للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأزمة ومنهج التغيير]

د. محمد أمحزون

بدأ التخلف والجمود يطرقان أبواب عالمنا الإسلامي في القرون الأخيرة لأسباب وعوامل ليس هذا مجال ذكرها؛ لكن الغرب اللاتيني بعد ميلان موازين القوى لصالحه لجأ إلى تفكيك العالم الإسلامي لتصفية العالمية الإسلامية ومقوماتها الحضارية، واعتماد نموذجٍ للغزو؛ ركز في البداية على تفكيك المرتكزات والأصول، بحيث اعتمد التفكيك على المرحلية، وترتيب الأولويات، وتوظيف كل التقنيات العسكرية والمدنية (الفكرية والسياسية والاقتصادية والإعلامية) في سبيل ذلك (١) . واعتمد في سبيل ذلك على عدة مراحل تتلخص فيما يلي:

المرحلة الأولى: على التطويق والحصار الجيو ـ سياسي منذ ما يطلق عليه عصر الاستكشافات الجغرافية، بالعمل على التقليص الجغرافي للأرض الإسلامية باقتطاع أجزاء منها في الأندلس وأندونيسيا والقوقاز وأوروبا وإفريقيا والهند ... ، وتحويل طرق التجارة التقليدية التي تمر عبر بعض البلدان الإسلامية إلى المرور عبر المسالك البحرية الجديدة مثل طريق رأس الرجاء الصالح، والهيمنة على المنافذ والممرات البحرية (مضيق باب المندب، مضيق السويس، مضيق جبل طارق، مضيق الدردنيل، ومضيق البوسفور) التي تربط العالم الإسلامي بالعالم كله (٢) .

المرحلة الثانية: اعتمد على خطة التغلغل المدني (التجاري والمالي [القروض] والسياسي) للهيمنة على الثروة الإسلامية وتعطيل التجربة الاقتصادية (الصناعية) الذاتية، وربط العالم الإسلامي بالتبعية الاقتصادية للعالم اللاتيني حتى لا يعود مستقلاً اقتصادياً، وبالتالي لا يملك القدرة على التفلت من الهيمنة العسكرية والفكرية معاً (٣) .

كما قام في هذه المرحلة بتفكيك الوحدة الإسلامية بإدخال نظام الحدود الوطنية الجغرافية الضيقة بين الولايات الإسلامية، واستعمال الجوازات والتأشيرات الجمركية بين بعض البلدان الإسلامية لأول مرة انطلاقاً من منتصف القرن التاسع عشر، مما جعل البلد المسلم الواحد يتحول إلى محميات (فرنسية وإيطالية وأمريكية وبريطانية ... ) (٤) .

وهكذا أصبح المحميون يخضعون لنفوذ الدولة الحامية وقوانينها.

والأخطر من ذلك أنْ تمّ إلغاء بعض القوانين الشرعية الإسلامية وتعويضها بقوانين لاتينية في النظام المالي والضريبي والتجاري، وفي الاستثمار والاستغلال. وقد أدت البنوك والشركات اللاتينية دوراً سلبياً في تغيير العلاقات والقوانين الإسلامية بعلاقات وقوانين لاتينية، بحيث اعتُمِدت كآليات لتنفيذ الإجراءات الخاصة بتفكيك النظام الإسلامي في الجوانب الاقتصادية والمالية والاجتماعية، وتغيير نظام الاستهلاك الذاتي بنظام استهلاك لاتيني في طريقة اللباس والمسكن والمواد الغذائية، بل في السلوكيات والأخلاق (١) .

المرحلة الثالثة: اعتمد الغرب اللاتينيون على الاحتلال العسكري، وتغيير الواقع الجيو ـ سياسي للعالم الإسلامي لتقسيمه إلى كيانات وطنية صغيرة متخلفة ضعيفة متناحرة فيما بينها، خاصة في مسألة الحدود التي تركها المحتل غير واضحة المعالم كقنابل موقوتة.

وبدأ يغرس فيها تدريجياً مؤسسة التغيير السياسي والفكري والثقافي والاقتصادي والإعلامي، لسلخها شيئاً فشيئاً عن هويتها وخصائصها الحضارية، فأحلَّ الفكرة العلمانية (فصل الدين عن الحياة) محل فكرة العقيدة، ورسخ الفكرة الوطنية محل فكرة الوحدة الإسلامية. وأصبحت القوانين الدستورية الوضعية هي التي تنظم علاقة المواطنين بالدولة، وأصبحت قوانين ومبادئ الاقتصاد اللاتيني هي التي تنتظم على أساسها العلاقات الاجتماعية في العالم الإسلامي.

المرحلة الرابعة: كان قد منح الاستقلال الشكلي للمحميات أو المستعمرات الإسلامية وسيلة تخدم هدفاً مزدوجاً هو: حراسة مصالح المحتل، وتكوين السبل الكفيلة بدعم برامج التغريب التي تطمح إلى طبع البلدان الإسلامية بطابع الحضارة الغربية.

فحينما شمل التغريب كل الميادين، حيث تغلغل في السلوك الفردي، والفنون والآداب، والمناهج، والبرامج الدراسية، والإعلام، والاقتصاد، والقوانين ... أصبح الدمج الحضاري هو الهدف النهائي في عملية التغيير البطيئة لكنها أكيدة المفعول، كما يقول المثل الإنجليزي: (Slowly but sure) .

