للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[لهذا لم يعتذر (البابا) ... ولهذا لم ترتدع الدانمارك]

د. عبد العزيز الحامد

تتوالى طعون الغربيين النصارى عبر السنوات والشهور الأخيرة بشكل لافت، إلى كل مقدسات وحرمات المسلمين، في حملة حضارية وثقافية صليبية، تتزامن مع الحملة العسكرية والأمنية؛ فبعد جريمة الرسوم المسيئة إلى الرسول # في الدانمارك منذ عام، خرج الفاتيكان بموقف أشنع، لم يمثله مجرد رسام هابط، أو كاتب باحث عن الشهرة، أو صحيفة تريد الرواج، وإنما صدر من أكبر رأس ديني نصراني في العالم الكاثوليكي، في تصريحات قبيحة، تنم عن عداوة صريحة، تحول بها العداء الخاص إلى استعداء عام، في نوع من توزيع الأدوار بين طوائف النصارى الثلاث، فالبروتستانت الأمريكان ـ على ما يظهر ـ تفاهموا مع رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم البابا بنديكت السادس عشر على أن ينضم إلى الحملة العالمية ضد الإسلام، ولكن في جانبها الفكري والثقافي، ولم يتأخر (البابا) في تقديم هذه الخدمة لأمريكا، اتساقاً مع الدور المشبوه للفاتيكان منذ أيام البابا السابق، في خدمة أهداف أمريكا، أثناء صراعها مع الاتحاد السوفييتي السابق، ودول أوروبا الشرقية. لكن البابا أدى الخدمة بخبث أشد مما أُريد منه، وهو أنه باعتباره رأساً للديانة الكاثوليكية، ومتواطئ مع التوجهات البروتستانتية، تحدث عن الرسول # بـ (قلة أدب) أرثوذكسية؛ إذ إن ما نقله من نصوص حاقدة، إنما نسبه إلى إمبراطور أرثوذكسي، لتجتمع أحقاد الطوائف كلها في موقف موحَّد ... فالمتحدث يمثل الكاثوليكية، وصاحب النص من كبار الأرثوذكسية، لحساب أصحاب المشروعات البروتستانتية الإجرامية ...

ولم يكد العالم الإسلامي يسترخي بعد انتفاضته وغضبته الثانية، بصورة شعبية عالمية انتصاراً لنبيه # بعد تصريحات بابا الفاتيكان، حتى شرع الطاعنون الحقراء من طرف الحكومة الدانماركية اليمينية البروتستانتية في معاودة الإساءة للرسول # مرة أخرى، وبطريقة أخس وأنجس مما أقدموا عليه في العام الماضي؛ إذ رتبت إحدى منظمات الشبيبة التابعة للحزب الحاكم في الدانمارك (مسابقة) لأكثر الرسوم سخرية وهزءاً برسول الإسلام #!! والتفاصيل في الموقفين الحقيرين الأخيرين للبابا ولدولة الدانمارك أصبحت معروفة للجميع.

لكن خطورة الأمر، لم تعد مقتصرة على أفعال عدائية مقصودة منهم، ثم ردود أفعال تلقائية محدودة في تداعياتها وآثارها من طرفنا، وإنما تعود الخطورة إلى تحوُّل التطاول إلى ظاهرة تتسم بالعناد والتنوع، وبالاطِّراد والتصعيد بشكل متتابع يحاول أن يحوِّل الظاهرة المنكرة إلى شأن عادي وسلوك مقبول باسم الحرية.

والهدف في النهاية تعجيزنا عن الدفاع عن أعز ما لدينا من رموز وقيم وعقائد.

ü اعتداءات بلا اعتذار ... واحتجاجات بلا آثار:

عندما أقدم الدانماركيون على جريمتهم الأولى في العام الفائت، وطولبوا بالاعتذار؛ امتنعوا جميعاً من الاعتذار، بدءاً من الملكة ثم رئيس الوزراء، ثم الصحيفة التي نشرت الرسوم المسيئة ... ولم يكن في وسع المسلمين في العالم إلا أن يُظهروا الاحتجاج عن طريق المظاهرات السلمية والمقاطعة الاقتصادية للبضائع الدانماركية ... ولكن ماذا كانت النتيجة ... ؟!

