ملفات
التغيير القادم
[التغيير.. مطلب أم مذهب؟]
د. سعيد بن ناصر الغامدي
مصطلح «التغيير» من المصطلحات الشائعة والرائجة في كتب الإدارة،
والسلوك، وعلم النفس والسياسة وغيرها، وهو من المصطلحات المثقلة بالدلالات
المتنوعة والمختلفة بل والمتناقضة أحياناً، وذلك لأنه من جنس الألفاظ اللغوية ذات
الدلالات المتعددة المستويات والأبعاد، وليس من جنس اللغة الأيقونية الحرفية
واحدية المستوى والبعد.
ويصبح مصطلح التغيير هذا أكثر تشعباً عند تعلقه بالظواهر الإنسانية الفكرية
والعملية التطبيقية، وتزداد تشعباته ومخاطره عند تعلقه بالإنسان بوصفه مخلوقاً
مربوباً، متعدد الأبعاد، متجاوزاً النظام الطبيعي المادي المجرد؛ لأنه بهذا الوصف
المتفرد ينطوي على مقومات لا يمكن ردها إلى النظام المادي البحت.
وإن من أخطر ما في القضايا الراهنة المتداولة ثقافياً وإعلامياً عدم تمحيص
المصطلحات ودلالاتها ومضامينها وظلالها وأبعادها. وخاصة تلك المصطلحات
المحمَّلة بجملة من الأفكار والرؤى والأهداف والغايات؛ المتشابهة أحياناً والمتناقضة
أحياناً أخرى، والمتسعة اتساعاً مشوّشاً، والمركبة تركيباً «مربكاً» ؛ كما هو
حال مصطلح «التغيير» الذي تحول إلى قضية تبدأ يسيرة بوصفها مطلباً من
مطالب النهوض والتقدم والإصلاح، إلى أن تستحيل بعد طول إدمانها عند البعض
إلى مذهب معتنق وأيديولوجيا متبعة، ومن المفارقات الغريبة أن تجد من
(التغييريين) مَنْ يثبت على حال واحد سلوكياً وفكرياً وأخلاقياً، ويلتزم مسلكاً معيناً
لا يبارحه، فلا يطبق مذهب التغيير الذي يطالب به الآخرين على نفسه!!
والإنسان بفطرته يبحث عن اليقين، أو عن قدر معقول منه إذا عجز عن
الوصول إلى الحقيقة الخالصة، وأنّى له الوصول إلى الحقيقة النهائية؟ ولكنه
يسعى إلى اليقين مبتعداً عن شراك العدم المطلق، أو أي درجة من درجات العدمية.
ومصطلح التغيير بسبب الملابسات المذكورة آنفاً استُعمل جسراً ووسيلة
لتمرير أفكار معينة ورؤى محددة، وتحيزات فكرية وعملية معروفة، بل استُعمل
لفرض هذه الأفكار والتحيزات بشكل خفي أو جلي، كما أنه استُعمل بصورة إيجابية،
في بعض الأحيان.
ومن خلال دراسة التاريخ المعاصر؛ نجد أن مصطلح التغيير تواتر في
الخطابات السياسية والثقافية منذ غزو نابليون لمصر، وإن بدأ ضعيفاً خافتاً لكنه ما
لبث أن نما وتزايد ومُددت أطرافه وحواشيه في كل الاتجاهات، ويزداد حضوره
كلما ألمت بالأمة ملمة، أو نزلت بها نازلة، وها هو اليوم يُطرح بالفم الأمريكي
الملآن تحت ظلال البوارج والطائرات والدبابات، وعبر الآلة الإعلامية والسياسية
الأمريكية الهادرة، وعبر وكلاء توزيع لهم قوة ونفوذ نوعي.
وبالطبع؛ كانت الاستجابة لهذا التحدي مختلفة باختلاف العقائد والأفكار
والرؤى والانتماءات والأفهام والعلوم، وكل فرد أو طائفة يأخذ قضية التغيير
مستدعياً معها التاريخ والتراث والهوية للقبول أو للانتقاء أو للرفض؛ بحسب
المشرب والمعتقد الذي ينطوي عليه، والأفكار التي يؤمن بها.
