س: هل انهزمت الولايات المتحدة في العراق؟ الجواب: نعم!
هذه ليست أحجية، ولكنها حقيقة واقعة ومعقدة تحتاج إلى مراجعة معالم النصر والهزيمة في العالم المعاصر؛ فالحروب أو العمليات العسكرية لم تعد محصورة بنتائجها الميدانية، ولم تعد الخسائر البشرية أو الاقتصادية المباشرة هي المؤشرات الوحيدة على النصر أو الهزيمة، وقد فرضت هذه الحقيقة أوضاعاً قد تبدو متناقضة للوهلة الأولى؛ فخسائر الانتفاضة الفلسطينية على سبيل المثال تتجاوز بكثير خسائر الجانب الصهيوني، ومع ذلك فإن المحصلة النهائية للانتفاضة هي الربح لا الخسارة، والكثيرون يؤيدون ذلك، وهو ما يعني أن القاعدة صحيحة، ولكن المشكلة أننا نطبق هذه القاعدة في اتجاه واحد، أي نطبقها على الجانب أو المعركة التي نؤيدها فقط، وبعبارة أوضح فإن خسائر المواجهة في الجانب العربي والإسلامي لا تعد دلالة على انهزام أو تراجع، بينما الخسائر على الجانب الآخر مهما تضاءلت تعتبر دلالة على النصر، وهذا يثبت وجود خلل في موازين الفهم ولا شك.
ونعود إلى الواقع الأمريكي المتناقض لنقدم تفسيراً أوضح، حيث نجد سؤالاً ثالثاً هو في حقيقته جواب على السؤالين السابقين، وهو: مَنْ أو ما هي الولايات المتحدة؟ الجواب: هي ليست طرفاً واحداً أو مصالح مترابطة، بل هي أطراف متنافرة ومصالح متناحرة، وبالنسبة للحرب على العراق يمكن أن نلخص الأطراف الأمريكية في ثلاثة: لوبي شركات السلاح، البيت الأبيض، الرأي العام. وكل منها له أجندته ومصالحه الخاصة التي تتعارض في جزء كبير منها مع الآخرين. وباستخدام القاعدة السابقة في حساب الربح والخسارة، نجد أن الطرف الأول - شركات السلاح - تتحقق مصالحه مع بقاء القوات الأمريكية في العراق، وقد اتُّهم وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد بأنه تجاوز نصائح العسكريين بإرسال عدد لا يقل عن ٤٠٠ ألف عسكري أمريكي، والسبب معروف: لوبي السلاح لا يريد حسماً سريعاً للمعركة؛ لأن ذلك يعني خسارة سريعة لمصالحه.
وبالنسبة للطرف الثاني - البيت الأبيض - فإن المعركة قد انتهت منذ إسقاط نظام صدام والعبث في التوازن الطائفي لصالح الشيعة والأكراد. ومنذ انتخاب الرئيس جورج بوش لفترة رئاسة ثانية بات واضحاً أن ملف الحرب العراقية وبالأخص تحديد مستقبل الاحتلال أصبح من ملفات الإدارة القادمة بعد ثلاث سنوات، وأن إدارة بوش قد انتقلت إلى المرحلة التالية وهي: ترتيب البيت العربي من الداخل.
أما الطرف الثالث - الرأي العام - فإن الحرب العراقية بالنسبة له مبررة إلى حد كبير، ولا يعبأ الأمريكيون كثيراً بما ورد فيها من كذب أو تجاوز في المسوغات، والمشكلة في حجم الخسائر، لكن هذه أيضاً لا تمثل قضية جوهرية ولم تستحق أن يسقط من أجلها جورج بوش في الانتخابات؛ فالخسائر في المستوى المقبول، كما أن غالبية القتلى من فئات مهمشة أو مهملة في المجتمع الأمريكي، وقد أحدثت خسائر إعصار كاترينا انخفاضاً تاريخياً في شعبية بوش لم تحققه أقسى أيام الحرب العراقية.
وخلاصة القول أنه من أهم العناصر في تحديد استراتيجية المواجهة: تحديد المؤشرات الحقيقية للنصر والهزيمة لدى الأعداء، والله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول في كتابه الكريم:{إن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ}[النساء: ١٠٤] وليس بشرط أن ينحصر الإيلام في عدد القتلى والجرحى.