للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حول مصطلح التطرف

زكريا بن عبد الله الزامل

إن التلاعب بالمصطلحات قديم قدم المصطلحات ذاتها، ويكثر هذا النوع من

التلاعب في هذا الزمان، حتى وصل إلى حد الإرهاب بأنواعه، وحتى أصبح

وظيفة لبعض من رواد الصحافة أن يطلقوا الأحكام على خلق الله، فإذا تمسك

المسلم ببعض السلوك الإسلامي وصم بالتطرف والأصولية، وإذا طالب بإقامة حكم

إسلامي رمي بأنه متطرف وصولي، وإذا طالب بإحياء فريضة الجهاد في سبيل

الله وصف بأنه راديكالي، وإذا طالب بالعودة إلى الكتاب والسنة وترك حثالة الآراء

وصف بأنه نصوصي حرفي، وهكذا تنتقى المصطلحات المناسبة من قاموس

الصحافة المستوردة مع إمكانية استيراد مصطلحات جديدة لما يستجد في الساحة من

ظواهر.

ونحن لا نعجب ولا نستغرب هذا العداء لأننا نعلم أن هذه الفئة من الناس إنما

هي عالة على الفكر الغربي المتطرف ذي البعد العدائي للإسلام والمسلمين، ولأنهم

الوجه الآخر للاستعمار فهي شنشنة نعرفها من أخزم، لكن عجبنا أن يكون من حملة

الأقلام الإسلامية وممن يعد من حماة الدين والذابين عنه عندما يقعوا في ذلك المزلق

الخطير، وإن كانوا يملكون من ثقة القراء ما يعذرون به إلا أنهم في المقابل يوقعون

نوعاً آخر من القراء في دوامة وحيرة.

ومن المصطلحات التي أصبحت مجالاً للتلاعب والخداع مصطلح (التطرف

الديني) حيث شاع ذكره والكلام عليه هذه الأيام، لذا وجب علينا معرفة حقيقة التطرف وما يتعلق به ومن ملابسات.

إن هذا المصطلح دخيل لا تعرفه قواميس اللغة المعتمدة، فهو غربي النشأة

يُرمى به كل من يدعو للعودة إلى الكنيسة والكتاب المقدس ويستعمل القوة والعنف

في ذلك كما هو حال الكنيسة في العصور الوسطى لأوربا كقولهم radical,

fundamental, fanatic، ومعناها على الترتيب متعصب، أصولي، متطرف، فترجمت هذه المصطلحات لتكون أسلحة مضادة للمصلحين.

لذا فنحن لا نعرف شيئاً اسمه تطرف ديني، ولكن نعرف شيئاً اسمه الغلو في

الدين، هذا من حيث اللغة. أما من حيث المفهوم فإن المعنى المتبادر لمفهوم

التطرف الديني يختلف عن المعنى المتبادر لمفهوم الغلو في الدين، حيث إن

استعمال مصطلح التطرف بدلاً من الغلو ينتج عنه فجوة إن لم يكن عداء بين عامة

الناس وعلمائهم من جهة، وبين من يسمون المتطرفين من جهة أخرى، ولا يخفى

خطر ذلك على كلا الفريقين، أما مصطلح الغلو فإنه لا يقصد منه خلق فجوة أو

العداء أو الوقيعة أو الإرهاب أو حتى التندر، بل إننا عندما نستعمل مصطلح

الغلو - وهو مصطلح إسلامي - نريد منه الإصلاح والتحذير ومعالجة هذه ... الظاهرة

والرفق بأصحابها والحرص عليهم.

وأيضاً فقولهم التطرف الديني تجُّوز في العبارة، إذ إن الغلو أو التطرف -

على حد تعبيرهم - يكون في أسلوب التدين وليس في الدين ذاته، لذا فنحن نقول:

الغلو في الدين ولا نقول الغلو الديني، وقد أشار إلى ذلك بعض الباحثين، وإن كان

وجد من العلماء السابقين من استعمل لفظ التطرف تجوزاً إلا أن الأصل هو المرجع

اللغوي، وأيضاً فهؤلاء العلماء لم يكونوا يقصدون من ذلك الاستعمال التشويه أو

الاستهزاء بل كان مجرد تجوز في الاستعمال كما ذكرت، هذا من جهة التطرف

كمصطلح.