وفي ظل التحديث القائم على محاكاة النموذج الغربي في التنمية مما أدى إلى الاحتواء والتبعية، وتجسيد للفصام النكد والتشوه الحضاري الذي أصاب المجتمعات الإسلامية بالتقليد، فقامت على مضامين أيديولوجية مادية؛ ليبرالية واشتراكية، ووجودية وبراجماتية تشكل خطراً على الثقافة المحلية والأصالة، فأصبحت مجتماعتنا تبعاً لذلك أسيرةً للأنساق الثقافية الوافدة، والحلول التقنية الدخيلة، فاقدة للثقة بالقدرة على الابتكار والتجديد (٢) .

٣ ضرورة التغيير:

وانطلاقاً من العوامل والظروف والأحوال السالفة الذكر، والتي أدت إلى تفكك نظام الأمة على جميع الأصعدة، وتذويب الذات الإسلامية في العالمية اللاتينية، برزت عند الغيورين من الدعاة والمفكرين الإسلاميين فكرة المراجعة الإسلامية الجديدة، منطلقة من ممارسة قوانين التغيير والبناء للحد من النزيف في الجسم الإسلامي الذي تسعى العولمة الغربية المعاصرة إلى الإجهاز عليه والقضاء على عوامل المقاومة فيه؛ للتحكم بصفة نهائية في شؤون ومصائر الأمة الإسلامية.

وأمام هذا التحدي الخطير، فإن وضع أسس منهج التغيير كإطار لتأسيس تيار التغيير الفاعل والمجدي هو القانون الشرط الذي يقوم عليه تأسيس آليات حمل وتطبيق المشروع الحضاري الإسلامي، وتصحيح توجهات الأمة في مختلف المجالات، والعودة إلى إحياء دورها الرسالي، وهو في الوقت ذاته الرد الموضوعي على الأسباب التي أدت إلى الانهزام والسقوط. ذلك أن الهيمنة الكاملة غير ممكنة ما لم تُحطّم المرتكزات العقدية والخصائص الحضارية، وتحل محلها مقومات التبعية من خلال إقامة المجتمع الاستهلاكي التابع. وبذلك تدخل الشعوب الإسلامية في مضمار «العولمة الطوعية» (٣) ؛ وهي أخطر أنواع العولمة، إذ يدخل فيها الفرد باختياره وملء إرادته، حيث توجد عولمة لا شعورية تلقائية يصل فيها المرء باختياره إلى الانهزامية والاستلاب في مواجهة النموذج الغازي.

ولعل ذلك ما قرره ابن خلدون في (مقدمته) : بأن المغلوب لا يزال مولعاً بتقليد الغالب (٤) .

لكن القرآن الكريم يطرح مبدأ التغيير الذاتي في مقابلة حتمية السقوط. إنَّه يمنح الإرادة المؤمنة فرصتها في صياغة المصير في استعادته إذا ما أفلت من بين أيديها. ومن ثم فإنه ما إن تتهيأ هذه الإرادة للعمل عن طريق الشحذ النفسي والاستعداد الأخلاقي، حتى تكون قادرة على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية من أي نوع كانت، وبأي درجة جاءت، فتعجنها وتصوغها من جديد لصالح الإنسان والمجتمع (٥) .

٣ مقومات التغيير:

١ ـ الانشداد إلى الأصول:

الأصل لم يكن أصلاً إلا ليكون منارة يهتدى بها، ومنطلقاً تنسب إليه الفروع، وتقاس عليه المستجدات، وتعتبر به الثوابت والمتغيرات (٦) .

والدوران في فلك الأصول والثوابت ضرورة ملحة وشرعية في آن واحد؛ لأنها تقي من الانحراف والزيغ عن الطريق القويم، وتمثل طوق النجاة بالنسبة للمجتمع المسلم، إذ تحميه من التفكك والتشرذم، ومن الفرقة والخلاف. على أن المجتمع المتراص في جوهره تعبير عن مجمل العقائد والمفاهيم والأعراف، وما ينبني عليها من علاقات ومصالح تسود رقعة مكانية معينة، وتخضع لها مجموعة بشرية محددة (١) .

وجدير بالإشارة أن للعقيدة دوراً رئيساً وفعالاً في تحديد ماهية الفعل الاجتماعي، إذ أنها تحدد اتجاهه. كما أنها تفسره، وتظهر مسوغاته، وتكشف عن منطقيته، وكذلك تحدد أهدافه، وترشد إلى كثير من نظمه ووسائله (٢) .

وإن كثيراً من التمزق والازدواجية والتيه الذي أصاب مجتمعات المسلمين المعاصرة، هو بعض نتائج ضمور عقيدة التوحيد على مستوى تمثلها وفهمها أولاً، ثم على مستوى فاعليتها وعملها في حياة الناس ثانياً، لأنها تعتبر عاملاً في توجيه السلوك، ومصدر دفع إلى البذل والتضحية.

فحين تشكل العقيدةُ القاعدةَ الأساسية للحياة الفكرية تتوحد نظرة الناس إلى قضايا عديدة، مثل: الحلال والحرام، والمال والجاه والسلطة، والإيثار والأَثَرَة، وخلاف التنوع وخلاف التضاد، وأسس التفاضل والنجاح، وقطعيات الخطأ والصواب. وهذا الأسلوب من التطابق في وجهات النظر على العموم يولد اتجاهاً موحداً للعواطف، ويحدد ملاقي التعاضد والتآزر، والتعاون والتكامل، والتقدير والاحترام، والتواصل الاجتماعي (٣) .

فبوحدة المفاهيم والأصول يرقى المجتمع ويبلغ درجة من التنظيم والتنسيق تجعل فوضوية الفرد وأنانيته منبوذة وعالية التكلفة، على أنه ليس في المجتمع البدائي المتخلف أحكام وقيم ثابتة مستقرة، وليس فيه أشخاص مستعدون للتضحية في سبيل انتظام مصالح المجموع والرقي العام.

إن الإيمان الحي المتدفق هو الطاقة الكبرى التي نحتاجها في مرحلة الإقلاع والتأسيس، ومن ثم فإن الأخذ بأسباب تنميته يعد من الأولويات. وإذ نحاول أن ننطلق نحو آفاق رحبة لتغيير الواقع من سيء إلى حسن، ونجدد مضامين الانطلاقة الأولى التي قادها النبي -صلى الله عليه وسلم- وأهل القرون المفضلة من بعده، فإن ذلك يستدعي إيجاد نواة صلبة مؤثرة من الرواد الذي يتلقون تربية مكثفة متميزة ترسخ فيهم معاني الإيمان، وتجعل منهم قاعدة فريدة تتحمل عناء البناء والتغيير؛ ففي الحديث الشريف: «الناس كالإبل المائة قلَّ أن تجد فيها راحلة» (٤) .

ومن الخصائص الروحية والخلقية التي يتميز بها هؤلاء الرواد الذين تشربوا حقيقة الإيمان الصحيح ما يلي:

١ ـ الصلة القوية بالله ـ تعالى ـ التي تغمر كيان المسلم، وتنقل إيمانه من حيز التصديق القلبي إلى حيز العمل القلبي؛ من الصدق والإخلاص والإنابة والخشوع والرضا واليقين والمحبة وغيرها من أعمال القلب التي تحوّل الشعور الباطن بالعقيدة وآدابها إلى حركة سلوكية واقعية، حتى يصل المرء إلى درجة الإحسان.

٢ ـ الصبر وطول النفس؛ حيث إن الواقع السيء الذي تعيشه الأمة الإسلامية ما هو إلا خلاصة لتراكمات أخطاء قرون عديدة. ولكي يتحسن الواقع بصورة جيدة؛ فإنه يحتاج إلى زمن مديد وجهد كبير؛ فالإمامة والريادة لا تنال إلاَّ بالصبر واليقين: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: ٢٤] .

٣ ـ التضحية والعطاء السخي، وبذل المال والوقت والنفس في سبيل الله ـ تعالى ـ سمة مهمة في الرائد. فعلى الرغم من أن هذه المعاني عميقة في ثقافة المؤمن ومتجذرة في وجدانه، إلاَّ أن الناس يبحثون دوماً عن القدوة والنموذج المحسوس، إذ هو أسهل في الإدراك وأعظم في التأثير (٥) .

إن الطريق الأقوم لفهم العصر والمشاركة في صناعته هو معرفة الثوابت على نحو جيد، والتفريق بينها وبين المتغيرات، وإعمال المنهج الرباني في الصور الذهنية التي نُكوّنها عن الواقع، إذ يعد الوحي الإطارَ المرجعي، ومركز الرؤيا، ومؤشر الهداية الذي يمنح العقل القيم التي تعصمه من الزيغ والانحراف.

ولأجل ذلك؛ فإن تجديد أمر الدين مرتبط أساساً بإصلاح عالم الأفكار، وتغيير العقليات، وتجديد مناهج التفكير، وإعادة تشكيل العقل المسلم المعاصر ليستوعب محكمات وقطعيات العقيدة التي تعد بمثابة أسس ومعايير فكرية يستند إليها في اقتحام معترك العالمية، مستفيداً من المعارف والمناهج والوسائل النافعة، ومن خبرات الآخرين، مع نوع من الانفتاح المنضبط وممارسة النقد وفق معايير شرعية وحضارية ومصلحية.

إن سلامة الاعتقاد والتصور شرط لإنتاج المعرفة الصحيحة، وإنتاج المواقف والسلوكيات المتزنة، وضمان العطاء والفاعلية، وبناء مجتمع على أسس قويمة.

فتغيير واقع الأمة يتطلب في المستوى الأول تغيير النفوس، ومن عناصر ذلك التغيير: تعميق الفهم، وتجديد الفكر، وتصحيح المفاهيم التي من أهمها مفهوم الفرد الذي يعد عنصراً أساسياً في بناء الأمة، ولكن بشرط أن يقوم بدوره الأكمل بتعاونه مع بقية أفراد الأمة، وتصحيح مفهوم الجماعة التي تتوحد أفكارها وممارستها من أجل تحقيق رسالة الأمة.

وهذا يستدعي إجراءات منها: فكّ الارتباط القائم بين العمل الإسلامي والأطر الحزبية الضيقة؛ ليتقبل العمل الإسلامي الفكرة الصائبة الموصلة إلى الهدف سواء انبعثت من داخله أو خارجه، وتنمية الصفات التي تحقق التفاعل بين الأفراد وتعميقها؛ كالأخوّة، والشورى، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، والعطاء المتبادل، والقدرة على التجميع في نطاق رابطة العقيدة لا الحزب (١) .

ذلك أن طبيعة البناء الحضاري أصبحت اليوم ـ ونحن على مشارف العصر العالمي ـ معقدة للغاية، ولذا فحاجتها ماسة جداً إلى الفعل المنهجي المنظم أو برنامج العمل الذي يحافظ للحركة التغييرية على خطها الفكري الأصيل، مع منحها القدرة على استيعاب التجارب المعاصرة وخبرات الآخرين، كما أن حاجتها ماسة إلى الوسيلة الكفؤة والمناسبة والمشروعة، وإلى الأسلوب الأمثل والفعال.

