[حماس بين المطرقة والسندان]
أحمد فهمي
بدأت حماس في مواجهة التحديات حتى قبل الإعلان عن فوزها في الانتخابات البرلمانية؛ فالعِصيّ كانت جاهزة منذ فترة طويلة، وكان الخلاف فقط في توقيت وضعها في دواليب الحركة، فكانت حكومة شارون - أولمرت تريد وَأْدَ المشروع من بدايته والقضاء على آمال حماس في مشاركة سياسية فعالة، بينما كان البيت الأبيض يفضّل إعادة انتشار العراقيل بعد فوز حماس، رغبة منه في ضرب أحد العصفورين بالحجر ذاته: إما أن يتم ترويض حماس، وإما أن يتم إبعادها وسط أجواء إجماع دولي على محاربة الإرهاب، وهو ما يحدث حالياً بالفعل..
وتتنوع العقبات والتحديات التي تنتشر في طريق حماس السياسي في أربعة أنماط بعضها داخلي وبعضها إقليمي وبعضها دولي، وهو ما يجعل الحركة بامتياز في وضعية المطرقة والسّندان..
\ أولاً: تحدّيات شرعية ومنهجية:
تواجه الحركة أوضاعاً غير مسبوقة، من حيث التعامل مع آليات المقاومة، والتفاوض مع العدو، والتحالف مع أحزاب وشخصيات علمانية والتعامل مع دول معادية حسب المفهوم العقدي والشرعي، وينبغي أن تحرص الحركة على أن تنطلق في تحركاتها السياسية من خلال مواءمة شرعية واجتهادات مطردة يتولاها علماء ثقات لا يشترط أن يكونوا من فلسطين؛ نظراً لأن القضية لم تعد محصورة بدولة واحدة.
وفي المقابل تواجه الحركة نوعاً آخر من الاجتهادات أو الإطلاقات التي تدعو إلى ما يخالف الشرع ولكن بصيغة شرعية!!
ومن الأمثلة على ذلك: ما كتبه الدكتور نادر فرجاني ـ المشرف على تقرير التنمية العربية (صحيفة الحياة اللندنية ٥/٢/ ٢٠٠٦م) ـ حيث يقول: «ومن المفيد هنا تذكّر أحد أهمّ استخلاصات تقرير «التنمية الإنسانية العربية» الثالث عن الحرية والحكم، والاستخلاص هو أنه لا يقوم تعارض جوهري بين إقامة مجتمع الحرية والحكم الصالح والمقاصد الكلية للشريعة الإسلامية، إلا أن إقامة مثل هذا المجتمع في الوطن العربي يتطلب إفساح مجال للاجتهاد الفقهي لوضع قواعد الاتساق بين الحرية بمفهومها الشامل، وبين المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية، تجاوزاً لكثير من التأويل الفقهي الذي استشرى في عصور الانحطاط مكرّساً القهر والاستبداد.. ويتعين في تقديري، إضافة واجب الريادة في هذا المطلب على جدول أعمال ومسؤوليات حماس والإخوان» .
أمر آخر يتعلق بالتحديات المنهجية، وهو تحديد هوية ومهمة حماس في المرحلة الحالية: هل هي حركة جهادية؟ أم حزب سياسي؟ هل تتصرف انطلاقاً من وضعية الاحتلال، فيلزمها التقيد بذلك حسب الضوابط الشرعية، وأيضاًً يسعها ما لا يسع غيرها من الحركات التي لا تعاني احتلالاً؟ أم أنها تعتبر نفسها تجربة سياسية مشابهة لغيرها في الدول الإسلامية؟
ومما يدعو لطرح هذه الإشكالية ما صرح به الدكتور موسى أبو مرزوق نائب رئيس المكتب السياسي للحركة، في حوار مع موقع إسلام أون لاين (٣١/ ١/ ٢٠٠٦م) حيث قال: «أعتقد أن أي شيء متعلق بالمشروع الإسلامي الحضاري، أو الإسلام السياسي بشكل مجمل وكيفية تنزيله على الواقع، أنا أعتقد أن هذه مهمات عند الإسلاميين في دول مستقلة، أكثر من المهمات عند (حركة تحرر) لا زالت تدافع عن نفسها وعن شعبها لتتحرر من الاحتلال» .
وأخيراً فإن الخطاب العام للحركة يتداخل فيه الدعوي والسياسي إلى درجة كبيرة، ورغم أن الضوابط لا تختلف كثيراًً في الحالتين، إلا أن لكل مقام كلاماً، وقد انتقد بعضٌ الحركة في وقوعها في بعض التناقضات، والتي سنشير إلى بعضها في النقطة التالية:
\ ثانياً: تحدّيات ذاتية:
(١) تناقض الموقف مع «أوسلو» :
اتخذت حركة حماس موقفاً رافضاً للانتخابات التشريعية الأولى التي جرت عام ١٩٩٦م، مستندة في هذا الرفض على الثوابت الإسلامية التي ترفض الاعتراف بالكيان الصهيوني، وترفض اتفاق «أوسلو» الذي انبثق عنه المجلس التشريعي باعتباره يقر الاحتلال وجرائمه، كما رفضت الحركة مبدأ إقامة الانتخابات في ظل الاحتلال، وكثُرت الفتاوى في رفض هذه الانتخابات، وبذل العلماء والخطباء جهداً من خلال المساجد لشرح هذا الموقف الرافض ولإقناع الجماهير المسلمة بذلك.
ولكن تغّيَر الحال بمعدل (١٨٠) درجة في الانتخابات الثانية، رغم أن المجلس التشريعي والسلطة لا يزالان قائمين وفق اتفاق «أوسلو» ، ولا يزال الاحتلال محاصراً لغزة ومحتلاً للضفة الغربية؛ فما الذي تغير في نظر الحركة، لكي يتغير موقفها؟ علماً بأن بعض المراقبين اتهم الحركة بأنها بالغت في إبراز حجم الانتصار بانسحاب الاحتلال من غزة بغرض تسويغ المشاركة الانتخابية بعد ذلك، كما أن الاحتلال لم يتوقف عن استفزازاته المستمرة.
