف بحكومتها) ، وهذا
الاعتراف يوازي جريمة الخيانة العظمى من وجهة نظر جزاري صرب البوسنة ...
ما العمل إذن ... ؟
ما يجري بين واشنطن وبلجراد من محادثات رفيعة المستوى يمكن أن يلغى
من خلال القذائف على الأرض، صحيح أن ميلوسيفيتش قد تراجع عن إتمام
الصفقة، إلا أن صرب البوسنة رأوا فيها تخلياً عنهم، كما يقول مايكل إليوث ومع
بروز خطر الانشقاق الصربي: كان هناك حديث على مستوى عالٍ يرعاه البطرس
الحاقد لإعادة تحديد دور الأمم المتحدة في البوسنة، وما يعنيه الأمين الخائن لأمانته: هو قصر مهام الأمم المتحدة بحيث يمارس القناص الصربي هوايته المعتادة في
حصد أرواح المسلمين، وهذا الانسحاب المقرر للأمم المتحدة في هذا الوقت يعني
أن معظم الجيوب المحمية حسب قرارات الأمم المتحدة ستكون مكشوفة لمجرمي
وطغاة الصرب، وهنا أراد الصرب أن يبادروا إلى احتلال هذه المواقع التي
تحرسها الأمم المتحدة قبل انسحاب قواتها.
لقد بدأ الصرب في تحديهم الأرعن: بأن تجاوزوا حدود المنطقة المنزوعة
السلاح، واستولوا على دبابات قوات بطرس غالي، ثم أداروها إلى صدور العزل
في سراييفو فقتلوا أحد عشر بريئاً ... وحينما أصدر مبعوث البطرس التعيس
ياسوتشي أكاشي تصريحاته: بأن هذا أمر لا يحتمل، وطلب من قوات حلف
الأطلسي أن تضرب بعض الأهداف الصربية حول عاصمتهم مدينة بالي، قامت
القوات بقصف مواقع عسكرية مهمة، مما دفع صرب البوسنة إلى الانتقام من قوات
الأمم المتحدة والإغارة على مواقعها وأخذ جنودها رهائن، ضاربين بأبسط معاني
الشرعية الدولية المزعومة عرض الحائط!
الإشارات التي يجب أن نفهمها:
ظلت القوات الصربية تمارس وحشيتها وقسوتها وفظائعها لمدة أربعة أعوام
تجاه المسلمين في البوسنة دون أن تتدخل الأمم المتحدة وأوروبا وأمريكا بهذه
السرعة والغضب، بل إن حلفاء الحرب العالمية كانوا يحتفلون بعيد النصر في
موسكو - الوجه الآخر للنازية المعاصرة - بينما يموت الشعب المسلم أمام أنظار
كلينتون في البوسنة والشيشان.
ولكن حينما يحتجز بضع مئات من البريطانيين والفرنسيين تصبح هناك
مشكلة خطيرة ومعضلة تستدعي أن ترسل فرنسا وبريطانيا من أجلها آلاف الجنود
لحفظ السلام.
هل السلام انتقائي إلى هذه الدرجة؟ ! أم إن مسألة قتل واغتصاب واحتجاز
شعب كامل تحت سمع ونظر العالم المتحضر لا تستحق العناية والشفقة ... ؟
لقد قال العالَم النصراني المنتصر بعد الحرب العالمية الثانية: إن المجازر
الجماعية العرقية والدينية، كمجازر النازية لن تحدث للأبد Never Again..
لكنها تحدث اليوم وكل يوم، ويكون ثمن الدم المسلم الرخيص أو إبادة شعب بأكمله: مقاطعة الرئيس الأمريكي لاستعراض عسكري روسي في موسكو ... وما أرخصه
من ثمن! ..
لقد لخص أحد المعلقين الأمريكيين مأساة البوسنة بأنها حرب الإشارات..
ولابد للمسلمين أن يفهموا هذه الإشارات.. أو بعضها.
من هذه الإشارات: أن الغرب قد أعلنها بلسان المقال والحال: أن الدم المسلم
على التخوم النصرانية الأوروبية لابد أن يحرق لكي تكتمل طقوس التعميد
النصراني المبشر بعالم ونظام دولي جديد، يحدث هذا في البوسنة لأعوام وفي
الشيشان لأشهر، مع التذكير بأن دموع التماسيح لابد أن تذرف مع كل ضحية أو
مجزرة؛ لإثبات فحولة حقوق الإنسان وحرية الصحافة في المجتمعات الغربية.
