للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ردود الأفعال

عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف

إن (ردود الفعل) من الظواهر المرضية والمستفحلة في واقع المسلمين قديماً

وحديثاً، فما أن يظهر انحراف ما.. حتى يقابل برد فعل معاكس تماماً للانحراف

السابق.. لكن يوقع في انحراف من نوع آخر! ! ومن ثم تتكاثر تلك الانحرافات

وتتشعب هذه الشطحات الواقعة بين إفراط وتفريط، أو غلو أو جفاء.

إن ردود الفعل مسلك سلكه أهل الجهل والظلم.. كما هو ظاهر عند طوائف

المبتدعة.. وقد هدى الله تعالى أهل السنة فجمعوا بين العلم والعدل، فهم يعرفون

الحق ويرحمون الخلق، ومن ثم فقد سلموا من نتائج وعواقب تلك الردود،

وصاروا وسطاً وعدلاً بين تلك الطوائف المتباينة.

ومن المعلوم أن دين الله عز وجل وسط بين الغالي والجافي، يقول الشاطبي

في هذا الشأن: (الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الأوسط

الأعدل، الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه، الداخل تحت كسب العبد من غير

مشقة عليه ولا انحلال، بل هو تكليف جار على موازنة تقتضي في جميع المكلفين

غاية الاعتدال كتكاليف الصلاة، والصيام..

فإن كان التشريع لأجل انحراف المكلف، أو وجود مظنة انحرافه عن الوسط

إلى أحد الطرفين، كان التشريع راداً إلى الوسط الأعدل، لكن على وجه يميل فيه

إلى الجانب الآخر ليحصل الاعتدال فيه، فعلَ الطبيب الرفيق يحمل المريض على

ما فيه صلاحه بحسب حاله وعادته، وقوة مرضه وضعفه، حتى إذا ما استقلت

صحته، هيأ له طريقاً في التدبير وسطاً لائقاً به في جميع أحواله) [١] .

ولقد تفطن سلفنا الصالح لهذا المزلق، وأشاروا إليه، فهذا خطيب أهل السنة

ابن قتيبة يحكي أمثلة على ذلك فيقول:

(لما رأى قوم من أهل الإثبات إفراط هؤلاء في القدر [أي في نفيه] .. حملهم

البغض لهم، واللجاج على أن قابلوا غلوهم بغلو، وعارضوا إفراطهم بإفراط،

فقالوا بمذهب جهم في الجبر المحض، وجعلوا العبد المأمور المنهي المكلف لا

يستطيع من الخير والشر شيئاً على الحقيقة.

وزعم آخرون تصحيح التوحيد ونفي التشبيه عن الخالق، فأبطلوا الصفات

مثل: الحلم والقدرة، والجلال، والعفو وأشباه ذلك. فعارضهم قوم بالإفراط في

التمثيل فقالوا بالتشبيه المحض: وكلا الفريقين غالط، وقد جعل الله التوسط منزلة

العدل، ونهى عن الغلو فيما دون صفاته من أمر ديننا، فضلاً عن صفاته..

ثم قال -رحمه الله-: وقد رأيت هؤلاء أيضاً حين رأوا غلو الرافضة في

حب علي - رضي الله عنه -، وتقديمه على من قدمه رسول الله - صلى الله عليه

وسلم - وصحابته عليه، وادعاءهم له شركة النبي صلى الله عليه وسلم - في نبوته، وعلم الغيب للأئمة من ولده، وتلك الأقاويل والأمور السرية التي جمعت إلى

الكذب إفراط الجهل والغباوة، قابلوا أيضاً ذلك بالغلو في تأخير علي -رضي الله

عنه-، وبخسه حقه، واعتدوا عليه بسفك الدماء بغير الحق.. والسلامة أن لا تهلك

بمحبته ولا تهلك ببغضته..) [٢] .

وها هو شيخ الإسلام ابن تيمية يورد أمثلة أخرى لتلك الردود فيقول:

(لما أعرض كثير من أرباب الكلام، وأرباب العمل عن القرآن والإيمان،

تجدهم في العقل على طريق كثير من المتكلمة يجعلون العقل وحده أصل علمهم

ويفردونه، ويجعلون الإيمان والقرآن تابعين له.

وكثير من المتصوفة يذمون العقل ويعيبونه ويرون أن المقامات الرفيعة لا

تحصل إلا مع عدمه، ويقرون من الأمور بما يكذبه صريح العقل، ويمدحون

السكر والجنون والوَلَه.. وكلا الطرفين مذموم، بل العقل شرط في معرفة العلوم،

وكمال الأعمال، لكنه ليس مستقلاً بذلك، فهو بمنزلة قوة البصر التي في العين،

فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن، كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس

والنار) [٣] .

ومما سطره يراع الأستاذ سيد قطب -رحمه الله- في مقدمته النافعة لكتاب

خصائص التصور الإسلامي: (إننا لا نستحضر أمامنا انحرافاً معيناً من انحرافات

الفكر الإسلامي أو الواقع الإسلامي، ثم ندعه يستغرق اهتمامنا كله.... لأن

استحضار انحراف معين، أو نقص معين والاستغراق في دفعه وصياغة حقائق

الإسلام من أجل الرد عليه منهج شديد الخطر، وله معقباته في إنشاء انحراف جديد

في الفكر والتصور الإسلامي لدفع انحراف قديم، والانحراف انحراف على كل

حال) .

