[اللقاء الأخير]
حمدي عبد القادر أحمد
أسرعتُ الخطا نحو ذلك الكوخ المهجور في طرف القرية، والذي يعلو تلاً يطلُّ على جزء كبير من بيوتها، تلفّتُ حولي في حذر؛ لأرى إن كان أحد يتبعني.
كنت أحمل بين جوانحي شوقاً لا حدود له، إنه موعد اللقاء الأول بها، أحسست بنشوة عارمة تسري في كياني، تذكرت عندما رأيتها لأول مرة.
... يومها، أحسست بشعور عجيب نحوها، تمنيت لو اختطفتها وحلّقت بها في سماء بلدتي الصغيرة.
كانت تتحدث، وكنت أستمع إليها في شغف، وظللت أنظر إليها مشدوهاً طيلة مدة حديثها، كان لصوتها وقع عجيب في قلبي وعقلي ووجداني، فقد أحسست أنها الأمل، وكنت أراهم يخرّون صرعى لحديثها المتدفق بلا انقطاع، ظلت تتكلم لوقت طويل، سقطت منهم أعداد كبيرة.
فجأة، انقطع كلامها، نظرت إليها في توسّل أن تستمر، لكنها لم تنطق، وكأنما سلبت منها الحياة.
رأيتهم ينطلقون نحوها من كل صوب، عدد كبير، أحسست عليها بالخطر، آه ... لو استطعت إنقاذها! إنهم يقتربون نحوها أكثر وأكثر، ما زالت صامتة لا تريد الكلام.
كادوا يصلون إليها، لولا أن ظهر ذلك الفتى الملثم من خلفها تماماً، وكأنما كان هناك منذ البداية، لا بد أن سحرها أعماني، حتى لم أنتبه إلى وجوده. حملها، وانطلق هارباً، اختفى تماماً. ظلّوا يبحثون ويبحثون، حتى أعياهم البحث، لم يجدوها.
أطلقت تنهيدة حارة، فقد نجت، ونجا صاحبها. تُرى! من هو؟! أحسست بشيء من الغيرة، تمنيت لو عرفته، وطلبت منه أن يخلي بيني وبينها.
يومها، قررت أن أعرفه، فالشوق يعصف بي، إنني أعرف جميع فتيان بلدتنا، كلهم أصدقائي.
فكرت قليلاً، من منهم قوي الجسم سريع الحركة كذلك الذي رأيته؟ تذكرت لون بشرته.. بيضاء مشربة بحمرة ... إن «فارس» هو أقربهم لهذه الصفات، سأذهب إليه لأتأكد.
وفي الليل، تسلّلتُ من بيتنا بعد أن نام مَنْ في المنزل، ناموا مبكرين كالعادة.
انطلقت إلى بيت «فارس» ، تلفّت حولي في حذر، إن الخروج في هذه الساعة خطر، ولكن لا يهم، فلذّة اللقاء ستنسيني كل هذا العنت.
وصلت بعد سير طويل، كان بيتهم متواضعاً كبيتنا، وكبقية بيوت القرية، يبدو أنهم نيام أيضاً، فالأنوار مطفأة، هممت بمناداته، لولا أن سمعت أصواتاً خافتة خلف البيت.
درت حول البيت في حذر، تماماً كما ظننت، إن «فارس» هو صاحبها، فها هو أمامي، وهي بالقرب منه.
خفق قلبي في عنف ... إنها أمامي الآن. ظللت أحدق فيها، حتى لم أشعر بما حولي، ولا بذلك الذي تسلّل من خلفي. أحسست بيد قوية تكتم أنفاسي، نظرت ناحية «فارس» لأستنجد به، لم يكن هناك، حاولت الصراخ، لم أفلح.
كان يدفعني ناحية الضوء ليرى وجهي، و ...
«عاصم! ما الذي تفعله هنا في هذه الساعة؟» . كان «فارس» هو الذي يكمم فمي، أرخى يده.
«إذاً؛ فهو أنت يا «فارس» ! أنت الذي هربت منهم، كنت أعلم أنه أنت» .
كان يكبرني بأربعة أعوام، لكنه يعاملني كأخيه.
«اخفض صوتك يا عاصم! لا أدري عما تتحدث!» .
قلت في عناد: «لا تكذب! لقد حملتها وابتعدت سريعاً، ها هي هناك» ، وأشرت إليها.
أحسست بارتباكه، «حسناً يا عاصم! لقد كشفت أمري، ولكن لا تخبر أحداً، فحتى والداي لا يعلمان» .
«اطمئن، ولكن أرجوك، أرجوك ... أريدها، أرجوك» . نظر إلي متعجباً «تريد ماذا؟!» . أشرت إليها ... ظهر الغضب في عينيه «هل جننت؟! أنت لا تعلم أي خطر يتهددني بوجودها معي، لو علموا لقتلوني وشردوا أهلي» .
قلت في رجاء: «أرجوك! أريد أن أكون بطلاً مثلك، أريد أن أكون رجلاً، أرجوك! سأكون حذراً، إنني أسرع منك، وعضلاتي مفتولة» ، وكشفت عن عضلاتي الهزيلة.
هزّ رأسه في عنف «لا ... لا ... لا يمكنني ذلك، فهذا يعرضك للخطر، وأنت ما زلت صغيراً» .
حينها، أحسست بآمالي تتحطم أمامي، إن بيني وبينها بضع خطوات، ولا أستطيع الاقتراب منها.
