خواطر في الدعوة
الفقه العملي عند الإمام مالك
محمد العبدة
كان الإمام مالك بن أنس يرسم منهج أهل السنة ويعبر تعبيًرا صادقًا عن
نظرتهم للأمور عندما قال قولته المشهورة: (لا أحب علمًا ليس تحته عمل) وكأنه
يرد بذلك على منهج الجدل وتكديس المعلومات التي ليس لها من الواقع العملي
نصيب، والذي بدأ يتغلغل في جسم المجتمع الإسلامي يومها. ولذلك أجاب عمن
سأله عن هذا النوع من العلم: انظر ما ينفعك في ليلك ونهارك فاشتغل به.
لقد انغمس كثير من المسلمين بعد عصر مالك بالكلام الذي ليس تحته عمل،
وأتعبوا أنفسهم وأتعبوا غيرهم، بطرق وعرة لا تصل بالمسلم إلى اليقين والعلم
النافع، ووقع المسلمون في فخ فلسفة اليونان التي تعتمد على المنطق الذهني البارد، فالفيلسوف هنا يرسم صورًا في ذهنه ولكن لاوجود لها في عالم الواقع، وأحياناً لا
يمكن أن توجد؛ ولهذا ضعف العلم التجريبي عند المسلمين وضعف الاهتمام
بالمشكلات الواقعية كما كان يفعل أئمة الفقه أمثال مالك والشافعي؛ وانصب الاهتمام
على مشكلات خيالية يفترض لحلها الافتراضات وهي لم توجد بعد، وظهرت
المعتزلة وخاضوا بأدق التفاصيل التي ليس لها وجود - وهم الذين يحاول بعض
الكتاب المعاصرين الرفع من شأنهم والإيحاء بأنهم يمثلون تيار العلم والنهضة -
هؤلاء لم يتكلموا ويتوسعوا في العلوم الطبيعية أو العلوم الرياضية التي تنفع
المسلمين، وإنما شغلوا المسلمين ب (الكلام) ونسوا هم وغيرهم أن الدنيا طريق
الآخرة، ولابد لهذا الطريق من أن يعمر ولكن عمران الوسيلة لا عمران الغاية،
لأنه إذا صلحت حال الفرد مع فساد الدنيا حوله واختلال أمورها فلن يعدم أن يتعدى
إليه فسادها وتؤثر عليه وتخل بآخرته، وكيف يقوم بالعبادات على وجهها الصحيح
والمشروع، وكيف ينشر العلم ويجاهد في سبيل الله إذا كانت دنياه خربة، ثم
يستعين بالكفار في مأكله وملبسه ومسكنه وأسلحته، وكيف يحافظ على دينه
والأعداء يتناوشونه من كل مكان.
وتابع علماء أهل السنة منهج الإمام مالك، من هؤلاء الإمام الشاطبي، وشيخ
الإسلام ابن تيمية الذي دعا إلى المنهج التجريبي العملي، وأن حصول المعرفة يأتي
من خلال استقراء الجزئيات، وإنني أعتقد أنه لو سار المسلمون على هذا المنهج
لتغير حالهم، ولما وصلوا إلى هذا الضعف المزري ولما صرفوا كل طاقاتهم في
حفظ الحواشي والكلام البارد الذي سطره أمثال (سعد الدين التفتازاني) أو (العضد
الإيجي) الذين حولوا العقيدة الإسلامية إلى ألغاز وأحاج، يقول الدكتور النشار: (إن
ابن تيمية يؤمن بالجزئيات ويرى أن التجربة وحدها هي أقرب إلى الحقيقة مما
ينتجه الفلاسفة بقياس، وليس هناك في الحقيقة من تكلم - فيما قبل العصور الحديثة
بما تكلم به ابن تيمية، لقد وصل حقًا إلى أوج الدرج في فلسفة المنهج التجريبي، وعبر عن روح الحضارة الإسلامية الحقة) (مناهج البحث عند مفكري الإسلام /
٢٢١) . وهذا الذي قاله ابن تيمية هو منهج أهل السنة لا كما يحاول بعض
المعاصرين اعتبار كثير من علماء الكلام الذين تأثروا بمنهج المعتزلة في الجدل،
من أهل السنة.
لقد تنبه الغربيون في العصر الحديث للأثر الخطير الذي يجره المنطق
الأرسطي على طرق التفكير، وتكلموا عن الفكر الذي وراءه عمل، أو من الممكن
تطبيقه في دنيا الواقع وقالوا: إذا كانت لديك فكرة وأردت تحديدًا لمضمونها فانظر
ماذا عسى أن يكون لها من نتائج تطبيقية في دنيا العمل، فهل يعي المسلمون كلام
الإمام مالك، ولا يجرون وراء الهيام الأحمق بـ (الكلام) ؟