٢ ـ استيعاب وسائل العصر:

إن حضارة هذا العصر قائمة على أساس المعرفة. والمعرفة اليوم أهم الأسلحة المستخدمة في الصراع بين الأمم، فعن طريقها يتم تطوير كل الأسلحة الأخرى، وعن طريقها تتم السيطرة على عقلية الخصم وهزيمة نفسيته وروحه. ومدخلنا إليها لن يكون إلا عن طريق شحذ الفعالية العلمية للأمة، واستيعاب طرائق ونظم التقنية المعاصرة لتفعيل البناء الحضاري.

ولهذا الغرض ينبغي تأسيس المعرفة؛ لأن الإنسان حين يمتلك المعرفة فإنه في الحقيقة يملك قوة تفوق القوة العسكرية والقوة الاقتصادية؛ ذلك أن القوة العسكرية مع أنها يمكن أن تؤدي إلى نتائج تغييرية إلا أنها تبقى في الشكل لا في المضمون، إذ يمكن قلب الوضع في المجتمع بالقوة العسكرية وإرغام الناس على سلوك معين، ولكنّ الجوهر يبقى ثابتاً في المجتمع، ويبقى الناس في دواخلهم كارهين للوضع الجديد.

وبالصورة نفسها؛ فإن القوة المالية قد تؤثر في إرغام الفرد أو المجتمع من منطلق الحاجة إلى الانتقال من وضع إلى آخر، إلا أنَّ الجوهر يبقى ثابتاً.

أما القوة المعرفية؛ فإنها تفوق في الجانب النوعي والتأثيري القوتين السابقتين، من حيث أنَّها يمكن أن تستخدم للإقناع، أو الاستدراج، أو التلبيس والتمويه، أو التخويف النفسي والإرغام، وبالتالي التحويل شكلاً وجوهراً.

ولذلك، فإن الغرب أدرك هذه الحقيقة مبكراً في هذا العصر، حيث يقول (ونستون تشرشل) : «إن إمبراطورية المستقبل هي إمبراطورية العقل» (٢) .

ولأجل هذا؛ بذلوا جهداً ووقتاً ومالاً واسعاً لامتلاك هذه القوة بمعرفة المجتمعات الأخرى، ومسحها مسحاً شاملاً من أصولها الأولى إلى ذروتها ثم انحطاطها لأجل السيطرة عليها، وبمعرفة مجتماعتهم أنفسهم لتأهيلها للقيام بدور الريادة والقيادة عالمياً.

وعلى سبيل المثال؛ الولايات المتحدة هي بجملتها مؤسسة ضخمة تضم في غضونها عدداً هائلاً من المؤسسات مختلفة التخصصات، ولا تتغير استراتيجياتها الرئيسة ومصالحها الحيوية بتغير أفراد حكوماتها ورؤسائها، بل من منطلق مصلحي جماعي.

٣ منهج التغيير ومراحله:

إن التغيير اليوم من متطلبات استمرارية الأمة، ومن شروط استعادتها لمكانتها ولهيبتها الحضارية، فهو الذي يتيح للدعاة رواد العملية التغييرية فرصة توفير موجبات (الوراثة الحضارية) ، ويعينهم على تحقيق هذه السنة الربانية: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} .

[الأنبياء: ١٠٥]

وجدير بالذكر أن منهج الدعوة لبناء مشروع التغيير ينبغي أن يقطع ثلاث مراحل رئيسة، كل مرحلة تتميز عن الأخرى بأولويات ومواصفات معينة، وكل مرحلة هي تدرج نحو المرحلة الأعلى وذلك وفقاً لما يلي:

أولاً: المرحلة التربوية:

وهي المرحلة التي يتميز فيها العمل ويتركز على التشكيل العلمي والتربوي للأفراد من أجل إعادة بناء العقل الرسالي عندهم؛ نظراً لغياب هذا العقل عموماً في واقع المسلمين منذ أمد بعيد؛ بسبب انتشار ثقافة إسلامية تهيمن عليها المفاهيم والأفكار السكونية السلبية والانعزالية، وترجيح الفردية، والاستسلام للتقاليد والعادات، وتبعيض الإسلام وغلقه داخل حدود العبادات الفردية غالباً.

إن إعادة بناء العقل الرسالي في هذه المرحلة ينبغي أن يتم على أساس برنامج يعالج عند المدعوين أربعة أمور رئيسة:

١ ـ إدراك قوانين بناء تيار التغيير: والتي تقوم بالضرورة على فقه الدين، وفقه الدعوة، وفقه الواقع، في إطار نظام عقدي عملي حي يحقق بالنسبة لفقه التدين تصحيحات ثلاث في مسارات متوازنة هي:

أـ تصحيح التصور الإسلامي باعتباره قانوناً يتجاوز التصور المنحرف الشركي أو البدعي.

ب ـ ربط السلوك الإسلامي بالتصور العقدي على صعيد الفعل؛ لتجاوز السلوك المنحرف.

جـ ـ تصحيح الالتزام الإسلامي باعتباره ضرورة؛ لتجاوز الالتزام الوهمي الخادع (١) .