ولعله من الممكن في هذه العجالة تصنيف مواقف الناس إزاء قضية التغيير
التي تروج لها أمريكا بعد أحداث ١١/٩/٢٠٠١م إلى أربعة مواقف:
- الموقف الأول: موقف المتقبل لقضية التغيير بالطريقة الأمريكية (الغربية)
(الليبرالية) :
وهو الموقف العلماني بشقَّيه (العام الشمولي) أو (الجزئي الانتقالي) ، ومن
جميع التيارات العلمانية الفكرية منها والسياسية.
فهؤلاء وجدوا في الضغط الأمريكي فرصة كبيرة لا بد من اهتبالها لإيجاد
التغيير، وفق المنظومة المعيارية والرؤية الفكرية والخصائص النفسية الغربية
الحديثة، والتي تفترض وجود عقل مستقل تماماً، وإنسان حر هو إله نفسه، يضع
لها النظم والقوانين المناسبة له، والمحقِّقة لحريته المنفكة من جميع الصلات الدينية
والأخروية، سواء على مستوى النظم والعلاقات عند من يوصفون بالاعتدال من
العلمانيين، أو على جميع المستويات عند غلاة العلمانيين، وأصحاب هذا الاتجاه
يرون في الإنسان بوضعه وتركيبه المادي المرجعية النهائية الأولى والأخيرة. ومن
ثم من حقه وحده أن يرسم صورة (التغيير) الذي يريد؛ وفق عقد اجتماعي معين
هو في حد ذاته مرجعية نهائية مستقلة عن الدين والوحي.
ولعل من أهم تبديات هذه النزعة الإصرار على قضية (الصيرورة الدائمة) ،
والتي تعني أن الحياة والأحياء والنظم والأخلاق في تغير مستمر، وفكرة
الصيرورة هذه فكرة مرجعية ثابتة لدى التيار العلماني والحداثي، تظهر بشكل
واضح في بعض الكتابات الأدبية والنقدية والفكرية المتطرفة، ولكنها كامنة بشكل
دائم في معظم الأفكار والأطروحات العلمانية. وهي فكرة مبنية أصلاً على فرضية
دارون المسماة بالانتخاب الطبيعي.
والإيمان الحتمي بالصيرورة الدائمة صفة ملازمة للتيار العلماني، وهي تعني
بالضرورة - من ضمن ما تعني - الخروج مما يسمونه (عبء الهوية) ،
والتخلص من (الخصوصية) الثقافية والمكانية والزمانية؛ في محاولة قوية وجادة
لتنميط الواقع المحلي، وجعل مكوناته الثقافية والعلمية والعملية مكونات تشبه قطع
الغيار، حيث تتصف قطع الغيار أنها لا هوية لها، ولذلك يمكن بكل سهولة ويسر
إحلال قطعة غيار مكان أخرى، في الواقع الثقافي والأخلاقي والاجتماعي.
وينطلق فلاسفة هذا التيار من خلال محاولة تفسير العالم كله بتفسير مادي
موحّد رغم دعوى التنوع، ويجعل لذلك إطاراً أصولياً كامناً، لديه القدرة على
اختزال الإنسان ومناشطه وأعماله وطموحاته ونهضته في (الذرائعية) المصلحية،
والنسبية المطلقة للأخلاق، والحتمية المطلقة للصيرورة.
وبالتالي؛ فقضية التغيير سوف تكون وفق هذا النموذج ليست مجرد مطلب،
بل أصبحت (مذهباً) ينطوي على استيراد جاهز يُصبغ بصبغة محلية أو أقليمية
أو عربية؛ في عملية ممنهجة مكرسة ينتهي وصفها الإجمالي ويتلخص في أنها:
استعارة غريبة يسعى وكلاء الغرب إلى استنباتها في الواقع الإقليمي والمحلي بأي
شكل من الأشكال؛ طمعاً منهم في تحقيق الفردوس (التكنوقراطي) أو النعيم
(الليبرالي) ، أو جنة الخلد (الديمقراطية) .. ونحو ذلك مما يتم التعبير عنه في
الفلسفات والكنايات والتحليلات العلمانية بشكل أو بآخر.