تجيب الحركة عن هذه التساؤلات: بأن الانتخابات الحالية تجري في ظل الاندحار الصهيوني عن قطاع غزة، وأنها تجري بعيداً عن سقف «أوسلو» الذي ماتت اتفاقياته، وأنها محكومة باتفاق القاهرة الذي يعترف بقوى وفصائل المقاومة، هذا من الناحية السياسية، ومن الناحية الشرعية، فقد نظمت الحركة حملة موسعة قام فيها العلماء والخطباء بشرح هذه القضية على الناس في المساجد.
والمشكلة أن هذه التبريرات لم تكفِ للاقتناع بأن الظروف هي التي تغيرت بينما الحركة لم تتغير، وقد واجهت حماس انتقادات شديدة، حتى من قادة فتح أنفسهم، الذين اتهموا الحركة بأنها تتلاعب في ثوابتها لمنافسة فتح، وفي مقدمة هؤلاء محمد دحلان، كما أن أبا مازن رفض القول بذوبان اتفاقات «أوسلو» ، فقال في لقاء صحفي (١٦/١/ ٢٠٠٦م) : «إن اتفاقات «أوسلو» قائمة، وإن الانتخابات ستجري على أساسها، ولا يمكن لأي حزب الادعاء بأن «أوسلو» قد انتهت، وأنه لا يخوض الانتخابات في ظل هذه الاتفاقيات، بعض الناس يقولون إن اتفاقيات «أوسلو» ماتت، ولكن دعني أقول: أن هذه أحلام وتمنيات بعض الناس، لكن اتفاقيات «أوسلو» قائمة ولم تنته أو تمُت، صحيح أن (الدولة العبرية) عطلتها ولكن ذلك لا يلغيها، إن تخريب «أوسلو» لا يعني أن «أوسلو» قد انتهت وإنما الكل آت على أرضيتها، والمجلس التشريعي أُسِّسَ على أساس بند من بنود «أوسلو» ، ولذلك كل ما يجري إنما يجري على أساس «أوسلو» ، وفيما يتعلق بموضوع اتفاق القاهرة، إن مَنْ يقولون إنهم يخوضون الانتخابات على أساس اتفاق القاهرة، فإن اتفاق القاهرة لا يتحدث عن أي من هذه الأمور، وإنما يتحدث عن الهدنة» .
والمثير ـ هنا ـ أن الدكتور موسى أبو مرزوق نفسه صرح بما يوحي ضمناً باعتراف الحركة أن «أوسلو» لا تزال قائمة.. فقال: «معروف بأن أيَّ قانون أو أي اتفاقيات يعقدها نظام تكون واقعاً على الأرض، هذا الواقع لا يمكن إلا التعامل معه، من أي قوى سياسية قادمة، ومن ثَم فإننا سوف نتعامل مع كل نتائج «أوسلو» التي استمرت على الأرض سنوات عديدة، نحن دخلنا الانتخابات التشريعية وأحد إفرازات «أوسلو» هو المجلس التشريعي نفسه، ولذلك ـ في البداية ـ نحن قاطعنا المجلس التشريعي، والدخول فيه وكان المقصود من ذلك هو شرعية النظام السياسي الذي أفرزته «أوسلو» ، أما الآن فنحن دخلنا بناء على نتائج، نتائج هذه الاتفاقية، والتي انتهى مفعولها إلى حد ما، ولكن ظلت نتائجها، ولذلك نحن نتعامل معها، بكل واقعية، أما بخصوص هذه التعاملات مع هذه الإفرازات لـ «أوسلو» فبلا شك هناك بعض القضايا مضرّة بالشعب الفلسطيني» .
والمشكلة ليست في التناقض في حد ذاته؛ فتغيير المواقف سعياً نحو الأصلح ليس عيباً، كما أن الظروف تتغير، ولكن المشكلة أن هذه التغيرات ينبغي أن يواكبها بل يسبقها تأصيل شرعي موسع، يقدم قناعة كافية للرأي العام بأن الحركة لا تتراجع، والمطلوب ليس تأصيلاً شرعياً يكفي لمواجهة الجماهير، ولكن تأصيلاً يصمد في مواجهة العلماء والمتخصصين.
(٢) هل تنقسم حماس من الداخل؟
تمرّ الحركة بمرحلة جذرية في مسيرتها؛ فالانتقال من جهة المعارضة إلى تسلُّم الحكم ليس بالأمر الهين، ومنذ أكثر من عام والحركة تمر بتطورات متسارعة، وهذه الوضعية تتسبب في حراك داخلي هائل في مختلف الاتجاهات، وهذا الحراك يعني وجود رؤى مختلفة وآراء متعارضة، كما يعني تصعيد شخصيات من الظل إلى العلن، ويعني ـ أيضاًً ـ تلاحماً بين قيادتي الداخل والخارج بصورة غير مسبوقة.
ويجب أن تكون قيادات الحركة مستوعبة ومنتبهة لهذه التطورات الداخلية بدرجة كافية، ولا تشغلها التطورات الخارجية عن ذلك، وقد قدمت حماس فيما مضى نموذجاً إيجابياً على قوة التنظيم والترابط، وينبغي أن تحرص قياداتها على استمرار هذه المزية؛ فهناك أخطار عديدة، مثل: تداخل الأدوار بين قيادة الداخل والخارج، خاصة مع كثرة مشاركة القيادات الداخلية في المفاوضات واللقاءات الخارجية، والخلاف على توزيع المناصب، واختلاف الآراء حول القضايا المستجدة، والتصريحات والبيانات المتناقضة، إلا إن كان ذلك مقصوداً على سبيل المناورة.