ومن هذه الإشارات: أن الصرب قد عرفوا تماماً أن الغرب قد أطلق يدهم في
أدغال وتلال البوسنة، وأن التهويشات السابقة ضرورية من أجل استمرار
المسرحية، وأن حلف الأطلسي وقوات الأمم المتحدة وقوات التدخل السريع وقوات
مكافحة الجراد سوف ترفع صوتها في كل مرة مهددة متوعدة ... ثم تنتهي قصة
التهديد والخلاف كما تنتهي أي رواية أو شريط سينمائي هزلي ... يفوز البطل
الأجش وتنتهي القصة نهاية سعيدة! !
ومن الإشارات المهمة: أن وسائل الإعلام الغربية قد جندت كل طاقتها من
أجل مئات من جنود مختطفين، بينما حفل اليوم نفسه بأحداث مهمة وقاسية:
كسقوط سبعين شابّاً مسلماً في (توزلا) ، وإسقاط طائرة وزير خارجية البوسنة
ووفاته مع مساعديه، ومع ذلك أتت هذه الأخبار ضمن تفاصيل الاختطاف للدلالة
عن ارتفاع ثمن المخطوفين وهوان شأن القتلى والمسؤولين المسلمين.
ومن الإشارات المهمة: أن صرب البوسنة قد فهموا الدرس جيداً؛ فالعالم لا
يخاف إلا من القوي، والحضارة الغربية عموماً تقدس القوة وتعبدها حتى لو كان
هذا على حساب المبادئ والمثل المعدة للاستهلاك الإعلامي، وقد فهموا أيضاً أن
المواجهة مع المسلمين تسمح لهم أن يغفر لهم الغرب الأفعال الإجرامية المثيرة
المتمثلة في ربط جنود الأمم المتحدة إلى الأعمدة والأبواب في صورة مذلة ... ولابد
أن القادة الصرب قد أمنوا العقوبة فأساءوا الأدب، ولكم أن تتصوروا دولة أو
عصابة عربية تقوم بخمس ما قام به الصرب، فماذا سيكون رد الفعل الغربي
والدولي..؟ !
من الإشارات كذلك: أن الناطق باسم الأمم المتحدة قد وصف الإرهاب
الصربي والجرائم المتتالية بأنه: عمل أشبه ما يكون بالعمل الإرهابي أما قتل ٧٠
مسلماً في (توزلا) فقد وصف بأنه مأساة عميقة.. إن هذا العمل المخزي والمهين
لكل الأعراف الدولية يوصف بأنه: أشبه ما يكون بالعمل الإرهابي فما حقيقة
الإرهاب يا سدنة الشرعية الدولية؟ ! .
ومن الإشارات أيضاً: النقد الجارح لبطرس الحاقد من قبل المعلقين الغربيين
بعد طرحه مشروع قرار سحب قواته من البوسنة أو تعديل مهامها؛ حتى بعد مهزلة
الخطف وتناثر أشلاء المسلمين في جيوب الأمن الكاذب ... لقد وصفه معلق
بريطاني بأنه: رجل غير معقول في المواقف التي لا تحتمل رأيين ووصفه آخر:
بأنه ربّى في صدور الصرب كل أنواع التعنت والغطرسة بتغاضيه عن جرائمهم
وتعامله اللين معهم بينما لا تزال الصحافة العربية المهاجرة بفكرها ومقراتها تناقش
السؤال الملح والصعب منذ سنوات: هل بطرس غالي يتحامل على المسلمين؟ ! !
لقد أشار الرئيس البوسني إلى أن العالم يحاول أن يغطي على جريمته
الأصلية؛ حينما منع الضحية من مقاومة الجلاد، وحرم المسلمين من امتلاك
السلاح الذي يخولهم أن يدافعوا عن وجودهم أمام الأمة الصربية الحاقدة ... إن دور
الأمم المتحدة قد بدا عارياً، أما حلف الأطلسي فيقدم رجلاً ويؤخر اثنتين، وطالما
أن المسلمين عاجزون حتى عن الاستنكار: فإن المعركة هناك قد انتقلت إلى طور
الحرب الداخلية التي تجري بين أقطاب أوربيين، تجمعهم عقيدة واحدة وثقافة
مشتركة ورؤية عامة تدفعهم إلى الاستعانة بالأجساد المسلمة المستسلمة: وقوداً
للخلاف، ورصيداً للانتقام وأسلوباً لغش الخلق كلما حدث خلاف بين الأشقاء
الحلفاء!
الحرب الدائرة في البوسنة اليوم وهذه التغطية الملتهبة هي حرب أوروبية
داخلية، ووجودنا الهامشي يحتم علينا أن نتعامل معها على هذا الأساس حتى تنتقل
الأمة من خانة الهامش إلى خانة الأصل، ومن موقع المستضعف إلى موقع الفاعل
المدافع عن الإنسانية التي تعاني من الظلم والعسف والموت المجاني.
وحسبنا الله ونعم الوكيل..