- الموقف الثاني: موقف المتقبل لقضية التغيير، بل والمعتنق لمذهب (التغيير)
مع شيء من التحفظ:
وهو موقف العصرانيين من المسلمين، والذين يؤمنون بالإسلام ولكن بطريقة
عصرانية تأتي تحت مسميات وأوصاف مختلفة؛ (العقلانية الإسلامية) ، (المسلم
المعاصر) ، (الوسطية العصرانية) ، (المحايد العصراني) إلى آخر ما هنالك.
وإن صحت استعارة مصطلحات اليمين واليسار؛ فيمكن أن يعد هؤلاء من
يسار الاتجاه الإسلامي، مع التحفظ على بعض دلالات هذا التصنيف.
وهم على درجات مختلفة؛ فبعضهم يعيش على تخوم الأفكار العلمانية، فهو
متأثر بها بحكم (عدوى المجاورة) ، وبعضهم يبتعد موطنه العصراني عن حدود
العلمانية قليلاً أو كثيراً.
ومن سمات هؤلاء (السيولة العامة) في مقابل ما يسمونه (الصلابة) التي
يُظهرون التذمر منها، ويوجهون إليها سهام نقدهم، وهم يعيشون مرحلة تحولات
مربكة، فلديهم الانتماء للأمة ودينها وتاريخها على الجملة، فهم من هذه الجهة
متصلون بها، ولديهم انفصال عن بعض مقومات الأمة، ونفور عما يسمونه
الأصولية الحرفية، أو النصية، والتفسيرات التراثية للوحي، وقوانين النظر
والاستدلال، واليقينية، والأبوية، والنقل، والمبدأ الواحد، والفرقة الناجية،
والولاء والبراء.
ولديهم مشكلة كبيرة في (المعيارية) من أين تُستمد؟ أمن النص المعصوم،
أم من العقل، أم من الأسلاف أم من المادة؟
كما أن جملة من أصحاب هذا الموقف تأثر بحكم المخالطة الفكرية والثقافية
بفكرة (الصيرورة الدائمة) التي هي أصل من أصول التفكير العلماني والحداثي.
وبالجملة؛ فإن كثيراً من أصحاب هذا الاتجاه يتركون حيزاً واسعاً للقيم
الإنسانية والأخلاقية المطلقة، بل للقيم الدينية ما دامت لا ترى واحدية المنهج، أو
تعتقد الصفاء، أو نجاة طائفة معينة، ولديهم قابلية شديدة لدعوة التغيير التي يرون
فيها جسراً يقودهم إلى الضفة الأخرى، والتي يحلمون أن تكون فيها أدوات
التحضر والنهضة.
هناك قاسم مشترك بين هؤلاء والصنف الذي قبله، وهو شغفهم بالتغيير،
وانفتاحهم نحوه، واستهدافهم جميعاً «المنهج» ، غير أن الصنف الأول يستهدف
(المنهج العام) الإسلام بعمومه وشموله وكماله، والصنف الثاني يستهدف (المنهج
الخاص) منهج أهل السنة والجماعة على وجه الخصوص.
كما أن هناك فارقاً جوهرياً بين الموقفين، وهو أن الأول منهما شمولي كلي
على الرغم من أن أصحابه يعلنون بصورة دائمة أنهم لا يؤمنون بأي مطلقات أو
كليات. أما الثاني (العصراني) فهو جزئي بالنسبة إلى موقفه من الإسلام، وكلي
في رغبة تغيير مفهومات منهج أهل السنة والجماعة وتطبيقاته.
ومن هنا يمكن معرفة موقف كلا الطائفتين من التغيير مصطلحاً وشعاراً
ومنهج عمل، مع الإشارة إلى أن الأفكار والأشخاص والمواقف والفئات لا يمكن
حصرها في حدية تصنيفية قاطعة، فهناك نتوءات وخروقات واستثناءات.
- الموقف الثالث: موقف الرافض لقضية التغيير أو المتحفظ إزاءها بشدة خوفاً
من تبعاته وآثاره، وحذراً من مخاطره وسلبياته:
وهو موقف فئة صادقة الانتماء للدين والأمة، حريصة على عزتها ومكانتها،
ولكنها بسبب الثبات المطلق تتشبث بالقديم حتى لمجرد قدمه أحياناً، وتنفر من
الجديد وخاصة في عالم الأفكار والرؤى، حتى لمجرد جدته أحياناً.
وتميل إلى التفسير الحرفي الظاهري للنصوص التي هي في حقيقتها حمَّالة
أوجه.
