قضية للمناقشة
[قراءة في الذهنية السلفية]
نواف الجديمي
ثمة شيء ينبغي أن يقال وهو: إن عمليات المراجعة والنقد لكل الأفكار
والمواقف والتحركات السابقة، وتكرر عملية التصحيح وتقييم الماضي: هي
الضمان الوحيد للبقاء والحيوية والتجدد لكل الحركات والجماعات والتيارات
والأحزاب، بل إن النظريات المجردة لا بد أن تخضع لنفس المقياس إن أرادت
الدوام والاستمرار.
الإشكالية المتجددة دائماً، والتي ترافق عمليات النقد والمراجعة: هي الشعور
الذي قد يعم الشريحة السائدة، وربما النخبة أحياناً، بأن هذا النقد لا ينبع من صدق
وإخلاص للحركة أو المبدأ، وإنما يهدف إلى التقليل من قيمتها والحط من قدرها،
فضلاً عن أن تسيطر نظرة تآمرية ضد القائمين بالنقد واتهامهم بمحاولة التخريب
والهدم من الداخل، مما قد يستتبع تصدي البعض للدفاع والذود عن تلك القضايا،
والثبات على كل مواقفها وتحركاتها ربما دون قناعة حقيقية بها، وإن كانت تحمل
العديد من الأخطاء والإشكاليات، معتقدين أنهم بذلك أكثر إخلاصاً وانتماءً.
إن استقراءاً مبسطاً لوقائع التاريخ ونشوء الأفكار والحركات يعطينا دلالة
كبيرة على أن عملية التصحيح المتجددة هي التي تبعث القدرة على الاستمرار، ولا
أدل على ذلك من الديمقراطية بوصفها نظاماً للحكم التي بدأت واقعاً ملموساً بعد
الثورة الفرنسية عام ١٧٨٩م، وكانت آنذاك مقصورة على النبلاء والخاصة، ثم ما
لبثت تتطور حتى وصلت إلى صيغتها الحالية، وهي ما زالت تمارس نوعاً من
النقد الذاتي واستعداداً للتطور نحو الأفضل. أما الشيوعية فكانت على النقيض؛ إذ
إن الجمود والتصلب كانا السمة الغالبة للدولة الشيوعية رغم ملامح التطور الطفيفة
التي أجراها خروتشوف ومن بعده بريجينيف بعد زوال الحقبة الستالينية وذلك مما
عجل في زوالها.
حتى مبدأ الحرية المطلقة والذي كان نتاجاً للثورة الفرنسية بدأ يراجَع في
الغرب؛ إذ بدأ وهجه يتضاءل، وطفت هشاشته على السطح؛ ولذلك تسود الغرب
اليوم ومنذ الخمسينيات من هذا القرن نظرية المسؤولية الاجتماعية بوصفها نظرية
بديلة عن نظرية الحرية المطلقة. وكذا الرأسمالية كنظام اقتصادي حر والذي ساد
الغرب سنين طويلة، بدأت الاشتراكية تزاحمها على السلطة، وبدأت الولايات
المتحدة تتجه إلى تطوير جديد للنظرية أسمته الطريق الثالث.
إذاً فالغرب ما فتئ يتطور ويراجع نظرياته ومواقفه؛ لذلك هو قادر على
التفوق المادي والتقني، بل وفي العلوم الإنسانية كالإدارة والفلسفة والاجتماع، رغم
الخواء الروحي الذي تعيشه فئات المجتمع والضياع والانحلال والتمزق الأسري،
والذي كان مفترضاً أن يلقي بظلاله على الجوانب المادية الأخرى.
ونحن المسلمين إذ نملك منهجاً ربانياً صالحاً لكل زمان ومكان فإن مجال النقد
والتقييم لا يأخذ حيزاً واسعاً من قناعاتنا وإن كنا في الوقت ذاته لا نستطيع نفيه
وإقصاءه إذ إن كثيراً من مواقفنا وقناعاتنا خاصة فيما يتعلق بأساليب التربية
والتنشئة، والتعامل مع الآخر، والقدرة على التحليل والاستنتاج لمجريات الحياة
اليومية ومستحدثاتها على الجانب الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، ومن ثم اتخاذ
المواقف الصحيحة ليست خاضعة لثوابت الشريعة بقدر ما هي اجتهادات بشرية
محضة تخضع للحوار والمراجعة.
والسلفية إذ تملك منهجاً ربانياً واضحاً، وعقيدة صحيحة وتأسياً بسلف هذه
الأمة، لهي الأوْلى بمراجعة الماضي وتقييمه، وهي الأوْلى بالرجوع إلى الحق إن
تبين لها ذلك.