لقد اختلفنا ـ نحن المسلمين ـ فيما لا ينبغي أن يُختلف فيه بعد زمن قليل من الحماس، وراح كل صاحب اجتهاد يحاول فرض اجتهاده على الأمة الغاضبة، حتى فُرِّغ هذا الغضب من مضمونه وتميعت القضية، وفتر الحماس للمقاطعة، بل بدأ البعض بتصنيف الشركات الدانماركية إلى شركات (معادية) ، وشركات (محايدة) وشركات أخرى أصبحت (صديقة) لأنها «اعتذرت» بالنيابة عن الملكة ورئيس الوزراء والحكومة اليمينية والصحيفة الصهيونية ... !!

ولما كانت الجماهير قد عرفت القليل من أسماء أشهر المنتجات الدانماركية التي تشكل قيمة في اقتصاد الدولة المعتدية على ديننا، فقد كان من الصعب أن تُكلف تلك الجماهير بعملية «تحري» الحلال من الحرام فيمن يُتعامل معه ومن لا يُتعامل معه، وفق تقسيمات الشركات الدانماركية، وانتهزت المحلات المستفيدة من ترويج تلك البضاعة في بلاد المسلمين من ذلك الاختلاف، فالتفَّت على المقاطعة، والفضل يعود إلى الفتاوى والمواقف المتميعة!

وقد أظهر هذا الارتباك ردود الفعل الإسلامية على أنها مجرد تشنجات وقتية وعواطف آنية، سرعان ما تتلاشى سُحُبها في سماء الرغبات والشهوات غير الحاجية أو الضرورية.

والسؤال هنا: كيف فرطنا في سلاح ماضٍ ـ هو المقاطعة ـ كان يمكن أن يُؤدَّب به الدانماركيون حتى لا يتجرؤوا على إعادة الكرَّة مرة أخرى؟!

الذي حدث أن الدانماركيين عادوا إلى الجريمة بشكل أشنع، ومن طريق لا يبعد عن تواطؤ الحكومة نفسها التي تمادت في التحدي؛ لأن من أمن العقوبة أساء الأدب.

ومن غير المتوقع أن تعتذر في المرة الثانية ... بعد أن امتنعت في المرة الأولى ولم تجد ما يردعها، فلا سفارة أُغلقت، ولا علاقة قطعت، ولا مقاطعة رسمية اتخذت ولا شعبية استمرت!

أما بابا الفاتيكان، فقد أثار الاستهجان بعدم اعتذاره أكثر مما أثاره بتصريحاته، وقد فوجئ الكثيرون بإصرار البابا على عدم الاعتذار الصريح، والشيء الذي ربما لم يدركه الكثيرون من المسلمين، أن من أجرم في حق النبي الخاتم المعصوم #، قد فعل ذلك وهو معتقد في نفسه ويعتقد فيه أتباعه أنه هو المعصوم!!

فبابا الفاتيكان في ديانة الكاثوليك؛ إنسان لا يخطئ..!! هكذا يقولون وهكذا يعتقدون!!

ü ما ذنبنا نحن..؟!

لأن باباهم لا يخطئ؛ فليس من حقنا أن نطلب اعتذاره وهو (المعصوم) مع أن سابقه المشؤوم؛ اعتذر لليهود عن اضطهاد الكنيسة لهم عبر التاريخ؛ فهل كان بابوات تلك الكنائس يومها غير معصومين؟! وهل كان هو قبل اعتذاره غير معصوم؟! لقد اعتذر أيضاً على المحرقة اليهودية وأدانها، مع أن سابقيه لم يفعلوا ذلك. أما الخطأ في حق المسلمين فإنه ليس بخطأ ... لا في الحروب الصليبية القديمة التي لم يعتذر عنها البابا السابق ... ولا في الحرب الصليبية الجديدة التي لم يُدِنْها البابا الحالي.

ربما لم يدرك بابا الفاتيكان (بنديكيت السادس عشر) اتساع الأصداء السلبية لتصريحاته القبيحة عن الإسلام ونبي الإسلام #، ولكنه في الوقت نفسه، كان يدرك جيداً أن هذه الأصداء من الاحتجاجات والمظاهرات والتصريحات، مهما تضاعفت؛ فإنها لن ترغمه، ولا يصلح أن ترغمه؛ على الاعتراف بالخطأ، ومن ثم الاعتذار عنه؛ لأن ذلك يعني ببساطة أنه تنازل بإرادته عن صفة يتفرد بها عن بقية البشر الساكنين على الأرض وهي صفة (العصمة) من الخطأ!!

لقد صدر (قرار) مجمع قساوسة الفاتيكان في عام ١٨٧٠ للميلاد بعصمة البابا، فأضاف عقيدة جديدة إلى المذهب، لم يكن يعلم بها البابوات القدامى منذ بدأت الكنيسة الكاثوليكية حتى ذلك العام!