كما أن لديها كماً من الحذر الشديد مشفوعاً بالرفض أحياناً أمام كل وافد
وغريب، إضافة إلى انحصار المدلولات اللغوية والمعنوية للأمور الحادثة لديهم بين
قطبي الخير والشر والصحة والفساد. بحثاً عن يقين مطلق أو حكم جاهز، وهذا ما
يقتضي انحسار مساحة النسبية، وتقلص ميدان الأمور والقضايا ذات الطبيعة
التركيبية، وهذا ما سيقود بدوره إلى وضع قواعد عامة حاسمة للقبول والرفض؛
حتى في الأمور التي تحتاج إلى تفصيل وتفسير وقسمة.
- الموقف الرابع: موقف المتقبل لقضية التغيير بشروط وضوابط شرعية وعقلية
ومصلحية:
وهو موقف جمهور العلماء والدعاة، وخاصة علماء الصحوة، ورجالات
الثقافة والفكر والأدب وغيرهم من أصحاب التخصصات التي يستند أصحابها على
مبدأ الخصوصية العقدية والعبادية والفكرية والثقافية والمنهجية والتطبيقية العملية،
وهو المبدأ القائم على قاعدة: (الإسلام عقيدة وعبادة، وأعمال وأخلاق، وشعيرة
وشريعة، ودين ودولة، ومصحف وسيف، وأصالة وحضارة) .
وهم بحكم علمهم الشرعي الأصيل وثقافتهم العصرية المتسعة لديهم رؤية في
قضايا التغيير والتطوير والتحديث والمعاصرة تعتمد على مبدأ: (أخذ مقتضيات
العصر، ونبذ أهوائه وأمراضه) .
ولعل من الممكن في هذه العجالة ذكر أهم العناصر الرئيسة المستشفة من
أقوالهم وتصريحاتهم ومقالاتهم في قضية التغيير كما يلي:
١- التغيير بمفهومه القرآني يبدأ من الداخل: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] (الرعد: ١١) ، تغيير المعتقدات والأفكار الفاسدة التي تؤدي
إلى دين فاسد، أو دنيا فاجرة؛ بمعتقدات صحيحة قويمة سليمة، وتغيير المشاعر
والإرادات السلبية، وإحلال أخرى إيجابية مكانها، وتغيير المسالك والأعمال
الخاطئة (دينياً أو دنيوياً) ، وإيجاد البديل الصالح.
٢- الدعوة إلى التغيير مطلوبة معقولة وذات مصلحة إذا صدرت من صادقي
الانتماء للأمة، ولكنها ستكون متهمة ومشكوك فيها إذا جاءت متناغمة ومتعاطفة مع
حملات الأعداء ووكلائهم.
٣- التغيير عملية إصلاحية كبرى، ومع ذلك يجب ألا يتحول التغيير إلى
مذهب معتنق وعقيدة متبعة؛ لأن ذلك سيؤدي إلى التغييرات المطردة نوعاً وكماً،
في كل شيء، وهذا يعني العدمية وعدم الثبات، وإبطال القواعد والأصول
والكليات والثوابت، وهذا ما يسعى إليه الأعداء والمتأثرون بهم، أو العاملون
لصالحهم، فهناك فرق بين كون التغيير مطلباً يُستدعى عند الحاجة إليه؛ لتحقيق
مصلحة أو دفع مفسدة، وكونه مذهباً يستعمل في كل آن، ويستدعى في كل حين
ولكل قضية.
٤- إن دعوات التغيير المصوبة نحو القضايا الثقافية والمناهج التعليمية
والدينية والمسائل الشرعية؛ أسهل تناولاً وأخف تبعة، فهي الجدار القصير الذي
يمكن لكل أحد أن يتسلقه، والملاحظ أن دعاة التغيير لا يذكرون شيئاً عن الأمور
الأكثر سخونة والأشد عمقاً، والأقوى تأثيراً، فمناهج التعليم تخرج الإنسان الصالح
والمؤمن التقي، والفاسد الشقي، كل حسب فهمه ومقدار أخذه وقناعته، ولكن
المظالم العامة والانتهاكات للحقوق، والطبقية المناطقية، والعنصرية القبلية،
والأسرية والفئوية، والرشوة والفساد، والواسطة وإضاعة الحقوق والمماطلة
والاحتكار، والطبقية المالية المتباينة، والربا وأشباهها لا يذكرها دعاة التغيير؛ مع
أنها هي التي تدمر البلاد وتفسد العباد، وتوجد البغض والشنآن بين الراعي
والرعية، وبين الرعية نفسها، وفي ذلك نصوص صريحة من كلام ربنا تعالى،
وكلام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومن تجارب الأمم والشعوب والدول.