ولكن الحقيقة التي لا يمكن أن نغفل عنها أننا أصحاب حساسية مفرطة لأي
محاولة للنقد والتقييم، وننظر إليها بتشكك وريبة، فضلاً عن سوء الظن الذي
يصبغ نظرتنا لدوافع هذا الكاتب أو ذاك من عملية النقد.
قد أكون مخطئاً عندما أرى أن جميع محاولات النقد والتقييم سواء كانت من
داخل البناء أو من خارجه، تصب في النهاية لصالح تلك الجهة التي تعرضت للنقد؛
وذلك إن استطاعت الاستفادة منه في تصحيح مسيرتها.
ونحن إذ ندعو لقراءة الذهنية السلفية لَنطالب بممارسة هذا النقد لمواقفنا
وعلاقاتنا بكل تجرد وموضوعية، حتى نستطيع مراجعة الماضي ومن ثم التخطيط
السليم للمستقبل، وتبني أساليب ومواقف صحيحة ومتعلقة بعملية البناء الذاتي
للأفراد، أو الجماعي للمجتمع والأمة، أو في علاقتنا مع الآخر. ونقول ذلك مع
إدراكنا أن السلفية ليست نمطاً واحداً بل هي ألوان طيف متعددة، وفيها أصوات
هادئة وأخرى متشنجة لا نستطيع تجاهلها، وندعو إلى التعامل معها وتصحيح
مواقفها، ومع ذلك فهي تحوي جمهوراً غالباً له مشتركات كثيرة، ويسوده تقارب
كبير في الأفكار وطريقة التنشئة، وهذه الشريحة هي التي نقصدها ونتوجه إليها.
لذلك فأنا أدعو إلى إعادة التقييم والمراجعة والنقد. وأبدأ ذلك حفزاً للهمم، مع
إدراكي بقصوري لاستقرائي وبحثي المحدود، تضاف إليه تجربة محدودة. وأزعم
أن هذه الإشكاليات التي سأذكرها تكاد تسود غالب الاتجاهات السلفية المعاصرة،
وأدعو الإخوة إلى تسديد الأخطاء، وأن يتسع صدرهم لهذا النقد والتقييم؛ فلأن
نقوم بذلك ونخطئ خير من أن نكتفي بتلميع الذات وذكر الأمجاد.
صراع الأفكار والمعلومات:
إن أردنا الدخول في صراع الأفكار والمعلومات فلا بد أن نكون حذرين؛ لأننا
ندخل حقلاً من الألغام؛ ذلك أن الموضوع في طبيعته يتعرض لمفهوم كان وما زال
سائداً في أذهان الكثيرين، ولذلك فإن مجرد طرحه قد يثير السواكن، ويلقي حجراً
في الماء الراكد.
ما أريد قوله ببساطة هو: إن التيار السلفي دائماً ما يركز على دائرة
المعلومات ويهمل دائرة الأفكار.
السؤال الذي يتبادر الآن هو: كيف؟ !
والجواب: أن غالبية التيار السلفي المعاصر مع بعض امتداداته في التاريخ،
لا يسلط الضوء بل لا يعطي قيمة إلا للمعلومة المجردة بوصفها وحدة معرفية مستقلة
عن دائرة الأفكار. فالمعلومة هي مجال التفوق والتميز، وبقدر ما يحفظ الشخص
من الأرقام والأحداث والآثار والأحاديث والكتب والأسماء والتواريخ ينال هذا
الشخص مكانة مرموقة، ويوضع في خانة التفوق والإبداع، أما دائرة الأفكار وما
تحويه من القدرة على التحليل والاستنتاج والسبر، وربط الأحداث، وتفكيك
الظواهر المعقدة، وتوليد الأفكار، والقدرة على الفرز والنقد، فهذه الدائرة لا قيمة
لها؛ لأنها لا تحوي كمّاً ملموساً نستطيع حسابه ومعرفة قدره.
إن تسليط الأضواء على المعلومات دون الأفكار بات أمراً سائداً في أوساط
الشباب المتدين اليوم، فأصبح الحفظ وتدوين المسائل ومعرفتها هو أقصر الطرق
للبروز بين الأقران، بل إن الأمر يتجاوز أوساط الشباب إلى شرائح أكبر سناً
وأكثر نضجاً وتجربة، ولذلك نجد هذا التلميع للدائرة الأولى على حساب الدائرة
الثانية امتد حتى داخل تخصصات العلوم الشرعية، فنجد مثلاً أن من يحفظ كتب
السنة الستة قد لا تقارن شهرته وتعلق الشباب به بالمتضلع في أصول الفقه. مع أن
هذا الأخير أكثر قدرة على العطاء للأمة اليوم مع هذه الثورة التقنية والفكرية الهائلة
التي يشهدها العالم، والتي غيرت كثيراً من طبيعة الحياة وتفاصيلها. وهذا واقع
يدركه كل من عاش بين أوساط الشباب.