ومنذ صدر ذلك القرار، والعالم النصراني الكاثوليكي يعيش تحت ولاية دينية (معصومة) برغم كل الجرائم والحروب وأنواع الإفساد التي باركها البابوات طيلة هذه السنين، وبرغم ما اشتهر من أخطاء وخطايا لبعض البابوات، كان منها عزل بعضهم، وعدم الاعتراف ببعضهم، وتعدد المتولين للبابوية في زمن واحد بسبب التنافس على المنصب.

لقد فلسف المحرِّفون لدين النصرانية هذه العصمة لبابا الكاثوليك دون بقية البابوات في الطوائف الأخرى، مستندين إلى أن (الروح القدس) أي جبريل ـ عليه السلام ـ يؤدي وظيفة الوحي الذي لم ينقطع عن طريق الكنيسة ورجالاتها، ممثلين في شخص البابا. وبما أن (الإيمان) في العقيدة النصرانية يقوم على ثلاثة أسس، هي: الإيمان بـ (الأب والابن والروح القدس) فسيظل تطبيق الأساس الثالث مرتبطاً بعصمة البابا الذي له وضعية خاصة مع الروح القدس كما يزعمون، وأيضاً لأن ذلك البابا ـ من ناحية أخرى ـ هو النائب المفوض للقيام بوظيفة (بطرس الرسول) أحد تلاميذ المسيح عليه السلام، الذي يدعون أن عيسى قال له: «فوق هذا الهيكل ـ يعني الجسد ـ سوف أبني كنيستي» . يعني ستكون كنيسة المسيح في المكان الذي سيموت فيه. ولما كانت وفاة بطرس في روما، فقد أصبح لروما ـ أو جزء منها وهو الفاتيكان ـ خصوصية كنسية، وهي خصوصية ترقى إلى أن يكون المسؤول الأول عن تلك الكنيسة مفوضاً عن الإله في الحل والربط، مثلما فوض المسيح تلميذه بطرس بذلك، عندما قال له ـ كما يُدَّعى ـ: (وأعطيك مفتاح ملكوت السماوات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السماوات، وكل ما تحله على الأرض يكون محلولاً في السماوات) [إنجيل مَتَّى ١٦ ـ ١٩] .

إن بابا الفاتيكان الذي يعتقد في نفسه، ويعتقد فيه أتباعه أنه واسطة (الروح القدس) وخليفََة (الرسول بطرس) قد صدَّق أن لديه تفويضاً من الله، يحل ما يحل، ويربط ما يربط كما يشتهي، فاتجه إلى ديننا يحل فيه ويربط، ويُرغي فيه ويزبد، ولهذا قرر ـ بناء على قرار العصمة ـ أن العقيدة في الإسلام لا تتماشئ مع المنطق أو العقل، وأن الإسلام الذي يدين به خُمْس سكان العالم، إنما انتشر بالإكراه، وتحت التهديد بحد السيف.

ü لا أمل في الاعتذار ... لكن لا بد من إعذار:

نعم! لا أمل في اعتذار البابا هذه المرة، ولا في المرات التالية من التطاول على الإسلام؛ فقد نص قرار (العصمة) على أن «الحِبْر الروماني رأس مجمع الأساقفة، ينعم بالعصمة بحكم وظيفته عندما يعلن التعاليم المتعلق بالإيمان والأخلاق، بصفته أعلى راعٍ ومعلم للمؤمنين ... إن تعاليم الحبر الأعظم الصادرة عنه شخصياً بصفته بابا، غير قابلة للتعديل أو المراجعة من أي سلطان آخر، كنسياً كان أو بشرياً» [نقلاً عن كتاب: نور الأمم ص ٢٢] .

لا أمل أيضاً في أن تعتذر الحكومة الدانماركية عن إساءاتها السابقة أو إساءاتها اللاحقة ... لأنها ـ باختصار ـ لم تجد من يوقفها عند حدها، لكن لا بد لأمة المليار، أن تقدم الإعذار إلى الله ـ تعالى ـ بطريقة أخرى غير رجاء الأشرار بالاعتذار، ولن نعدم حيلة، إن كنا مؤمنين حقاً بنصرة رسولنا # نصراً يليق بأعظم إنسان مشى على الأرض؛ فهل هان علينا رسول الله #، حتى نعجز عن الانتصار له..؟!

{إلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة: ٤٠] ، {وَإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: ٣٨] .