ويبقى كذلك بعض العناصر التي تعارض المشاركة في الانتخابات، وهي وإن كانت محدودة، إلا أنه ينبغي العمل على استيعابها، ومنها: أحمد نمر، وهو عضو بارز في حماس جنوب غزة، وقد طرح تساؤلات عن مصير المقاومة وأولوية تحرير فلسطين في برنامج حماس الانتخابي، ليدفعه ذلك كله إلى إصدار فتوى تحرم المشاركة في الانتخابات التشريعية سواء بالترشيح أو الانتخاب (الموجز السياسي للمنتدى الفلسطيني السياسي ٢١/١/ ٢٠٠٦م) .
ومن جهة أخرى، فإن كتائب القسام الجناح العسكري للحركة تحتاج إلى بلورة جديدة لمهامها في المرحلتين الحالية والمقبلة، خاصة مع التزام حماس بالهدنة الحالية وعرضها هدنة طويلة الأمد، فقد يؤدي ذلك إلى تذمّر عناصر الكتائب أو تململهم، خاصة مع استمرار الاستفزاز الصهيوني، ومعلوم أن الأجنحة العسكرية عادة ما تكون السيطرة عليها ليست بالأمر الهين، وتجربة الجناح العسكري للإخوان المسلمين منتصف القرن الماضي ماثلة في الأذهان. ومن ناحية أخرى فإن الحركة تحتاج لجناحها العسكري نشاطاً وفعالية؛ تحسباً لأي تطورات، وما تردد عن احتمال ضمّ عناصره إلى الأجهزة الأمنية ليس بالأمر المناسب إن صح.
ويقدم بعض المختصين الصهاينة ـ رئيس قسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة بن جوريون «يورام ميتال» توقعاً لمستقبل الكتائب يبدو صعب الحدوث قياساً إلى مستوى الانضباط الذي يميز حماس: «عناصر حماس الميليشياوية سوف تصرّ على الاستمرار في الحرب ضد العدو، وستنضم لتنظيم الجهاد الذي يرفض المشاركة في الانتخابات، أو في أي مفاوضات» .
\ ثالثاً: تحدّيات سياسية:
تواجه حماس في مرحلتها الحالية عدة تحديات تندرج ضمن الممارسة السياسية، ومن أبرزها:
(١) التحول المفاجئ:
يتحدث المحللون عما أسموه «البلوغ المفاجئ للسلطة» أو احتكاك النظرية بالواقع ومطابقة القول بالفعل، وتحوّل الحركة النضالية الجهادية ـ أو جزء منها ـ إلى ممارسة العمل السياسي من موقع السلطة، ويعتبر المراقبون أن هذه الوضعية تحتاج إلى فترة انتقالية لاستيعابها، وذلك لتتجنّب الحركة أحد أمرين: الانشقاق الداخلي إذا خرجت عن ثوابتها العقدية السياسية في حال مالت نحو السلام والمفاوضات، أو الفشل في إدارة شؤون السلطة.
وقد يكون من المناسب تأسيس حزب سياسي بهيكلية مستقلة ولكنها تابعة لقيادة الحركة، وتقوم بممارسة العمل السياسي، وهناك تجارب عربية ناجحة للفصل بين الحزب السياسي والحركة الدعوية.
(٢) حساسية التعامل مع الحكومات العربية:
تبقى حماس ـ رغم كل شيء ـ حركة إسلامية، تمثل جماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، والجماعة رغم شعبيتها تحمل إرثاً كبيراً من الحساسية السياسية ـ أو عدم القانونية ـ لدى حكومات عربية ـ مصر على سبيل المثال ـ ورغم ما قد تتلقاه من تأييد فإن فكرة أن أحد أفرع الإخوان المسلمين قدم تجربة سياسية ناجحة تتضمن ممارسة حقيقية للحكم، سوف يكون لها تداعياتها على المنطقة ولا شك، لذا أحسب أن أغلب الحكومات ـ حتى الآن ـ لم تتمكن من تحديد موقفها بوضوح من دعم الحركة، ولذلك لا يزال الغموض يحيط بحجم ومستوى الدعم المصري؛ فالمشكلة معقدة، وكل خطوة سيكون لها آثارها على المدى القريب والبعيد أيضاًً.
(٣) الرجوع لنقطة الصفر:
الذي يصعّب الموقف على حماس أنها بعد تحقيق الإنجازات السياسية الخطيرة في الانتخابات الأخيرة سيكون من العسير عليها أن ترجع لنقطة الصفر، وهو المأزق الذي تواجهه أغلب الحركات النضالية التي تقتحم الميدان السياسي، حيث ألزمها ـ ويلزمها ـ هذا الاقتحام بقائمة من الاستحقاقات، من بينها في حالة حماس: الهدنة، ووقف العمليات، وإمكانية الانضمام لمنظمة التحرير، وحذف هدف تدمير الدولة المحتلة من البرنامج الانتخابي، وإمكانية التفاوض مستقبلاً، وغير ذلك، وهذه الاستحقاقات التي التزمتها حماس تجعل من الصعب عليها العودة مرة أخرى لنقطة الصفر ـ أو الفشل ـ السياسية، لذلك يغلب على ظني أن هذا الوضع الحرج في حد ذاته يمثل عنصر ضغط ذاتي على الحركة، وهو الخوف من الرجوع إلى نقطة الصفر، وحتى لو تجاسرت قيادة الحركة عند ظرف قهري واختارت الرجوع لنقطة الصفر السياسية فإن ذلك لن يتم إلا بتنازلات بمفهوم آخر.
(٤) الضغوط الصهيونية:
تخوف إسرائيل من نشأة حزام إسلامي يحيط بالكيان الصهيوني، ولذلك ستكون الحكومة الجديدة في تل أبيب حريصة على حصار حماس وتفريغ تجربتها السياسية من مضمونها، وستكون وتيرة ذلك مرتبطة بمستوى المرونة الذي تبديه حركة حماس، وتتمثل أهم الضغوط الصهيونية في: مواصلة التحريض الدولي، منع الضرائب المحصلة من الفلسطينيين، وغلق المعابر والمنافذ، وتشديد الحصار، ومنع تحركات قادة الحركة، وتنشيط عمليات الاعتقال والاغتيال، وتحريض عملائها في حركة فتح، إطلاق سراح البرغوثي من أجل لملمة جراح فتح، واستفزاز الأجنحة العسكرية من أجل إحراج حماس وتشجيع الفلتان الأمني عن طريق المخابرات ... إلخ.
