للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[لفتات في تأليف القلوب]

أبو محمد أحمد أجلان

قصّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ في كتابه الكريم مقالة فرعون {مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: ٢٩] .

وهذا الرأي الذي رآه فرعون هو قتل موسى عليه السلام. وكان هدف قتله ـ كما يزعم ـ: خشية على دين بني إسرائيل من التبديل وخوفه من إفساد موسى في الأرض.

وهكذا مذهب الطغاة على مرِّ التاريخ، إلزامُ الناس على رأيهم بقوة السلطان، بحجة الغيرة على الدين. وليس حديثي في هذا المقال عن هؤلاء الطغاة والمفسدين؛ فمذهبهم أوضح من أن يوضح، ولكنَّ العجب الذي لا ينقضي منه العجب من بعض بني جلدتنا، ممن يحمل همَّنا ويقف معنا في صفِّنا وهو يتدثر بهذا الطغيان الفكري من حيث يشعر أو لا يشعر، فتراه دائماً يدَّعي احتكاره الصواب ... ورأيه هو رأي الإسلام.

وهو الناطق الرسمي باسم سلف الأمة.

فيُدخِل من شاء إلى السنَّة، ويُخرِج من شاء منها؛ ولسان حاله: {مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} . [غافر: ٢٩]

وليست المشكلة في هذا فحسب، لكن المصيبة أن يتعدَّى ذلك إلى التحزُّب والفرقة والتصنيف في مسائل يسوغ فيها النظر والاجتهاد، وهذا العمل قد ذمَّه الله في كتابه: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} .

[آل عمران: ١٠٥]

{فَمَا اخْتَلَفُوا إلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} [الجاثية: ١٧] .

وأحسب أن هذا نوع من التطرف الفكري، منشؤه الجهل، وقلة العلم، وقصر النظر.

\ لنتأمّلْ هذه القواعد المهمة!

هناك قواعد يجدر بنا جميعاً الوقوف معها وتأمّلها؛ قصدتُ بها ائتلاف القلوب ولملمة الكلمة، وتوحيد الصف، فمن ذلك:

أولاً: أنَّ الاختلاف أمر طبيعي وقع في عهد النبي # والوحي ينزل من السماء، فاختلف الصحابة بين يدي النبي # في مواطن عدّة (كقصة صلاة العصر في بني قريظة) ولم يعنّف النبي # أحداً.

وأصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ اختلفوا بعد وفاته في أمور عدَّة في مكان دفنه، وفي قتال مانعي الزكاة، وفي كتابة الوحي، وخالف ابن مسعود الخليفة عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ في مسائل كثيرة أوصلها ابن القيم إلى مائة مسألة؛ ومع هذا لم يتحزَّبوا أو يتفرقوا، ولم يُبدّع أو يُفسّق بعضهم بعضاً.

ثانياً: تضييق مذهب أهل السنَّة والجماعة أو السلف بأنَّه ما قاله فلان ـ ولو كان هذا الشخص من الأئمة المعتبرين ـ فيعمد أحدهم إلى قولٍ لأحد السلف الصالح قاله في قضية معينة وفي ومكان وزمان معين ... فيقول: هذا مذهب السلف؛ وهذه إشكالية كبيرة؛ لأنَّه بهذا المنهج سيتفرَّع لنا أحزاب كثيرة كلها سترفع الشعار نفسه.

والأمر الذي يُقرّه العقل والمنطق أن لا يُنْسَبَ إلى السلف إلا في المسائل العامة كأصول الاعتقاد التي أجمع عليها السلف وكان قولهم وعملهم فيها واضحاً ـ وإن حصل شذوذ من بعضهم لا يُذكر ـ.

ثالثاً: التفريق بين النص وفهم النص؛ فإذا كان النص حمَّالَ أوجه فلا ينبغي القطع بأنَّ هذا هو مراد الله وأنَّ من خالفه فقد خالف الإسلام، وبسبب هذا بُدِّع أقوام وضُلّل آخرون، نعم! أقوال العلماء لها مكانتها ومنزلتها، وهي محل الاعتبار، لكنها لا تصل في القداسة إلى درجة النص الشرعي.

رابعاً: أن كثيراً من هذه المسائل المختلف فيها يدخل فيها الهوى والحسد والانتصار للنفس ـ خصوصاً بين الأقران ـ فهذا أبو حنيفة ـ رحمه الله ـ وَصَمَهُ بعض علماء زمانه بالكفر، وقيل فيه من الكذب والافتراء ما يندى له الجبين.

وهذا الإمام مالك بن أنس ـ رحمه الله ـ قال عنه ابن أبي ذئب ـ وهو مَنْ هو في العلم والإمامة ـ: يُستتاب، وإلا يضرب عنقه

وهذا الشافعي ـ رحمه الله ـ يدعو عليه أحد كبار أصحاب مالك في مصر بأن يهلكه الله.

وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ يُؤذى ويسجن عدَّة مرات، وكان الذي ألَّب عليه السلطان علماء زمانه، وما أجمل ما قاله الذهبي: كلام الأقران يطوى ولا يروى.

وقال أيضاً: طيُّه أوْلى من بثِّه.

خامساً: أنَّ من اتَّبع رأي عالم في مسألة فلا إنكار عليه؛ فالمقلد الذي لا يسعه الاجتهاد يكفيه تقليد من يثق بدينه وعلمه. يقول سفيان الثوري: إذا رأيتَ الرجل يعمل العمل الذي اختُلِفَ فيه، وأنت ترى غيرَه فلا تنهه.

سادساً: أنَّ العالم والداعية بشر معرَّض للصواب والخطأ، وقد تحدث منه الزّلة والزلاَّّت؛ فخطؤه لا يقدح في سائر فضله وصوابه، وعيب على المرء أن لا يبصر إلا بعين واحدة؛ ففي الحديث: «إذا كان الماء قلّتين لم يحمل الخبث» (١) .

يقول سعيد بن المسيب: ليس من عالم ولا شريف ولا ذي فضل إلا وفيه عيب؛ ولكن من كان فضله أكثر من نقصه ذهب نقصه لفضله.

ويقول ابن القيم: فلو كان كل من أخطأ أو غلط تُرك جملةً وأُهدرت محاسنه لفسدت العلوم والصناعات.

ويقول الذهبي: ولو أنَّ كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفوراً له قمنا عليه وبدَّعناه وهجرناه لما سلم معنا أحد من الأئمة؛ فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة.

سابعاً: في معمعة الخلاف والصراع الفكري يغيب عن الكثيرين أساسيات مهمة وأصول ثابتة لا تتغيَّر، وهو أنَّ مخالفك ما زال يحمل اسم الإسلام، فينبغي أن يسود بين المسلم وأخيه المحبة، وحفظ الحقوق والذَّبُّ عن عرضه، وعدم الفرح بمصابه؛ فأهل السنة رحماء بالخلق، نصحاء للأمة، شفقاء على الناس.

وأخيراً ... الكلام في أعراض المسلمين والطعن في منهجهم ونواياهم باب خطير، وصاحبه على شفا جهنَّم ـ والعياذ بالله ـ إن لم يتدارك نفسه ويتحلل ممن نهش في أعراضهم وأكل لحومهم.

اللهم أرِنا الحقَّ حقاً وارزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه!