المسلمون والعالم
تطبيع.. ضد الطبع والتطبع! !
قراءة في نموذج تطبيعي
د.عبد الله عمر سلطان
الصخب الإعلامي والضجيج الصحفي الذي رافق توقيع اتفاق أوسلو قبل أقل
من عامين أصبح من الماضي البعيد، أما الوعود المنهمرة بتحويل غزة وأريحا إلى
سنغافورة أخرى وهونج كونج الشرق الأوسط فقد صارت من النكات السمجةوالمُلح
الباردة.
ليس السؤال لماذا تبخر اتفاق السلام المزعوم؟ ! ولماذا ثبت للمرة الألف أن
الموقعين قد خُدعوا من قِبَل قوم لا يرقبون فيهم إلا ولا ذمة؟ .. وليس الغريب أن
تتوالى الأحداث كقطع الليل الكالح الذي ينشر بؤسه منذ أن وُقع الاتفاق حتى هذه
اللحظة، إنما الاستغراب في سرعة الانهيار وانتشار الحقيقة المرعبة بين المتابعين
لهذا المسلسل البائس.
لقد ولّد الاتفاق منذ اللحظة الأولى إحساساً جماعياً بالكارثة، لا سيما بين الذين
كانوا ولا زالوا يزنون الأحداث بميزان القرآن والسنة، ويستندون إلى التجربة
التاريخية التي تدعم هذه النظرة التي تطل على الواقع من علٍ بينما المتاجرون
بمبادئهم وأوطانهم يصرون على أن هذا الاتفاق هو الخطوة الأولى لعهدالاستقرار
والرفاهية! ! التي لم تطل أبداً.
لقد كان الصوت المعارض للتطبيع والتلميع لأعداء الأمس خافتاً في ذلك اليوم
الأسود.. بينما كان الحِرباويون وسماسرة تسويق المرارة والهزيمة يعيشون أحلى
ساعاتهم وأزهى عصورهم، لقد زال الصراع بين اليهود والعرب واكتشفوا فجأة
أنهم أصدقاء يرعاهم راعي البقر ويوردهم المواضع التي كان واضحاً أن فيها هلاك
البعير العربي ونماء الخنزير الصهيوني..، خرج وقتها من يقول: لسنا
فلسطينيين أكثر من أهل فلسطين، وليس أمام العرب سوى المتاح من فتات الحلول
المتعفنة.. وكأن المسألة مزايدة سياسية اعتادها أولئك الذين لبسوا مسوح القومية
حيناً والناصرية دهراً ثم أصبحوا كيسنجريين أكثر من كيسنجرنفسه في النهاية.
الحقائق هكذا كانت ولا زالت لا تثبت أمامها الأباطيل، والبصيرة الراشدة
حتماً تنتصر على أهازيج المتصهينة، حتى ولو كانت الأولى تقطن بين دفتي كتاب
أصفر قديم بينما الثانية تبث على موجات الأثير أو تلوث الفضاء بدعايتها وكذبها.
هذا بالضبط ما حدث مع اتفاق السلام المزعوم، هذا الاتفاق كان أكثر من
مغالطة.. لقدكان فضيحة وطنية وجرفاً عقدياً سقط فيه أولئك المتعبون البائسون
الذين أصروا على أن يئدوا القضية للتخلص من حملها، بدلاً من تركها تعيش
وتكبر وتجاهد رغم الآلام والصعاب والشوك المنثور..
لقد كانت معارضة اتفاق السلام مبنية على خلفيات شتى، لكن الصوت المسلم
كان أنقى وأوضح وأشجى تلك الأصوات، فإن عارض القوميون الاتفاق ... فلقد
عارضوا التفاصيل وأيدوا جوهر الصلح والتطبيع بل والاندماج بالآخر:
الصهيوني.. ولئن حذّر بعض رفاق الزعيم فلأنهم رأوه وهو يصر على إلقاء نفسه وشعبه في حمى النار الإسرائيلية حيناً، أو لأن الكرسي لم يتسع لهم وله.. ولئن زايدتً طهران وضجت فلأن الاتفاق ومعارضته مكسب للذين لم تجف أيديهم بعد من حبر اتفاق إيران كونترا..
وكعادة العرب بدأ سباق الهرولة المريع نحو اليهود المغتصبين بشكل جماعي
ما عدا بعض الاستثناءات ويلفت نظر المراقب نموذجان، فالأول بلغ شأنه،
وانحصر دوره حالياً في ملاحقة المؤمنين من أبناء شعبه، والتبجح بهذه البطولات
الإسرائيلية مع أنه يُذل ويُهان من قبل اليهود، حتى كأن الذي لا يعرف معنى
العمالة والعبودية لا يحتاج إلا إلى رؤية هذا الزعيم! وهو يلاحق أسياده من
عاصمة إلى أخرى ومن معبر إلى مخبأ يخفي فيه وجهه وجرمه..