(٥) استحقاقات «أوسلو» :
هناك استحقاقات قانونية وسياسية ترتبت على قبول الحركة المشاركةَ في السلطة الفلسطينية، ورغم أن الحركة تحاول التملص منها، إلا أنها تبقى حقيقة واقعة، وخاصة الاتفاقات التي لا يمكن إلغاؤها دون أغلبية الثلثين، وهي تستند في الأساس إلى المجلس الوطني الفلسطيني القديم ومنظمة التحرير التي يُنص على أنها الممثل الشرعي الوحيد ـ بالمفهوم السياسي ـ للشعب الفلسطيني، وحماس مضطرة للتعامل مع هذا الوضع فالمجلس التشريعي لا يغير في الاتفاقيات؛ لأن من وقّعها هو منظمة التحرير، وليس السلطة أو المجلس، وهذا ضغط جديد يدفع حماس للدخول إلى المنظمة والانغماس بصورة أكبر في البوتقة السياسية.
(٦) عمليات المقاومة:
شرعت سلطات الاحتلال في تنفيذ سياسة اغتيالات ضد الفصائل الفلسطينية داخل غزة والضفة، وقد طالت حتى كتابة هذه السطور عناصر من كتائب الأقصى وسرايا القدس، أي: فتح والجهاد، وتهدف الدولة الصهيونية من عملياتها الأخيرة إلى:
ـ الضغط على حماس التي لن تستطيع الرد خاصة في الوقت الحالي نظراً للاستحقاقات الانتخابية.
ـ دقّ (إسفين) بين حماس من ناحية وفتح والجهاد من ناحية أخرى، فأعضاء الحركتين هم الذين يتعرضون للاغتيال في العمليات الأخيرة.
ـ يمكن أن يتزايد الضغط على حماس في حالة تعرض عناصرها للاغتيال.
ـ إضعاف حماس في مواجهة الرأي العام عن طريق تكبيلها عسكرياً، باعتبار أنها ستضطر للالتزام بالهدنة حتى لا تفقد الدعم العربي المحدود.
وقد بدأت عناصر من فتح بالتقاط الخيط من الصهاينة واستوعبوا الرسالة، واستدعوا خطاب الانتفاضة، وأخذوا يتحدثون عن انفراد إسرائيلي بفتح والجهاد، وذلك لإيقاع حماس في مزيد من الحرج والظهور في صورة الضحية على اعتبار أن ذلك له تأثيره في الرأي العام الفلسطيني، وربما يتفاعل هذا السلوك ليؤدي في النهاية إلى تصاعد الانتفاضة من جديد لتضييق المجال على حماس ودفعها إما للمشاركة؛ ومن ثَم التعرض لتدمير مماثل لما حدث مع فتح، وإما للاعتراض وفقد شعبيتها في الشارع الفلسطيني، وإما للسكوت والتعرض للضغوط.
ولذا ينبغي على حماس أن تحدد موقفها مبكراً بوضوح ولا تكتفي ببيانات التأكيد على حق الشعب الفلسطيني في الرد، وخاصة أن تصريحات بعض قيادييها قد لا توحي بالاطمئنان رغم تأكيدها على احترام المقاومة.
يقول الدكتور أبو مرزوق: «لن يُعتقل مجاهدٌ، ولن يُعتقل مقاومٌ، سنطرح أجندة المقاومة بكل مسؤولية مع كل الأطراف، نحن صنعنا المقاومة سويّاً، والمقاومة هي لخدمة شعبنا ولإحقاق حقوقه، ولا يمكن أن تتعارض برامجنا مع المقاومة، دخولنا للمجلس التشريعي وللسلطة هو انتصار لبرنامج المقاومة، وكان أحد أهم أسباب دخولنا للمجلس التشريعي هو برنامجنا للمقاومة، ولكن لا بد أن نعرف أيضاً أنه في المرحلة القادمة لا بد من حديث مطول عن أولويات العمل الوطني، وأولويات عمل المقاومة» .
وينبغي هنا على الحركة أن تستحضر نموذج فتح التي كانت في السلطة وفي الوقت نفسه لها جناحها العسكري (كتائب شهداء الأقصى) وكان عرفات يُتهم بتمويل الكتائب، كما أن تهمة تأسيسها هي إحدى التهم الرئيسة التي اعتقل وحُوكم بسببها مروان البرغوثي، وهذا النموذج لا ريب أنه سيكون مجال مزايدة كبير لفتح في حال تجاوزته حماس.
(٧) الوقت:
تراهن حركة حماس كثيراً على استغلال عنصر الزمن في تهدئة الأمور وامتصاص ردود الفعل، ولذلك تبدي ـ حالياً ـ مستوىً عالياً من المرونة، ولكن ذلك أمر لم يَفُتْ أعداءها، وهم يدركون جيداً تأثير الوقت في نجاح استراتيجية حماس.
يقول المنسق الأمريكي السابق في الشرق الأوسط دينيس روس: «لا يجب أن تُترك حماس هكذا متجنّبة الاختيار ما بين أمرين عسيرين وتأخذ كل الأرباح، فآمال تغيّر حركة حماس بعد امتلاكها زمام الحكم في فلسطين تحت ضغط الأوضاع الجديدة سوف تتبخر في الهواء إذا ما استطاع منظِّروها إثبات أن التغير لن يكون ضرورياً» .
\ رابعاً: تحدّيات تنفيذية:
(١) عقبات فتح:
التنافسية الشديدة التي تحكم طبيعة العلاقة بين حركتي حماس وفتح كان لها دور كبير في تسارع الأحداث بهذه الوتيرة، ولا تزال حركة فتح حتى الآن غير قادرة على استيعاب حقيقة الهزيمة في الانتخابات، أو تبعات تسليم السلطة إلى حماس.
وكشف قيادي بحماس عن أن وفد الحركة يبحث مع الساسة العرب التدخل لدى السلطة الحالية وحركة فتح كي لا تضع المزيد من العراقيل في طريق تجربتها الأولى، كما أن أحد أسباب تأكيد حماس على أهمية مشاركة فتح في الحكومة المقبلة هو امتصاص القدر الأكبر من دوافع إفشال حماس لدى كوادر الحركة، ورغم ذلك يُتوقع حدوث بعض المشكلات في الفترة المقبلة، ومنها:
أـ المماطلة أو رفض تسليم الأجهزة الأمنية:
والتي يتبع عدد منها رئيسَ السلطة، والبقية تتبع الحكومة، وكان أحد أسباب الخلاف الرئيسة بين أبي مازن وعرفات هو القبول بتسليم الأجهزة الأمنية إلى الحكومة، والآن يُتوقع أن تظهر مشكلة عكسية وهي الرغبة في إحالة الأجهزة الأمنية إلى رئيس السلطة، أو تعيين وزير داخلية لا ينتمي للحركة، ولكن ـ عموماً ـ وعد أبو مازن بأن يتم تسليم السلطة بشكل كامل لحماس بعد تشكيل الحكومة، ورغم ذلك يهدد عناصر من فتح بالتمرد على التسليم، وتحاول الحركة أن تهدئ الوضع من خلال طمأنة الجميع بأنه لن يكون هناك مجال للانتقام أو المحاسبة على الماضي. ويقول موسى أبو مرزوق: «لا يمكن أن يكون هناك خمسون ألفاً من قوات الأمن متهمين بالفساد، نحن لن نفتح الملفات التاريخية، ولن نكون أسرى التاريخ، ولو كان هذا التاريخ قريباً، سوف نغلِّب الصفح والتسامح على الانتقام والملاحقة» .
ب ـ تبادل المواقع والمواقف:
يستعد أعضاء فتح حالياً لممارسة كل ما واجهتهم به حماس في فترة اضطلاعهم بالسلطة، من تنفيذ للعمليات الاستشهادية، إلى عدم الالتزام بطلب تسليم الأسلحة، أو ضم الأجنحة العسكرية للأجهزة الأمنية، وغير ذلك، وبغضِّ النظر عن صواب موقف حماس حينذاك، فإن قواعد اللعبة هنا تختلف، وهذا هو أحد الأسباب التي من أجلها يرفض الفتحاويون مشاركة حماس في حكومة وطنية؛ فحماس لم تكن لتشاركهم في حكومتهم رغم أنهم طلبوا ذلك، ولم تكن حماس لتخضع لسلطان فتح مقابل بضع حقائب وزارية، وحسب المنطق نفسه ـ لا حسب الحق والباطل ـ فإن فتح تريد معاملة حماس كمعاملة الأخيرة لها أثناء حكمها، والأمر الوحيد الذي يمكن أن يكسر هذه القاعدة هو (البراجماتية) الشديدة أو الإخلاص للقضية الفلسطينية لدى عناصر من فتح، وقد ألمح القيادي في حماس يونس الأسطل أن عدداً كبيراًً من القيادات بفتح وبالسلطة الحالية أجروا اتصالات سرية مع حماس، ورحبوا بفوزها في الانتخابات، وعرضوا مساعدتهم، وهذا لا يمنع أن المجموعة الصلبة في حركة فتح ترفض التعامل مع حماس ـ قد يتغير موقفهم وفقاً للضغوط العربية ـ وأنهم يريدون أن يَدَعوا حماس تغرق بمفردها حسب توقعاتهم.
ج ـ حرق الأوراق:
فوجئ الرأي العام بإعلان النائب العام الفلسطيني عدة قضايا فساد دفعة واحدة بلغت قيمتها ٧٠٠ مليون دولار، وجاء ذلك في خطوة استباقية من السلطة الحالية في محاولة لحرق ورقة محاربة الفساد على حماس، والفساد كان أحد أسباب النقمة الرئيسة التي خسرت فتح الانتخابات بسببها، كما تعبر هذه الخطوة عن رغبة لدى حركة فتح في تنقية الصفوف أو التخلص من صغار الفاسدين لتحسين الصورة أمام الناخب الفلسطيني، وخاصة أن الأعوام الأربعة للمجلس التشريعي سوف تنقضي سريعاً.
والنصيحة التي تُقدّم لحماس في هذا المجال أن تتعامل مع حركة فتح حسب فئات ثلاث: المخلصين، والمنتفعين، والمنتمين. فالأولى: تسعى جاهدة للتنسيق معها بعيداً عن تنظيم فتح، والثانية: تتعامل معها بشكل قانوني وتقدم الفاسدين منهم للقضاء بصورة تدريجية، والثالثة: هم مصدر خطر؛ لأنهم ينطلقون من أفكار ومبادئ مضادة لحماس، ويطرحون أنفسهم كمنافس جماهيري، غير أنه في ظل غيبة زعامة (كاريزمية) لا يتوقع أن يشكلوا تهديداً.
(٢) التمويل:
تبلغ فاتورة الرواتب الشهرية لموظفي السلطة ١١٦ مليون دولار، لحوالي ١٤٠ ألف موظف، منها ٩٥ مليوناً تدفع لموظفين رسميين، في حين يُدفع الباقي لبرامج البطالة التي تشمل الآلاف من أعضاء المليشيات التابعة لحركة فتح.
وتحوّل الدولة الصهيونية مستحقات جمركية وضريبية للسلطة تبلغ قيمتها الشهرية ٥٠ مليون دولار، وقد قامت بوقفها بعد إعلان فوز حماس، وأعلنت أنها ستواصل وقفها، ولكنها تراجعت بعد ذلك خوفاً من الاختراق الإيراني فيما يبدو، وأعلنت مواصلة دفعها حتى تتسلم حماس الحكومة، وقد أثار بعض الناس إثر ذلك شكوكاً حول احتمال ألا يتم تكليف حماس بتشكيل الحكومة القادمة.