وإذا كان الفرد هو محور هذه المرحلة، فلأنه هو الخلية الحضارية التي يجب تكوينها وبناؤها ورعايتها، وتأمين المحضن المناسب لها. إننا إذا اهتممنا بالفرد ونمّينا قدراته، وصقلنا مواهبه وشحذنا فعاليته، وفجرنا طاقاته، استيقظت فيه روح العمل، وتدفق عطاؤه، وغدا بإمكاناته الروحية والمادية مستعداً للتلقي والإبداع، وملاحقة العصر، ومواكبة حضارته بنظرة ثاقبة، وبصيرة نيّرة، وعزيمة وثّابة تتجاوز مظاهر الخمول والكسل والسلبية التي يعاني من رواسبها الإنسان المسلم في الوقت الحاضر (٢) .

إن تكوين الفرد على هذه الوتيرة يجعله يعيش عصره بكفاءة وفعالية بحيث يشعر بقدرته على التغيير؛ تغيير نفسه، وتغيير محيطه ورؤيته للأشياء، فيمتلك القدرة على مغالبة الرتابة والعادات السلبية والتفوق عليها، وتحديث أساليب الدعوة والخطاب بصورة مستمرة.

٢ ـ تحديد عناصر الأزمة التي تولدت عن الأزمة الأصل: وذلك حتى يستوعب تيار الصحوة الأسباب التي فتكت بالأمة وقعدت بها عن النهوض والتوثب الحضاري، وشوهت حقيقة الإسلام، وشكلت أوضاع التخلف التي ترزح بظلالها وقتامتها على الواقع العام الإسلامي اليوم.

وتحديد عناصر الأزمة ينبع أصلاً من فهم الواقع فهماً عميقاً يمكن الوصول إليه باكتساب رؤية منهجية في دراسة الأحداث والمشكلات، أي دراسة حركة الخلق ووجهتها الحضارية، ومعرفة مواقفهم من القضايا التي تواجههم، وإمكانياتهم: الفكرية، والعقلية، والروحية، والسلوكية، والجسدية، ومعرفة أوضاعهم: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والتربوية، والعسكرية، وإدراك كل ما يتعلق بحياتهم الفردية والجماعية بشروط قيامها وعوامل انهيارها، وكذلك ما يتصل بعلاقاتهم مع الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ ومع بعضهم بعضاً، ومع الكون المحيط بهم (٣) .

٣ ـ تحديد الملامح العامة لمشروع التغيير المطلوب لتحقيقه واقعاً:

التغيير الذي نحتاجه اليوم هو التغيير الإحاطي الذي يساعد على رؤية الخيارات ويطرح البدائل، ويدرك التأثيرات المتبادلة والآثار المترتبة على كل خيار، وهذا لن يتأتى إلا من خلال المعرفة المتنوعة (٤) .

على أن الرؤية الشاملة هي رؤية تركيبية متحركة ومتطورة؛ إذ العالم من حولنا يتغير بإمكاناته ووسائله وأدواته، وهذا يعني أن الصور التي نُكوّنها عن محيطنا الأدنى والأقصى يجب أن تكون قابلة للمراجعة والمتابعة والإضافة والتشذيب، وإلا تفلّت الواقع من بين أيدينا وصرنا إلى الرؤية الضبابية التي تخلط بين الألوان (٥) .

متلازمِ الشروط المكونة للمشروع: باعتبارها في سنة التغيير لا تقبل التقسيم والتجزئة والفصل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [البقرة: ٢٠٨] ، يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: «يقول ـ تعالى ـ آمراً عباده المؤمنين به المصدقين لرسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك» (٦) .

وهذه كلمة جامعة تفيد وجوب أخذ الإسلام جملة وتفصيلاً، فهو لا يقبل التجزئة والانتقال وأنصاف الحلول على صعيد الأصول والثوابت.

ولذلك فالله ـ تعالى ـ وبّخ أولئك الذين جعلوا القرآن الكريم عضين؛ فجزؤوا كتبهم المنزلة عليهم، فآمنوا ببعضها وكفروا ببعض: {كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ * فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: ٩٠ - ٩٢] .

٤ ـ تحديد أهداف المشروع والتي منها بالخصوص:

ـ بناء المسلم النموذجي المجدِّد.

ـ ربط الأمة المسلمة بمفهوم العبادة الشاملة في الحياة، وتقوية صلتها بالله ـ عز وجل ـ، والقيام بدور الاستخلاف في الأرض المنوط به؛ لتحكيم الشريعة الإسلامية في جميع مناحي الحياة، وعمارة الأرض وفقاً لمنهجها.

ـ إخراج الأمة من أوضاع الحصار والقمع والاستغلال والظلم والقهر والتخلف الشامل، وإعادة بنائها من جديد وفق مقاصد الإسلام.

ـ فتح آفاق الخطاب مع العالم والحوار معه بشكل علمي حر ونزيه، والتعامل معه على أساس المقاصد العليا، والمصالح الإنسانية الكبرى.

على أن إعادة بناء العقل الرسالي على هذه الأسس هو هدف المرحلة التربوية التي ترنو إلى:

أـ تشكيل عقل جديد.

ب ـ تشكيل عزم جديد.

جـ ـ تشكيل سلوك جديد.

د ـ تشكيل التزام جديد (١) .

ونتيجة لهذا التشكيل الشمولي يمكن أن يحدث تغير في قناعات الإنسان المسلم، وتحول في استعداداته، ونقلة نوعية في سلوكه وحركته، ويصبح نتيجةً لذلك قادراً على نشر الفكرة الإسلامية الأصيلة في محيطه وخارجه، مستعداً لأن يجعلها قابلة للانتشار بوسائل متنوعة ومختلفة تكون قادرة على منع أي تيار أو مخطط من أن يمحوها أو يطوقها أو يصادرها (٢) .

إن الهدف من هذه المرحلة التربوية هو جعل الفكرة الإسلامية المتمثلة في (الوعي بالتغيير، ومشروع التغيير، وضرورة التغيير) فكرة واضحة مغروسة متمكنة عند عدد لا بأس به من الأفراد يُكوِّنون القاعدة الصلبة المؤثرة؛ فالسنن الربانية في الأمم، والقوانين الثابتة في الاجتماع تدل على أن التغيير إلى الإصلاح لا بد أن يعتمد على نواة صلبة جداً، ونقية، ومؤثرة إلى حد بعيد، تجتمع في فلكها عناصر: الصلابة، والنقاء، والتأثير.

والمطلوب في هذه المرحلة هو تشكل نظام الجماعة باعتباره نخبة أو صفوة تمثل نوعية ممتازة لديها القدرة على الانتشار في مختلف المواقع، بسبب تأهيل الأقوياء الأمناء الأكفاء في كل مجال وفي كل قطاع حيوي.

ثانياً: المرحلة الاجتماعية:

والمقصود بها المرحلة التي يتقرر فيها إعادة ترتيب أولويات وسائل العمل الدعوي، باعتماده منهجاً تعطى فيه الأولوية للوسائل والأدوات التي تُمكِّن من التغلغل والانتشار في المجتمع، والامتداد في كل شرائحه ومستوياته ومواقعه من أجل تأسيس (تيار إسلامي) ، أي: رأي جماهيري عام مقتنع بالفكرة الإسلامية ومتشبع بالمنهج الإسلامي باعتباره الحل الحقيقي للأزمة بكل تشعباتها ومشكلاتها المتنوعة.

فالهدف من هذه المرحلة التغييرية هو إقناع المجتمع بالفكرة الإسلامية باعتباره مشروعاً حضارياً، وربط المجتمع بهذا المشروع، وجعله يقتنع تماماً بأن مصالحه المادية والمعنوية، الدنيوية والأخروية، استقراره وحريته وعدله، ورسالته كأمة حضارية، وحركته التاريخية، وقدرته على التدافع، ونجاحه في الخروج من الفقر والجهل والتخلف والاستبعاد إلى الاستقلال الحقيقي تتحدد وتتلخص بشكل حاسم ونهائي في المشروع الحضاري الإسلامي.

فإذا اقتنع المجتمع بهذه الرؤية بواسطة قنوات وآليات متعددة، وانشغل أساساً بضرورة تحكيم الإسلام في حياته، تأسس ما يمكن أن نطلق عليه: تيار التغيير.

أما آليات ووسائل هذه المرحلة فتشمل كل أداة يمكنها التأثير في المجتمع، ومنها على سبيل المثال:

١ ـ التعليم: بفتح المدارس الحرة في المراحل المختلفة من الروضة إلى الجامعة، لإعادة صياغة عقلية الناشئة عن طريق تبليغ وترسيخ الأصول والمعارف الإسلامية في نفوسها، حتى يتأسس بتراكمها قواعد ومناهج تساعد على إعادة تشكيل قناعات المجتمع، وتحديد توجهاته، وبناء مواقفه واختياراته على أساس المرجعية الإسلامية، والضوابط الشرعية.

على أن يتمّ ربط التعليم بالتربية لنقل المفاهيم والمبادئ إلى سلوكيات عملية تتكامل فيها التزكية والفقه، والعلم والعمل.

٢ ـ الإعلام: في عصرنا الحاضر تطورت وسائله المرئية والمسموعة والمقروءة تطوراً كبيراً، حيث أصبحت سلاحاً خطيراً يتعدى دورها الترويج والترفيه والأخبار، ليعمل على تبديل المفاهيم وصناعة الاتجاهات، مما أكسبها قدرة ملموسة على الاستقطاب والتأثير والتوجيه.

ولما كان التغيير نحو الأحسن هو قَدَرُ الدعوة الإسلامية، فقد أصبح لزاماً عليها أن تنظر إلى الإعلام باعتباره أداة مؤثرة على الرأي العام المحلي من جهة، ووسيلة فعالة للتعريف بالإسلام وتبليغ رسالته عالمياً من جهه أخرى، مما يتطلب ضرورة الوصول إلى خطاب إعلامي متميز وشامل يقوم بوظيفة البلاغ المبين، ويقدم رسالة الإسلام إلى الناس كافة بأنها الأصلح لهم والأنفع لدنياهم وأخراهم.

على أن الإعداد المهني لحامل الرسالة الإعلامية ينبغي أن يكون وفق برامج تدريبية مدروسة ذات أهداف واضحة على أيدٍ مخلصة واعية خبيرة، ويشمل كافة المجالات مثل:

ـ مجال المناظرة والحوار والندوة.

ـ مجال الكتابة الصحفية والأدبية.

ـ مجال الإلقاء والإعداد البرامجي في الإذاعة والتلفاز عبر إذاعة وقناة إسلامية شرعية.

ـ مجال المعارض.

ـ مجال المؤتمرات.

وبذلك يتحقق للإسلام أصالته وتمايزه عن الإعلام الغربي (٣) .

هناك بطبيعة الحال وسائل أخرى يمكن استثمارها في مجال التغيير؛ مثل: الجمعيات والنوادي الثقافية، والاتحادات والنقابات، وهيئات الإغاثة والمعونة التي تقدم الخدمات الاجتماعية للناس وتتبنى قضاياهم، وتحقق مصالحهم ومنافعهم اليومية.

ثالثاً: المرحلة التنزيلية:

وهي المرحلة التي ينبغي فيها انطلاق عملية تنزيل البدائل الإسلامية على أرض الواقع، لمعالجة مصادر الأزمة والأوضاع التي ساهمت فيها. ومن المفروض أن تكون المرحلة الاجتماعية السابقة قد حققت فيها شوطاً مهماً على مستوى البُنى التحتية؛ مثل (التربية والتعليم، والإعلام، وقوى الضغط الاجتماعي مثل النقابات والجمعيات ... إلخ) (١) .

ولما كان التغيير الحقيقي والحاسم عادة ما يواجه بعوائق وصعوبات، ولذلك فهذه المرحلة التنزيلية عادة ما تبدأ بمواجهة التحديات، فهي بذلك أصعب مرحلة في مسلسل التغيير.

وفي هذه المرحلة ينبغي أن تمتلك الدعوة الإسلامية رصيداً كبيراً في الأمة، وتستند إلى قاعدة عامة قوية تدخل بها دائرة النضج والاكتمال. ولكي تحقق هذه الغاية لا بد أن تشقّ الطريق نحو القاعدة أكثر فأكثر، فتدخل في نسيجها الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، وتوظف مختلف الإمكانيات والوسائل المتاحة للقيام بالتغيير المنشود.

وعندما يصبح الكم والكيف في الحدود المطلوبة والكافية، عندئذ تبدأ تلك المرحلة التي قد تطول بدورها لفترة غير محدودة، لكنها محسومة بإذن الله ـ تعالى ـ لمصلحة الفئة المؤمنة المحتسبة الصابرة المستقيمة على منهج الله ـ تعالى ـ ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.

وبعبارة أخرى: إن تكوين القاعدة حسب المواصفات المذكورة سلفاً، مع حضور شعبي للدعوة، وتأثير واقعي مترادف في كافة المواقع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلامية ستسهم جميعها في أن تصل قوة المد الدعوي كماً وكيفاً إلى مرحلة التمكين لهذا الدين بإذن الله.

وهذا يقضي سبر أغوار سنة الإعداد، وهي ثمرة الفهم الصحيح والقصد السليم والصبر الطويل.

والإعداد يجب أن يشمل الجوانب الآتية:

أـ الإعداد العلمي والمعرفي، والتفقه في الدين والبصيرة فيه.

ب ـ الإعداد التربوي والسلوكي.

جـ ـ الإعداد المالي.

د ـ الإعداد الإعلامي.

هـ ـ الإعداد البدني (٢) .

وعلى العموم، من علامات تلك المرحلة أن تتوفر لدى العمل الإسلامي من القوى عددياً ومادياً ما هو أعلى من الحد الأدنى المطلوب، لكن هذا الأمر لا يمكن ادعاء حصره أو توقيته؛ إذ أنه ينبني على جملة من العوامل؛ منها: مدى قوة الصدق والإخلاص في النفوس، ومدى الاستعداد للتضحية وبذل الوقت والمال، وهذا بدوره يرجع إلى الإعداد التربوي، ومدى إحكام التخطيط، والإعداد على كافة الأصعدة.

٣ الخاتمة:

ممّا لا ريب فيه أن المخْرَج من التبعية التي تؤسسها العولمة في المجتمعات الإسلامية اليوم يوماً بعد يوم ينحصر في أمرين:

الأول: استعادة الوعي بالهويّة الإسلامية، وتحصين العقل المسلم من الاختراق الثقافي والاستلاب الفكري في مجال القيم والمبادئ والأصول الثابتة التي لا غنى عنها في مواجهة خطط تذويب الذات، وتدمير البنية التحتية العقدية والفكرية التي تحفظ للأمة شخصيتها واستقلالها. علماً بأن الهوية تعتبر الآن عنصراً هاماً واستراتيجياً بالنسبة لأمن الأمم والدول في إدارتها للصراع والتنافس مع الدول الأخرى. والمطلع على خطط الدول الأمنية أو التنموية يلحظ أن مسألة الهويّة تختص بعناية واهتمام؛ لأنها خط الدفاع الأول عن ذاكرة الأمة ولغتها وتاريخها وقيمتها الحضارية. على أن الإسلام يمتلك منظومة من القيم تحقق الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وهي شروط ضرورية لبناء مجتمع منظم ومتحضر وقوي يستطيع أن يواجه تحديات العولمة الغربية.

ولتحقيق ذلك لابدّ من التركيز على الجانب النفسي والتربوي في بناء العقل المسلم المعاصر، وذلك بدمج العملية التعليمية والتربوية في إطار واحد، بإرساء وغرس قواعد البعد العام الاجتماعي في التكوين النفسي والتربوي للفرد المسلم، وما يتبعها من مبادئ وقيم؛ كالعدل، والشورى، والمساواة، والحرية، والصدق، والإخلاص، والتضامن، والتكافل، والتضحية، والبذل، وتقدير قيمة الوقت، وامتلاك روح الجَلَد، والصبر على العمل والإنتاج، والتعود على النظام، وإحكام التخطيط، وتربية روح الانتماء لدى الفرد، والحرص على مصالح الأمة وحقوقها ورعايتها، وحماية مؤسساتها العامة، والمحافظة على النظام العام وغير ذلك، حيث تصبح هذه القيم عرفاً ملزماً للجميع يهتزّ لها ضمير المجتمع في حال المساس بها.