أما اتفاق وادي عربة المخجل: فقد أصبح نموذجاً للتطبيع المفروض على
الرقاب والإرهاب المبرمج لقبول الجرثومة الإسرائيلية بوصفها كائناً صحياً ومغذياً
للجسد العربي البادي المرض والهزال.
إن كلمة تطبيع تأتي من كلمة طبيعي أو ما يعني بالإنجليزية Normal التي
معناها: طبيعي، أما جعل الوضع الشاذ طبيعياً فهو ما يعني بالإنجليزية
Normalization؛ فهل يعقل أن يصبح الطبيعي الفطري مفروضاً على الرقاب؟ ! أو هل يمكن أن ينقلب الغاصب إلى صديق حميم والقاتل إلى أستاذ في علم
الفضيلة؟ ! أو اليهودي إلى أخ في العقيدة؟ ! .
لقد كان من عوامل نجاح كشف عوار هذا التطبيع الأعرج أن الصوت المسلم
قد خاطب الناس بما آمنوا به وصدقوه ووعوه؛ خاطبهم بلغة سورة البقرة وآل
عمران، وأشار إلى أن يهود اليوم إنما هم إخوان القردة والخنازير في الأمس، وأن
القدس خير مثال على حقيقة الصراع وأفضل تلخيص للقضية المكلومة.
التطبيع في نموذجه الثالث كان الأسرع، فبعد أن أفطر رابين على المائدة
الرمضانية الرباعية، وطمأنتنا إذاعات وصحف الزحف التطبيعي على أن شهيتة
كانت ممتازة [١] ! ! ! جاء دور إخوانهم البرلمانيين الصهاينة؛ فقد قامت طائرة
خاصة بجلب ٢٩ من النواب اليهود في ليلة رمضانية، وقد وعدوا بأن يكون السلام
مع دولة اليهود نموذجياً! وقبلها بيوم: ألغي قانون أردني سابق يلغي عقوبة
التجسس لحساب إسرائيل! كما يلغي قانون حظر بيع العقارات للإسرائيليين، ثم
تلا ذلك تسريح ربع الجيش، لأن إسرائيل أصبحت دولة غاية في التهذيب واللطف، وهي استراتيجياً لا تمثل خطراً! ! ، فهي لاتفكر في امتلاك أسلحة نووية
وكيماوية وجرثومية! ! إنما همها الأوحد تنظيف الجو من خطر التلوث الأصولي
الذي أعياهم جميعاً وأقض مضجعهم بلا استثناء! !
لقد وصل شهر العسل هنا إلى حد أن يتصل رابين بكلنتون شخصياً حتى
يلغي قرار تخفيض المساعدة الأمريكية للأردن من ٤٠٠ مليون إلى ٥٠ مليون
دولار.
إن التطبيع الحكومي هوتطبيع فوقي بين حكومات لا تتمتع حتى في حالة
اليهود بشعبية كاملة، أما الخطر الحقيقي فهو التطبيع بين الشعوب والذي يُشهر
هجمةً لابد للصوت المسلم أن يتصدى لها كما تصدى للاتفاقات الرسمية التي تعيش
الآن في غرفة الإنعاش بالرغم من الكمية الهائلة من المغذيات والأدوية التي تحقن
بها صباح مساء.
إن التطبيع الثقافي يرمي إلى زعزعة الثوابت العقدية، وإلى إشاعة الفاحشة
والتحلل والتعلق بالرموز اليهودية والنماذج الصهيونية أو تلك التي تسير في
ركابها.. لقد قامت إذاعة أردنية ببث بعض أغاني اليهود ثم تلا ذلك زيارة لفرقة أردنية مشبوهة ل (حيفا) من أجل إثبات تطور واندماج الشعب الأردني المسلم باليهود كما زعموا.. لكن في المقابل قامت ردود فعل شعبية مضادة لهذه الشذوذات من ضمنها قيام سيدتين بتقديم قضايا إلى المحكمة ضد التطبيع وسماسرته.. فالشعوب تدرك أن لها دوراً في وقف نزيف الكرامة، والمنطق الذي جرى بتسارع ملفت للنظر منذ المبادرة الساداتية، وحتى الولائم الأخيرة، ولذلك صرح الملك حسين بأن هذا السلام هو تكملة لما بدأه القادة العرب التاريخيون.. إن أولئك أنجبوا تطبيعاً بارداً، إلا أن التوجه الأخير يكرس للتطبيع الذي يخالف الطبيعة والطبع والتطبع! .
(١) نقلت هذا الخبر ثلاث صحف عربية! ! .