ويقول وزير الإسكان والأشغال العامة د. محمد أشتية: إن جباية السلطة من الضرائب تكفي لسدِّ ٢٠% فقط من فاتورة الرواتب، مشيراً إلى أن التحويلات الصهيونية من الجمارك وضرائب المشتريات تسد نحو ثلثي الفاتورة (الحياة) . وكانت الدول العربية قد تعهدت في قمة بيروت عام ٢٠٠٢ بتوفير دعم شهري لموازنة السلطة بقيمة خمسين مليون دولار، لكن المسؤولين في السلطة يقولون: إن السعودية كانت الدولة الوحيدة التي وفت بالتزاماتها وقيمتها ٧.٥ ملايين دولار شهرياً.
ولدى تفاقم العجز في موازنتها العام الماضي، لجأت السلطة إلى الدول المانحة التي وافقت على تغطية جزء من العجز بقيمة ٣٥٠ مليون دولار، وهو ما يساوي ثلث قيمة العجز للسنة المالية الماضية الذي بلغ نحو بليون دولار.
غير أن هذه الدول أوقفت أخيراً تحويلات مالية لموازنة السلطة بقيمة ٥٠ مليون دولار بعد قيام الأخيرة بخرق اتفاق سابق مع البنك الدولي في شأن الإنفاق الحكومي.
والمشكلة في قضية الرواتب أنها تشكل المحرك الأساسي لعجلة الاقتصاد الفلسطيني الضعيف، ويقول الدكتور محمود أبو رب أستاذ الاقتصاد في جامعة النجاح في غزة (صحيفة الحياة) : «عندما يتوقف مبلغ مثل هذا عن التدفق في شرايين السوق، فإن المصانع لن تجد من يشتري منتجاتها وستدفع بعمالها إلى الشارع، مما يؤدي إلى حدوث إضرابات واضطرابات قد تسقط أي حكومة لا تجد بديلاً» .
وفي مواجهة ذلك فإن حماس أعلنت عن عزمها اتخاذ إجراءات إصلاحية لتقليص فاتورة الرواتب، وصرح محمود الزهار: أن هناك ٣٧ ألف موظف يتلقون رواتبهم دون أن يعملوا بصورة فعلية، يعيش عدد كبير منهم في الخارج، وأشار إلى أن كثيراً من هؤلاء هم أبناء مسؤولين في السلطة أو زوجاتهم أو أقربائهم.
وأعلن أسامة حمدان ـ ممثل الحركة في لبنان ـ عن وجود اتصالات مع دول عربية لا يُعلن عن كثير منها، وصرح محمد أبو طير النائب الجديد أن جهة عربية واحدة وافقت على دفع ١٠٠ مليون دولار من أول اتصال، وذلك للحكومة التي ستشكلها حركة حماس.
ولا يمثل القرار الأمريكي بوقف المساعدات للسلطة تأثيراً كبيراًً؛ حيث لم تتجاوز المساعدات التي قدمت من الولايات المتحدة طيلة ٢٣ عاماً ١.٢ مليار دولار، وحسب قول أحد المراقبين فإنه لو توقف المدخنون في فلسطين عن التدخين (٦) أشهر لاستغنوا عن الدعم الأمريكي.
وهناك عامل آخر ربما يسهم في عرقلة التمويل، وهو الاتهامات المتوقعة مستقبلاًً لحماس أنها تقدم دعماً للإرهاب، وهذا ربما يفرض قيوداً مستقبلية على الحركة في تلقّيها الدعم، ويفرض عليها التزام قدر عال من الشفافية في الأمور المالية.
(٣) نقص الخبرة:
حماس تواجه مشكلة إدارة حكم وسلطة دون خبرة سابقة، ولكن بعض المراقبين يقللون من أهمية ذلك بالقول: إن الذين استلموا مقاليد الحكم في ١٩٩٤ لم تكن لديهم خبرة سابقة، وبعد عشر سنوات من السلطة، ثمّة بيروقراطية فلسطينية قد تشكلت في كافة دوائر الحكم ستسمح بانتقال السلطة في سلاسة من قوة سياسية إلى أخرى (د. بشير نافع ـ المركز الفلسطيني للإعلام) .
ولكن يبقى أن حماس ـ التي لم تمارس الحكم من قبل ـ بحاجة ماسة إلى دعم عربي وإسلامي في هذا المجال، وقد أكد القيادي السياسي بحماس الدكتور يونس الأسطل (إسلام أون لاين ٦/١/٢٠٠٦م) : أن عدة جهات أبدت استعداداً كاملاً لتقديم خبرات واسعة في إدارة السلطات المختلفة، كما ذكر أن عدداً من عناصر فتح قد اتصل بحماس وعرض عليها وضع خبراته وإمكانياته تحت تصرف حماس.
(٤) التنسيق الأمني:
التنسيق من خلال اللجان الأمنية المشتركة كان عملاً روتينياً ومهماً تمارسه السلطة السابقة، وليس معلوماً حتى الآن كيف ستتغلب حماس على هذه المشكلة كونها ترفض الاحتكاك المباشر مع الاحتلال، وهي مشكلة يشعر الصهاينة أنفسهم بها.
يقول أحد الضباط الصهاينة: «إن هناك مشاكل ستواجه جيشهم لو أصرّ على رفض الاتصال بحماس مع وجود الحركة في قيادة السلطة الفلسطينية» ، وهو ما يعني أنَّ، المشكلة نفسها قائمة بالنسبة لحماس التي ترفض التعامل، ويشرح الضابط: «نحن نعتمد على السلطة بالضبط مثلما هم يعتمدون علينا، فلو تولت حماس زمام الأمور فلربما لن نصبح قادرين على الاتصال ببوليس السلطة ونطلب منهم أن يبطلوا مفعول قنبلة زرعت بمحاذاة السياج الواقع خارج غزة» ، ويقول الدكتور موسى أبو مرزوق: «فيما يتعلق بالتنسيق الأمني فهذا الملف ستتم مراجعته والتدقيق فيه؛ لأن حماس كانت دائماً تعترض على التنسيق الأمني مع العدو، والملف هذا بشكل خاص يجب أن يُتعامل معه بدقة وشفافية وبمسؤولية» .
\ استراتيجية حماس:
تبدو في الأفق إشارات متفاوتة عن استراتيجية حماس في الفترة المقبلة، ويمكن القول إنه بصورة عامة هناك استراتيجيتان يمكن أن تعمل الحركة من خلالهما: الأولى: تمثل خياراً مقترحاً وإيجابياً، والثانية: تمثل خياراً مرفوضاً.
\ الاستراتيجية الأولى: المرونة مع التمسك بالثوابت:
المتوقع في حالة تكليف حماس بتشكيل الحكومة أن تبدأ حالة من الهدوء لامتصاص حالات الغضب وردود الفعل، كما أنها ستركز بقوة على تحقيق إنجازات مبكرة لإثبات فعاليتها وللمحافظة على تأييد الرأي العام ليكتسب قوة أكبر في مواجهة الضغوط المالية.
وحسب استراتيجية المرونة مع التمسك بالثوابت، فإن حماس ستراهن على آلية متدرجة في عملها السياسي تتكون من عدة بنود:
ـ الدفع في اتجاه تشكيل الحكومة بأسرع وقت.
ـ ترسيخ حقيقة عدم رغبة حماس في الاستقلال بالسلطة، من خلال تأكيدها على دعوة الفصائل للمشاركة، وفي مقدمتها فتح.
ـ في حالة تشكيل (حكومة تكنوقراط) فإن حماس ستدفع باتجاه طمأنة الدول العربية والغربية من ناحية الأمن والمال، وربما تتسلم وزارتي الداخلية والمالية شخصيتان من خارج حماس.
ـ ستبدأ حماس حكمها بإعادة ترتيب الوزارات التي تباشر مصالح الشعب الفلسطيني، مع الحرص على معالجة قضايا الفساد بعناية وتدرج.
ـ ستعمل الحركة على إقناع الرأي العام بأن تسلُّم الحركة للسلطة يمثل فارقاً كبيراً في الحياة اليومية للمواطن الفلسطيني.
ـ ستتجنّب الحركة مرحلياً التدخل في القضايا السياسية الشائكة، مثل: التفاوض مع الصهاينة، وتنفيذ الاتفاقات.
ـ ستعمل الحركة في الفترة القادمة على الترويج والتفرقة بين إمكانية التفاوض مع المحتلين والاعتراف بالكيان الصهيوني.
ـ وفي هذا الصدد من المهم الإشارة إلى بعض النقاط:
أولاً: ثوابت حماس:
من أهم ثوابت حركة حماس: عدم الاعتراف بإسرائيل، تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، المقاومة وسيلة رئيسة للتحرير، وحق العودة لجميع اللاجئين.
وهذه الثوابت أكد عليها قادة حماس في الفترة الأخيرة، وقال خالد مشعل في تصريحات صحفية: إن حماس لن تعترف أبداً بشرعية «الدولة الصهيونية التي أقيمت على أرضنا» . وفي حفل لتخريج دفعة من مقاتلي القسام قبل أشهر قليلة، قال محمود الزهار: «ستبقى هذه الأجساد تدرّب غيرها لتحوّل كل الشعب الفلسطيني إلى مجاهدين حتى يتم تحرير كامل فلسطين من البحر إلى النهر» .
ثانياً: التصريحات المتضاربة:
من الملاحظات المهمة في أداء قادة حماس الإعلامي وجود تضارب في تصريحاتهم بخصوص المرحلة المقبلة، ولكن هناك رأي لبعض المراقبين أن هذا التضارب قد يكون مقصوداً بغرض المناورة، ولكن الملاحظ في الفترة التي أعقبت زيارة وفد قيادات الداخل والخارج إلى القاهرة، أن درجة التناقض هذه قد تراجعت بصورة ملحوظة، وربما يكون ذلك للتقارب الشديد الذي حدث بين عدد كبير من القيادات، وقد تكون هذه استراتيجية مقصودة من قيادات الحركة لتوحيد الموقف المعلن وبيان توافق الآراء ووحدة الصف، وإن كان الأمر كذلك فهو إجراء ناجح وفعال لا شك في ذلك.
ثالثاً: الانقلاب أم المواءمة؟
أبدت حركة حماس في الماضي قدرة عالية على الموازنة والتفريق بين الجوانب التكتيكية والاستراتيجية، أي: بين الثابت والمتغير بصفة عامة، وكانت في كل موقف يبدو وكأنه في سياق التنازل تترك لنفسها خط رجعة لاستراتيجيتها وثوابتها، وربما يدفع إتقان الحركة لهذا الأسلوب أو النمط في التعامل مع القضايا الشائكة إلى الاطمئنان، وقد تجاوزت حماس قضايا عديدة، مثل: علاقاتها العربية، والهدنة، والعلاقة مع فتح، ودخول الانتخابات، وحتى قيامها بحذف هدف تدمير دولة العدو من البرنامج الانتخابي بدون أن يثبت عليها ترك الثوابت.
وقد أعلن خالد مشعل أولويات الحركة في هذه المرحلة، فقال: إنها «تتركز في ثلاثة نقاط رئيسية، هي: إصلاح الواقع الفلسطيني وتغييره إلى الأفضل، وحماية المقاومة وحشد الجماهير حول ذلك، وترتيب مؤسسة القرار الفلسطيني على أساس الشراكة؛ وهي: المجالس البلدية، والمجلس التشريعي، ومنظمة التحرير الفلسطينية» .