في حين أن المناهج (المستهدفة بالتغيير في بعض دول الخليج مثلاً) ، وهي
مناهج في جملتها مستندة إلى الإسلام عقيدة وشريعة ونظام حياة؛ تعد من الضمانات
الكبرى للاتحاد والائتلاف.
٥- إن كل صاحب رأي ثاقب وعلم واسع وإطلاع جيد على نصوص الكتاب
والسنة، والأخبار والحوادث التاريخية؛ يجد أن كل غاز يتخذ ما يشاء من ذرائع
للاحتلال والعدوان، فها هو العراق لم يكن لديه أسلحة دمار شامل، وها هي سوريا
لا توجد فيها مناهج تعليم ترتكز على قضايا الكفر والإيمان، وعقيدة الولاء والبراء
التي يسميها بعض الجاهلين الانفصال عن الآخر. وها هي إندونيسيا لا يوجد فيها
شيء من هذا، وها هو المغرب كذلك. بل كل هذه البلدان غيرت وجهة الثقافة
والتعليم من سيمائه الإسلامية ومعاقده الاعتقادية؛ ليكون أشبه بالتعليم الغربي،
وأخرجت المرأة من عرشها المصون، وحصنها المنيع ومكانتها الراقية؛ لتتشبه
بالغربية في العمل والاختلاط والسفر والسهر والرياضة واللعب، ومع ذلك احتُلت
العراق، وسوريا تحت مطرقة التهديد، وفصلت تيمور عن إندونيسيا، والصحراء
المغربية ما زالت شوكة في حلق أهل المغرب؛ إضافة إلى سبتة ومليلية.
٦- التغيير الثقافي والفكري بالطريقة الأمريكية يستهدف إيجاد «غلام أحمد
ميرزا القادياني» ، ومفتي الهند في عهد الاستعمار «إسماعيل بن الوجيه المراد
أبادي» المشهور باللندني، نسبة إلى لندن التي عاش فيها وتزوج فيها، وكان يقال
له لماذا لا تحج فيقول: «أنا لا أعتقد في الجدران» ، فجعلوه مفتياً بدل عالم
السنة والحديث الشيخ «إسماعيل بن عبد الغني الدهلوي» . وإيجاد أبي مازن
محمود عباس ميرزا البهائي، والذي رضيت عنه كل القوى اليهودية والأمريكية
والبريطانية ليكون المسؤول الأول في فلسطين هو أحد الأدلة الصارخة على نوعية
التغيير.
ويمكن النظر بعين البصيرة إلى موقف أمريكا من جامعة الإيمان في صنعاء،
حيث الحرب الموجهة ضدها والتأليب المستمر، سواء من أمريكا مباشرة أو من
خلال وكلائها في اليمن، ثم التأمل في الصور المعاكسة في الموقف من جامعة
الأحقاف، ودار المصطفى في تريم، والتي تدرس عدداً كبيراً من الطلاب يفوق
عدد طلاب جامعة الإيمان؛ فلماذا السكوت عن هذه، بل والتأييد لها والدعم،
والمحاربة لتلك، والتهديد، وتسفير الطلاب، وإلغاء المنح؟!
إنها الخطة القديمة الحديثة: كل ما يخدر الأمة بحفلات وأعياد، وغناء
ورقص، وينقض معاني النخوة فيها، ويجمد دماء الحمية الإيمانية في عروقها،
ويمرغها في أتربة المقابر وعتبات الأولياء، ويعلقها في السبح والعمائم والخرق
والتمائم، فهو مطلوب مرغوب محبوب؛ لأنه معتدل وعصري وسلمي ومتحضر
وعولمي ومفكر وعميق ومنفتح ومتفاهم؛ لأنه باختصار غير خطير على الأمريكان
والأنجليز!