والثاني: الانفتاح على الحضارات الأخرى في مجال التقنية وعلوم الوسائل، حرصاً على امتلاك المعرفة ثم القوة في المجالات المختلفة لدعم التنمية الشاملة، وذلك بربط السياسات الفعلية والتربوية بسياسات التنمية في تلك القطاعات وتفجير الطاقات الكامنة في المجتمعات الإسلامية.

فالتقدم الحقيقي لا يمكن إحرازه إلا بالجمع بين الأصالة والمعاصرة أو بعبارة أخرى بين الثابت والمتغير؛ ثابت يجب الحفاظ عليه ويتضمن العقيدة واللغة والتاريخ وقيم التنشئة الاجتماعية، ومتغير يفتح المجال للتفاعل مع علوم العصر، مع إيجاد المناخ الملائم للابتكار والإبداع والتجديد.

إن التغيير الاجتماعي شيء محتوم، ومعادلته الجمعُ بين الأصالة والمعاصرة، وإن علينا أن نرشِّده بدل أن نقاومه، وترشيده يكون من خلال المراقبة الدقيقة والمتابعة والمراجعة، فنضع الخطوط الحمراء في وجه كل تغيير يمس الأصول والثوابت، والأهداف الكبرى، والمبادئ العليا للأمة، ونرحب؛ بل ونبدع في الوسائل والأدوات، ونجدد الأساليب والآليات التي تساعدنا على تنشيط وظائف نظمنا الدعوية والاجتماعية، وتوظيف كل طاقاتنا وإمكاناتنا على طريق تحقيق آمالنا وأهدافنا السامية في هذه الحياة التي هي مسرح الابتلاء والتدافع: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: ٤٠] .


(*) عضو هئية التدريس في كلية الآداب والعلوم الإنسانية، مكناس ـ المغرب.
(١) أحمد العماري: معالم في منهج التغيير (رؤية إسلامية) ، ص (٣٥) .
(٢) علي الزهراني: الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين، ص (٢١١ ـ ٢١٢) . وإسماعيل ياغي: الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث، ص (٢٢٥) . ومحمد قطب: واقعنا المعاصر، ص (١٨٠) . ومحمود شاكر: الكشوف الجغرافية.
(٣) علي الزهراني: الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين، ص (٢٣٢ ـ ٢٣٣) بتصرف.
(٤) أحمد العماري: معالم في منهج التغيير (رؤية إسلامية) ، وانظر: انهيار الدولة العثمانية في ضوء السنن الاجتماعية لكاتب المقال، ص (٩) .
(١) أحمد العماري: المرجع السابق، ص (٣٧) .
(٢) خلف الشاذلي: التنمية في المجتمع الإسلامي بين الأصالة والمعاصرة، البيان عدد (٧٦) ، ص (٣٢، ٣٥) .
(٣) عمرو عبد الكريم: العولمة، المنار الجديد، عدد (٣) ، صيف ١٩٩٨م، ص (٤٤) .
(٤) ابن خلدون، المقدمة، ص (١٤٧) .
(٥) عماد الدين خليل: التفسير الإسلامي للتاريخ، ص (٢٦٢) .
(٦) عبد الكريم بكار: مدخل إلى التنمية المتكاملة، ص (١٢٢) .
(١) عبد الكريم بكار: المرجع نفسه، ص (٢٤٢) .
(٢) المرجع نفسه، ص (٢٤٢) ، (نقلاً عن نبيل رمزي، علم اجتماع المعرفة، ص ٩٥) .
(٣) المرجع نفسه، ص (٢٦٤) .
(٤) أخرجه مسلم في جامعه (الصحيح) .
(٥) عبد الكريم بكار: مدخل إلى التنمية المتكاملة، ص (٢١٦ ـ ٢١٧) بتصرف.
(١) عبد الحكيم بلال: العمل المؤسسي، البيان، عدد (١٤٣) ، ص (٤٧) .
(٢) حسن المدني: بناء المعرفة ومن ثم القوة، مجلة السنة، العدد (٢٥) ، ص (٥٤) .
(١) أحمد العماري: معالم في منهج التغيير (رؤية إسلامية) ، ص (١٢٦) .
(٢) محمود سفر: دراسة في البناء الحضاري، ص (١٠٦) .
(٣) برغوث مبارك: المرجع السابق، ص (٧٢) .
(٤) عبد الكريم بكار: مدخل إلى التنمية المتكاملة، ص (٥٦) .
(٥) المرجع نفسه، ص (٥٦) .
(٦) تفسير ابن كثير، ج (١) ، ص (٥٦٥) .
(١) أحمد العماري: معالم في منهج التغيير (رؤية إسلامية) ، ص (١٢٧) .
(٢) المرجع نفسه، ص (٣٢٧ ـ ٣٢٨) .
(٣) أحمد حسن محمد: الإعلام من المنطلقات الغربية إلى التأصيل الإسلامي، البيان، العدد (١١٠) ، ص (٥٠ ـ ٥١) .
(١) أحمد العماري: المرجع السابق، ص (١٣٥) بتصرف.
(٢) انظر: مقال المؤلف في البيان، سنن الإعداد والتغيير، عدد (١١٨) ، ص (٨ ـ ١١) .