إن هذه المشكلة التي ذكرها سيد تضرب أطنابها في واقع المسلمين قديماً

وحديثاً.. ولو نظرت أخي - المسلم - إلى حاضر المسلمين الآن لرأيت استفحال

هذه القضية وظهور آثارها وانعكاساتها.

وقد ذكر سيد قطب على ذلك أمثلة منها: أن تهمة المستشرقين وأذنابهم بأن

الإسلام انتشر بالسيف والقوة، قد قوبلت بهذا المسلك الذي حذر منه سيد وغيره من

المصلحين.. حيث انبرى بعض (المنهزمين) بتبرئة الإسلام من تلك الفرية،

واشتطوا في ذلك حتى أسقطوا قيمة الجهاد في سبيل الله، وحصروه في مجال

الدفاع ورد العدوان! !

كما أورد سيد مثلاً آخر خلاصته: أن النزعة العقلية الغالية عند محمد عبده

بحيث جعل العقل نداً للوحي، بل وربما قدمه على الوحي.. إنما جاء كرد فعل

للبيئة التي ظهر فيها محمد عبده حيث أغلقت باب الاجتهاد، وأنكرت على العقل

دوره في فهم الشريعة والاستنباط، فغلب على تلك البيئة الجمود والتقليد الأعمى

وانتشار الخرافة.. وفي نفس الوقت كانت أوربا تعبد العقل..

وكم هو محزن حقاً أن تظل إصلاحات بعض الناصحين وجهودهم وليدة ردود

فعل لبعض الانحرافات السائدة، فتستحوذ عليهم تلك الانحرافات، وتصاغ حقائق

هذا الدين وفق الرد والمواجهة لهذا الانحراف.. ما يورث انحرافاً آخر يقابل

الانحراف السابق.

وتأمل ظهور الفرق الإسلامية وتمزق الأمة شيعاً وأحزاباً.. تجد أن (ردود

الفعل) أحد الأسباب الرئيسية في نشأة تلك الفرق وانحرافاتها.. فالإرجاء ظهر كرد

فعل لقول الوعيدية (الخوارج والمعتزلة) وكذا الجبر رد فعل لنفي القدر.. والتشبيه

في مقابل التعطيل.

وانظر إلى ظاهرة الغلو في التكفير والتسرع فيه.. وكيف أدى الأسلوب الذي

سلكه بعضهم من أجل علاج الظاهرة السابقة (ردود أفعال) ! لقد قام من يهاجم هذا

الانحراف (التسرع في التكفير والغلو فيه) ويؤلف في موضوع التكفير.. لكن على

سبيل الرد على أولئك الغلاة (خوارج اليوم) فانزلق القوم فصاروا (مرجئة اليوم) !

ومثال آخر: وهو أن الأمة لما غرقت في لجة الجمود على كتب الفقهاء

المتأخرين، ووقعت في أسر التقليد والتعصب لآراء الرجال.. قام قوم - إزاء هذا

الشطط - فانكروا ذلك - بالأسلوب الخاطئ - واشتطوا في ذلك لدرجة تجريح

العلماء وازدراء كتب الفقه.

لا شك أن لهذه الظاهرة أسباباً يمكن من خلال إدراكها معرفة الأسلوب الملائم

في علاجها، فمن أسباب المشكلة: ضغط الواقع وشدة تأثيره وتفاعل الإنسان معه

سلباً أو إيجاباً، أو نفوراً أو استسلاماً، فربما نزّل النصوص الشرعية على الواقع

فجعل واقعه حكماً على الوحي.

ومن أسباب هذه المشكلة: القصور في العلم الشرعي والجهل بالنصوص

الشرعية متكاملة والظلم والاعتداء على الطرف الآخر، والقصور في النظرة

المتكاملة للواقع الحاضر، ومن أسبابها: فقدان الموازنة والشمولية عند النظر إلى

بعض الانحرافات العلمية أو العملية، والنظر إلى أعراض المشكلة وآثارها دون

أصلها وسببها.

وأخيراً لا بد أن نعرض حقائق وشرائع هذا الدين من خلال الأسلوب

التقريري اليقيني، وأن نحذر من مسلك الرد والنقض لما قد يورثه من انفعالات

ردود وتعديات، وأن لا تستحوذ علينا بعض الانحرافات بحيث تكون شغلنا الشاغل، فنهمل ما هو أولى بالعلاج منها، وأن نكثر أولاً وأخيراً من التضرع إلى الله

تعالى والاستعانة به فلا منجا من الله إلا إليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله

على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.


(١) الموافقات ٢/١٦٣.
(٢) باختصار من كناب الاختلاف في اللفظ ص ٢٣١-٢٤٤.
(٣) باختصار من الفتاوى ٣/٣٣٨ - ٣٣٩.