أما من يقول لي حريتي وأصولي ومعتقداتي وشريعتي ونظام حياتي، ولي
جذوري الممتدة إلى عصر النبوة، ولي نصوص الوحي المعصوم، ومنهجي الاتباع
لا الابتداع، وطريقتي الدين بشموله وكماله وتمامه؛ فهو لا شك متطرف وأصولي،
ومتعصب وخطر على السلم العالمي!
٧- التغيير بالصيغة الأمريكية والعلمانية عملية شاملة بل (مذهب) متبع،
ودعاة التغيير المتناغمون مع الطرح الأمريكي معروفون، ليس فيهم من يوثق بعلمه
الشرعي، ولا حميته الإيمانية، ولا الفهم الجيد ولا العلم الصحيح ولا الإدراك
المتكامل، بل فيهم من أهل الأهواء والأمراض الفكرية ما يستوجب الحَجْر عليه
حتى الشفاء من دائه، وإن شئت فراجع مقال «سليمان النقيدان» عن (وهم
الخصوصية الثقافية والمكانية) ، ومحاضرة «تركي الحمد» عن (خصوصيتنا
والعولمة) ، ونحو ذلك من أقوال ومواقف صادرة من طائفة مغموصة بالأهواء؛
مغموسة بالإشكالات الفكرية والعملية، منتسبة إلى البلدان الإسلامية اسماً ورسماً،
وللغرب حقيقة ومضموناً.
٨- عملية التغيير التي تدعو إليها شرائح الاستعارة الفكرية، عملية خطيرة
ذات أبعاد شمولية متكاملة - وفق التصورات الأمريكية وليس وفق شروط محلية أو
وطنية ولا دينية - هذه العملية قد تتم - إلا أن يشاء الله - ربما بصورة متدرجة،
وسينال الوضع الديني والتعليمي والخيري والمرأة أكبر النصيب في البداية، ثم إن
تواصلت - في ظل سكوت أهل الحق والغيرة على الأمة ومصالحها ومقوماتها -
فستصل إلى التخوم الخطيرة، المستهدفة أصلاً، وسينتج عن ذلك من الصراع
الاجتماعي والثقافي وربما المادي ما لا يعلم مداه إلا الله، فهذه طبيعة التغييرات
العصرانية والعلمانية التي تمت في بلدان عديدة من بلاد المسلمين، وما زال الجميع
يكتوي بنيرانها إلى اليوم، بل أصبح من يدعو للتدين ولو بصيغه الوعظية، في
مقام المتهم والممنوع، ولا تخفى على الجميع قصة عمرو خالد في مصر، وحجاب
مروة في تركيا، والمداومة على الصلاة في المسجد في تونس، وهي أمثلة معدودة
من ديوان المأساة العلماني المليء بالمآسي والقهر والظلم والعدوان.
وبناءً على هذا يرى أهل العلم والإيمان أن الدخول في هذا المعترك الذي أقل
ما يقال فيه أنه ملتبس وغامض ينطوي على أمور مشبوهة في منطلقاتها ومآلاتها،
وهم يعارضون دعوات التغيير الأمريكي ومعهم حجج قوية، وشواهد صارخة،
وبراهين واضحة، ويمكن للمنصف حتى وإن خالفهم أن يتفهم موقفهم هذا وأن
يقدره، فهؤلاء الدعاة والعلماء والمثقفون المسلمون أصدق مواقف، وأكثر انتماءً
للأمة وفيهم علماء الشريعة، وأهل الفتوى، وأرباب الدعوة وأهل الصلاح، وهم
الأقدر على تقدير مصلحة الأمة من أولئك الذين قام بهم سوق المزايدة، وراجت بهم
بضاعة المناكدة، وغرقوا في الوهم واللبس والوهن والخور.
٩- ومع ذلك فهذا الصنف لا يعارض التغيير الإيجابي النافع؛ لأنهم يرون
أنه لا يعارض (التغيير) الإصلاحي إلا جامد، ولا يقاومه إلا يابس أو يائس، أو
مستفيد من الأوضاع الفاسدة، أو خائف من نتائج الإصلاح الحقيقي، والمراد هنا
الإصلاح القائم على شروط الأمة وخصائصها ومقوماتها، والمتجه نحو مصالحها
الحقيقية حالاً ومآلاً، وليس (مذهب التغيير) الذي يملى علينا ليتم وفق المصلحة
الأمريكية، كما يمارسه الحاقدون على الثقافة الإسلامية وأدبياتها المسلكية
المعبرة عنها؛ كالأنشطة الإسلامية في المدارس، والتسجيلات الإسلامية، والمنابر
الدعوية، والمدرسين الدعاة، والأنشطة غير المنهجية في المدارس. والكارهون
لحجاب المرأة وعفتها وصيانتها ومكانتها.