غمغمت في صوت أقرب للبكاء «أرجوك يا فارس! أرجوك» ، ثم انخرطت في بكاء عنيف، حاول تهدئتي فلم يفلح.
كانت نفسي تموج بمشاعر شتى، ظللت أبكي وأبكي، ويبدو أنه أحسَّ بالشفقة علي، أو أحسَّ بصدقي في طلبها، فقال في استسلام: «حسناً.. حسناً.. كفّ عن هذا» .
توقفت عن البكاء، انتعش الأمل في صدري: «أشكرك، أشكرك كثيراً» .
استدرك «ولكن، ليس الآن، فلا بد من تدريبك أولاً» . فكّرَ قليلاً، ثم أردف: «القني قبل الفجر بساعة في ذلك الكوخ المهجور على التل، واحذر أن يتبعك أحد» أومأت برأسي متفهماً، ألقيت عليها نظرة أخيرة، ثم تسللت إلى منزلنا، كان منزلنا بين بيت «فارس» والتل.
لم يغمض لي جفن، فالانفعال يملأ كياني، أخذت أنسجُ أحلاماً وبطولات، وعشت فيها، حتى حانت ساعة اللقاء، فانطلقت إلى المكان المنشود، أتحسس طريقي في حذر.
... أفقت من تفكيري لأجد الكوخ أمامي، تلفّت في حذر، طرقت الباب ثلاث طرقات متتالية، ثم ثنتين متواليتين، ثم واحدة.
مضت دقيقة قبل أن يفتح باب الكوخ، ولجتُ متلهفاً، رأيت ثلاثة من أصدقائي، هذا «خالد» ، وهذا «عمر» ، وذاك «يوسف» .
كانت البسمة تعلو وجوههم، جلت ببصري متلهفاً حتى رأيتها، لم أطق صبراً، أسرعت إليها، حملتها بين يدي، احتضنتها في قوة، لم أشعر بمن حولي، كانت النشوة تخدر جسدي.
سمعتهم يضحكون، لم أعرهم اهتماماً، فها قد نلت ما تمنيت. سمعت «عمر» يقول: «رويدك يا عاصم! ستقتل نفسك» ، ولكن لم ألتفت إليه.
دخل «فارس» ، كان أكبرنا، ابتسم لمرآي، همس في أذني: «ألم أقل لك إنك ما زلت صغيراً؟» ثم أردف في صرامة: «حسناً يا عاصم! قبل أن تصبح واحداً منا، يجب أن تقسم على الولاء الكامل، وعدم إفشاء سر، صغيراً كان أو كبيراً، حتى لو مزّقوك إرباً إرباً» .
أقسمت على ذلك بصدقٍ وإخلاص، أطلقوا زفرات ارتياح.
قال «فارس» : «سنبدأ تدريبك فور طلوع الشمس، أما الآن فسوف نصـ ... » . شق كلامه صوت سيارات عسكرية تحيط بالكوخ، نظروا إلي في ارتياع، حلفت لهم أني لم أخنهم وأن أحداً لم يتبعني، قال «فارس» في حزم: «حسناً يا عاصم! سنضطر لتدريبك على أهداف حية ... وقاتلة» ، ثم أردف: «دافعْ عن نفسك بكل قوتك، اليوم يومك» .
حملتها في قوة واعتداد، التمعت عيناي ببريق العزم والتصميم، وكذلك كان أصدقائي، اليوم سأثبت رجولتي وبطولتي.
اقتحموا الكوخ في عنف، اشتعلت المعركة، أصدقائي يتميزون ببسالة لا حدود لها وشجاعة لا نظير لها، لن أكون أقل منهم.
أمسكت بها في عزم، حثثتها على النطق، فلا ينفعهم سوى حديثها البليغ، بدأت تتكلم، سمعت صوتها الهادر القوي، رأيتهم يتساقطون.
سقط «عمر» مضرجاً بدمائه ... ما زالت تصبُّ غضبها وحممها عليهم.
سمعت تكبير «فارس» ، رأيته يسقط ... اشتد لهيبه أكثر وأكثر ...
«خالد» سقط هو الآخر، تبعه «يوسف» ، لم يبق سواي. أرديت ثلاثة آخرين.
أحسست بعمود من النار يخترق كتفي، وآخر يصيب بطني.
انثنيت من الآلام، تلاشى صوتها، لقد سكتت.
تكاثروا حولي، ألمٌ شديد في قلبي، لا أقوى حراكاً، الألم ينتشر في جسمي، تشبّثت بها أكثر.
تقدم أحدهم وركلها من بين يدي، حاولت ضمّها إليّ، لكني أفلتها رغماً عني.
دفعني أحدهم بقدمه، سقطت على وجهي، يبدو أني ألفظُ أنفاسي الآخيرة.
نظرت بصعوبة عبر باب الكوخ؛ لأودّع بلدتي الحبيبة، غمغمت في ضعفٍ: «الوداع يا قلقيلية!» .
حوّلت نظري نحوها في وهن شديد.
كانت بين أيديهم يعبثون بها، كأنها تتألم لوجودها بين أيديهم.
كانت تزين ملابسهم تلك النجمة البغيضة.
ألقيت عليها نظرة وداعٍ، همستُ: «الوداع ... الوداع ... يا.. يا.. بندقيتي ... » ، تمتمت بالشهادتين، ثم أظلم كل شيء.