أما من جهة استعماله وتوظيفه فإننا نجد العجب العجاب ممن يكيل بمكيالين

حيث نجد من الكتاب المحسوبين على الإسلام من يستعمل مصطلح التطرف الديني

ويقيم المظاهرات الإعلامية عليه وأنه أشد أنواع التطرف خطراً وضرراً على الفرد

والمجتمع وأن أصحابه يتطرفون في آرائهم ويتجرأون على الفتيا في الدين بغير

علم، ويوزعون أحكام التكفير والتفسيق مع الناس دون تمييز ويتعصبون لآرائهم

ويسفهون غيرهم ويصبحون أحاديي النظرة، ولا يعرفون من الألوان إلا الأبيض

والأسود، وإذا ما حازوا على منبر عام وصلوا إلى حد الإرهاب.. الخ من أنواع

الشتائم.

ففي حين وضع التطرف الديني تحت قائمة هذه الاتهامات لا نجد هؤلاء

الكتاب يتكلمون عن التطرف السياسي الذي لا يتكلم إلا بالحديد والنار وأعواد

المشانق، وهو أشد خطراً وضرراً على الأمة. أما التطرف الفكري فهو عند هؤلاء

الكتاب أقل شأناً وأهمية ولا يعتبر ذا خطورة بالغة مقابل التطرف الديني مع أنه

يضل كثيراً من الناس، وقد يخرجهم من دائرة الإسلام. وما العلمانية وقبلها

المعتزلة وأخواتها من الفرق الضالة إلا نتاجاً طبيعياً لهذا النوع من الغلو أو التطرف.

فمن هو الذي يتطرف في رأيه ويتجرأ على الفتيا في الدين بغير علم،

ويوزع أحكام التطرف والأصولية والخروج عن الدين على خلق الله دون تمييز

ومن هو الذي يسفه آراء غيره؟ ومن هو أحادي النظر؟ ومن هو الذي إذا حاز

على منبر عام وصل إلى حد الإرهاب؟ أليسوا هم أولئك الفئة من الناس التي

تطاولت على الإسلام وحاكمته بمحاكمة حملته، ورمته بالجمود والتخلف؟ في

مقابل تصفيقها ودعوتها للثقافة الغربية والفكر الغربي.. وأيضاً ما هو السبب في

نشوء هذا الغلو في الدين؟ أليس هو الممارسات السياسية والفكرية المتطرفة.

فلماذا توضع اللائمة على هؤلاء دون هؤلاء ويحاكم هؤلاء دون هؤلاء، أم أننا

أصبنا بداء الغلو أو التطرف في دراسة هذه الظاهرة وتحليلها وإصدار الحكم عليها. وإنني بذلك لست أدافع عن الغلو أو التجاوز في التعامل والسلوك أو اعتذر له أو

عنه، فإننا نعلم من ديننا بالضرورة - وهو دين الوسطية - النهي عن الغلو في

الدين، وأنه سبب في هلاك الأمم، ولكني أدعو بذلك إلى نقد ذاتي بناء بعيداً عن

تدخلات الآخرين المتلهفين إلى نقد كل ما يمت إلى الإسلام بصلة، وأدعو إلى نقد

خالص بعيد عن الاتهامات أو التجريح أو التناقضات أو عدم الإنصاف، نقد يقصد

منه النصح للأمة، وهذا النقد يكون نابعاً عن إحساس الأمة بالنقص والخطأ

واتجاهها إلى التصحيح بعيداً عن ردود الأفعال.

وعلينا ألا نكون ضحية لسياسة الأمر الواقع، أو أن نستقطب فكرياً من

الأعداء فيما نكتب، وأن نجعل فكرنا ونقدنا حراً طليقا في إطار أصالتنا بعيداً عن

مؤثرات الأعداء وإيعازات المخربين.