١٠- أختم هنا بذكر نموذج التغيير التي تطلبه أمريكا وترغب فيه، بل وربما
تلزم به، وذلك ما جاء في تقرير لجنة أمريكية درست مناهج المدارس السعودية.
وفحصت ٩٣ كتاباً، وكتبت عنه تقريراً مفصلاً للإدارة الأمريكية، ونشرت مجلة
المجلة مقتطفات منه في ٥/١/١٤٢٤هـ.
ومن هذه الفقرات:
(أن التعليم السعودي يقوم على الإسلام، والدراسات الإسلامية تشكل جزءاً
رئيساً في هذه المقررات حتى الكتب العلمية تشير إلى الإسلام) .
(السعوديون يقولون إن الإسلام هو أساس الدولة والمجتمع والقضاء والتعليم
والحياة اليومية) .
(يصفون المسيحيين واليهود بأنهم كفار وأنهم أعداء الإسلام) .
وينتقد التقرير بعض نصوص المناهج منها:
(الله أرسل التوراة إلى موسى - عليه السلام -، والمسيح ابن مريم هو
عيسى - عليه السلام -، ويُعرف بأمه؛ لأن الله خلقه ولا أب له) .
(التلميذ حاتم يتمنى أن يعطيه الله الشجاعة والإيمان ليكون مجاهداً في سبيل
الله؛ مثل سعد بن أبي وقاص) .
(المناهج المدرسية السعودية لا تعترف بأي حق لليهود في فلسطين وأرض
إسرائيل) .
(المناهج المدرسية السعودية تقدم قضية فلسطين بأنها احتلها اليهود
الأجانب) .
(ترفض المناهج إلغاء الجهاد كما يدعو لذلك بعض المسلمين مثل الطريقة
القادرية) .
(المناهج التعليمية تعارض الديمقراطية الغربية) .
(في المناهج السعودية تركيز على فصل النساء عن الرجال وحجاب
المرأة) ، (هناك آيات قرآنية كثيرة عن حجاب المرأة وأهمية الالتزام به، وما
تقوم به بعض النساء من كشف أجسامهن لرجال غرباء هو ذنب كبير) .
(حديث نبوي أثار كثيراً من النقاش عن اليهود، ويقول: لن يأتي يوم
القيامة حتى يقاتل المسلمون اليهود ... حتى يختفي وراء شجرة أو حجر) .
هذه بعض معالم التغيير (الأمريكي) المنهجي والشرعي والتعليمي
والاجتماعي الذي يصب لصالح اليهود أولاً وأخيراً، ولن يكون هو نهاية المطالب،
ولا غاية الرضا عند هؤلاء وأولئك، فحتى لو أُعطوا ما يطلبون فلن يرضوا ولن
يقبلوا؛ لأنه لا حد للجشع اليهودي ولا سقف للمطالب الصليبية، وصدق العليم
الخبير: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ
هُوَ الهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ
نَصِيرٍ] (البقرة: ١٢٠) ، ولكن مما يؤسف له أن عدداً من النخب الثقافية
والإدارية لديها الاستعداد خوفاً أو طمعاً لقبول خطة التغيير كاملة أو مجزأة، وهناك
من يطالب بالإسراع في ذلك تحت حجة أن لنا في اليابان وألمانيا بعد الحرب
العالمية قدوة، وهؤلاء هم التفسير الواقعي لقول الله تعالى: [فَتَرَى الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ
بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ] (المائدة:
٥٢) .
ومع ذلك فلن تزيد هذه المطالب الأمة إلا قوة في دينها، ومعرفة أكثر بعدوِّها،
ويقيناً بوعد الله لها، [لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ
يُنصَرُونَ] (آل عمران: ١١١) .
[لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ
الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ] (آل
عمران: ١٨٦) .