ذلك فضلاً عن الإهمال الكبير وربما الازدراء لكتب الفكر حتى الإسلامي منها،
مما انعكس بدوره على تسطيح كبير للعقول، حتى صار مصطلح الفكر قرين
السفسطة الفارغة التي لا تكاد تعني شيئاً غير القدرة على الكلام المنمق والمتكلف.
إن الأفكار هي التي تصنع الحضارات، وتدعمها بوقود لا ينفد للاستمرار والبقاء.
والتاريخ كله يشهد على أن تغيرات العالم هي تغيرات أفكار ومعتقدات؛ فالثورة
الفرنسية لم تقم رفضاً للتسلط الكنسي فقط، بل هي في أساسها كانت إرهاصاً لعديد
من الأفكار التي سبقت الثورة بما يزيد عن القرنين، ولذلك كان شعارها عند قيامها
«الحرية، والإخاء، والمساواة» . والشيوعية قامت على فكرة صراع الطبقات
وعلى أساس المادية الجدلية والمادية التاريخية، والنازية قامت على فكرة تفوق
العرق الألماني على بقية الأعراق والإثنيات.
وتاريخنا الإسلامي مليء بالحركات والتغيرات التي قامت على الأفكار
الصحيحة والمنحرفة، ولا أدل على ذلك من أن مبعث رسالة محمد عليه الصلاة
والسلام كانت لتغيير معتقدات الناس وأفكارهم، وإعادتهم إلى الحنيفية المسلمة،
وثورة الخوارج قامت على فكرة عدم جواز تحكيم الرجال في كتاب الله. والشيعة
أول ما قامت كانت لفكرة أحقية عليّ رضي الله عنه بالخلافة لأنه من آل البيت،
وفي تاريخنا القريب لم تقم دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلا على تصحيح
معتقدات الناس مما علق بها من شرك وتصوفات، ولم تقم جماعة الإخوان المسلمين
إلا على فكرة دعوة الناس إلى التمسك بالإسلام وتوحيد الصفوف.
واليوم نعيش زمن فورة الأفكار والتصورات والمعتقدات التي تملأ عالمنا
بشكل مذهل، وإذا اجتزأنا القرن العشرين وسلطنا الضوء على منطقتنا العربية نجد
أن هناك عدداً من الأفكار والأيديولوجيات سيطرت في مراحل متعددة على قطاع
كبير من الناس في العالم العربي؛ وأبرزها القومية العربية، والماركسية الشيوعية،
والبعث العربي، والنظرية الليبرالية الغربية.
والسؤال الحيوي هنا: ما مدى معرفة السلفيين بتلك الأيديولوجيات التي
سيطرت زمناً على منطقتنا؟ وهل تمت دراستها دراسة مفصلة متعمقة للرد عليها
وتبيين عوارها من داخلها، كما كان منهج ابن تيمية في الرد على خصومه؟
الحقيقة أن ذلك لم يحصل إطلاقاً.. وإن وجد من الإسلاميين من تصدى لهذه الأفكار
دراسة ومعرفة ومن ثم رداً وتفنيداً؛ فهم دون شك من خارج التيار السلفي، وهم
في الغالب غير مرضي عنهم، ويحملون العديد من المخالفات في الفكر والاعتقاد
كما يصفهم أفراد التيار السلفي، بل إن المتخصصين في العقيدة من السلفيين وهم
أقرب الناس إلى دراسة هذه المعتقدات الجديدة ما زالت قائمة المذاهب والمعتقدات
المنحرفة التي تدرس عندهم تدور حول القدرية والكلاَّبية وإخوان الصفا والجهمية؛
مع أن انتشارها تناقص كثيراً إلى درجة الانتهاء أحياناً؛ في الوقت الذي يهملون
فيه المعتقدات المتوجهة في العالم اليوم والتي قد تلاقي قبولاً في المجتمعات المسلمة؛
فمثلاً هل دُرست الديمقراطية كآلية للاختيار ونظام للحكم من أصحاب التيار
السلفي بدلاً من فتاوى التحريم الجاهزة ربما دون استيعاب جيد للفكرة؟ وهل لاقت
الأنظمة البنكية الدراسة التفكيكية الشرعية الجيدة من أجل إيجاد بدائل إسلامية
للمعاملات البنكية الربوية؟ وهل وجد علم النفس الدراسة التحليلية العميقة لآخر
نظرياته وأطروحاته ومن ثم الدراسة الشرعية لها؛ ومعرفة مدى موافقتها للتصور
الإسلامي ثم محاولة استخراج ملامح للنظرية الإسلامية في علم النفس؟ هل قام
رموز التيار السلفي بدراسة هذه القضايا الملحة في الساحة اليوم، أم أنها إلى الآن
ليست من باب المفكَّر فيه؟
أما إن أردنا الحديث عن آخر النظريات الفلسفية والفكرية في العقود القليلة
الماضية، وآخر الدراسات والتحليلات للمجتمعات المعاصرة، والتطورات
الحضارية، والاستقراءات المستقبلية، كصراع الحضارات، ونهاية التاريخ،
وحوار الإسلام والغرب، وصراع الأيديولوجيا، والاختراق الثقافي ومسائل الهوية،
وكلها قضايا معقدة ومتشابكة وتحتاج إلى فهم متأنٍ واستيعاب عميق فإننا سنجد
دون شك أن غالب النُخب السلفية من علماء وطلبة علم وتربويين ومحاضرين
وغيرهم لم يسمعوا بتلك المصطلحات من قبل؛ فضلاً عن أن يكونوا درسوها
واستوعبوها. وإن كان قد سمعوا بها فقد لا يزيد الأمر في كثير من الأحيان عن
نظرة الازدراء والدونية لتلك السفسطات الفارغة التي لا تنفع المسلم في دنيا ولا
دين. كما قد يقال.