رابعاً: الملف التفاوضي:
تمثل المفاوضات مع الصهاينة مشكلة عويصة في طريق السلطة المقبلة، ورغم تصريحات بعض قادة حماس بأن مبدأ التفاوض في حد ذاته ليس مشكلة، إلا أنه يوجد مؤشرات على احتمال أن الحركة تفضل في هذه المرحلة أن تنقل الملف التفاوضي إلى المنظمة، وتميل آراء داخل الحركة إلى إبقاء القضايا التفاوضية في يد فتح، حتى تتجنب أن تكون لها علاقة مباشرة مع العدو.
ولكن مع ذلك فقد أرسلت الحركة رسائل واضحة حول مبدأ عدم اعتراضها على التفاوض؛ فقد أعلنت أنها تدرس مبادرة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بالقيام بوساطة تركية بين حماس والعدو، كما قال الدكتور محمود الزهار: «إن التفاوض مع الصهاينة ليس حراماً؛ لأنه وسيلة وليس غاية، وإن المهم ألا يكون مجرد إضاعة للوقت، وإذا كان لدىهم ما يريدون قوله فلا مانع من التفاوض» .
\ الاستراتيجية الثانية: التدرج في تقديم التنازلات:
هناك تخوفات لدى كثير من المراقبين من أن حماس تتبع استراتيجية التدرج بينما هي عازمة على التراجع عن بعض ثوابتها الماضية، وذلك باعتبار أن تراجعها لا يعني نفي كون ما تراجعت عنه هو حق ديني، ولكن باعتبار أنها حركة سياسية في بلد مسلم محتل تخضع لاعتبارات متعددة تحكم الميدان السياسي عن غير إرادة منها، فهو إذن تراجع تكتيكي عن ثوابت استراتيجية.
هذه الرؤية وفيا أحسب لا شك في خطئها، وإلى الآن لم يثبت أن الحركة تتبعها أو تنوي ذلك، ولكن هناك بعض المؤشرات التي تثير قلقاً، ولذلك فإن الحركة في حاجة للتواصل بقوة مع الرموز الإسلامية والعلماء والمفكرين في الدول العربية لبلورة هذه القضية، ومن ناحيتهم ينبغي أن يحرص هؤلاء الرموز على الالتقاء بقادة حماس.
\ منابع القلق:
تُتهم بعضٌ حركة حماس بأنها تعتبر تغيير ميثاقها ورقة سياسية كبرى قد لا تعطيها للسلطة الفلسطينية، بل ستساوم عليها عربياً ودولياً لتحقيق مكاسب ذاتية، مثل: شطب اسمها من قائمة الإرهاب، أو رفع الحصار عن مصادر تمويلها، أو وقف ملاحقة قياداتها واغتيالهم، وذلك استناداً إلى ما قاله الدكتور محمود الزهار: «إذا ما كان لدى الصهاينة شيء لإعطائه للشعب الفلسطيني فسوف ندرسه، ولكننا لن نعطي شيئاً دون مقابل» .
وهناك تصريحات أخرى مثيرة للقلق، مثل: تصريحات النائب في المجلس الجديد الشيخ محمد أبو طير لصحيفة «هآرتس» ، والتي قال فيها: إن دخول حماس الانتخابات هي خطوة استراتيجية وليست تكتيكية، وكذلك إمكانية التفاوض مع الكيان الصهيوني، وإن حماس ستدير المفاوضات بشكل أفضل من الآخرين، وإنها تقبل بقواعد لعبة جديدة في الصراع، وإن الإلغاء لجمل من ميثاق حماس والمتعلقة بتدمير الدولة الصهيونية والسيطرة على الأرض من النهر إلى البحر وكلمة الجهاد كلها ليست تكتيكاً وإنما هي تغيير استراتيجي، وأن المقصود بالمقاومة في برنامجها الانتخابي ليس المقصود ـ بالضرورة ـ السلاح واستخدام القوة (الموجز السياسي للمنتدى السياسي الفلسطيني ٢١/١/ ٢٠٠٦م) .
وأيضاًً فقد صرح القيادي في الحركة محمد غزال أن الميثاق ليس قرآناً، وذلك في إشارة واضحة إلى إمكانية تغييره.
ودفعاً لهذه الشُّبَه، فإنه حتى لو كانت حماس تريد أن تقدم بعض التنازلات الشكلية والإجرائية ـ مثل: إجراء المفاوضات ـ فإن ذلك لا ينبغي أن يتم بصورة مباشرة، بل ينبغي أن يكون هناك تأصيل شرعي لهذا المسلك، ليس بصورة إجمالية فقط ولكن تفصيلية أيضاً.
وهناك إستراتيجيات أخرى قد تتبعها الحركة في المرحلة المقبلة:
(١) إلقاء الكرة في ملعب الشعب الفلسطيني:
هناك مناورة جزئية يمكن لحماس أن تلجأ إليها لمواجهة الضغوط، أو لتحميل الشعب الفلسطيني عبء الاختيار، بحيث لا يلقي أحد التبعة عليها أو يتهمها بالتنازل في حقوق الفلسطينيين، وهي إجراء استفتاء عام للوصول إلى إجماع وطني حول القضية المثيرة للجدل.
(٢) تدشين عملية بناء هيكلية وقاعدية موسعة:
استراتيجية أخرى، أشك في أن الحركة قد تغفل عنها، وهذه الاستراتيجية تستند إلى فكرة أن المقاومة والعمل السياسي يعملان في دورات متتابعة، وأن المقاومة تعطي دفعة قوية للعمل السياسي، ولكن العمل السياسي يفقد قوته الدافعة بعد فترة، ومن ثم يصبح حتمياً التحول إلى المقاومة من جديد، ولذلك من المفترض أن أحد أهداف المرحلة المقبلة لدى حماس هي التحضر لدورة المقاومة التالية، وتأسيس جهد دعوي وإعلامي قوي يرسخ مكانة الحركة ويزيد من أتباعها ويسمح لها باختراق مناطق نفوذ فتح، وهذا يجعل من أسهم الحركة قوية في ظل أي تطورات قادمة، وحتى في حالة عقد أي انتخابات استثنائية.