وفي الوقت الذي يتعاظم فيه دور المفكر على مستوى العالم يتضاءل دور
الحافظ والمتقن للمعلومات والكتب والأرقام، بسبب تطور تكنولوجيا الصناعة
وإنتاج أجهزة حفظ المعلومات ووسائل استرجاعها وطباعتها، والذي جعل أجهزة
حاسب صغيرة وبواسطة أقراص ممغنطة تستطيع حفظ عدد هائل من المعلومات قد
تفوق في كميتها المكتبات الضخمة، وقد خدمت هذه الأجهزة الجانب الشرعي كثيراً؛
إذ توجد اليوم أقراص ممغنطة تحوي أكثر من مائة وعشرين كتاباً في الحديث،
وأقراص أخرى جمعت الكثير من المسائل الشرعية وأقوال الفقهاء؛ مما جعل
الحصول على الحديث أو رأي الفقهاء في إحدى المسائل أمراً متيسراً بالقدر الذي لا
يتجاوز مجرد الضغط على عدد من الأزرار. والسنون حُبلى بتطورات كثيرة في
هذا المجال، وإن كنا نؤكد أن هذا لا يقلل بالضرورة من قيمة العالم ولا ينقص من
قدره. ولكن إذا أردنا أن نكون منصفين فإنه من دون شك يقلل كثيراً من قيمة
التوجه الحفظي للعلماء وطلبة العلم، ويزيد من قيمة القدرة على الاستنباط
واستخراج الأحكام وغيرها من العمليات التي تعتمد على العقل لا الذاكرة.
ولا أنسى الإشارة إلى أن هناك دون شك تداخلاً بين دائرة الأفكار ودائرة المعلومات،
وأن هناك مشتركات كثيرة في الوسط بين المسارين، ولكن تجدر الإشارة أيضاً
إلى أن هناك تبايناً كبيراً بين أطراف الدائرتين، لذلك نجد أصحاب التيار السلفي قد
يحيطون بهذه المشتركات، وقد يدخلون قليلاً إلى دائرة الأفكار، ولكنهم بالطبع لا
يوغلون في الدخول، ولا يصلون الأعماق.
النشء الذي لا يكبر:
ربما تكون من إشكاليات الذهنية السلفية والتي تتقاطع مع النقطة السابقة في
بعض الجوانب وتتفاوت في جوانب أخرى: النظر بتخوف وتوجس للتدفق الهائل
في المعلومات والأفكار في عالم اليوم، والخشية من تأثر النشء بها، هذا النشء
الذي قد يمتد عمره إلى قرابة الثلاثين وربما أكثر وهو غير قادر على الفرز
والقراءة النقدية، ويخشى عليه دائماً من التأثر حتى بأبسط الأفكار وأكثرها سطحية
وضحالة. أما الرموز وطلبة العلم والمربون فهم وحدهم القادرون على الفهم الواعي
للأفكار التي تطرح، والكشف عن مدى مخالفتها للشرع، وربما أحياناً الكشف عن
خبثها ومكرها والسموم التي تدسها من أجل التأثير على جيل النشء؛ ثم قد يُطرح
عدد من التساؤلات مثل: ما قيمة هذه الأفكار؟ وما وزنها؟ وما مقدار فائدتها
للشباب الناشئ؟ ! وإذا أشكل على الشباب شيء في معرفة سيرة مؤلف أو كنه
كتاب؛ فما عليه إلا أن يسأل أحد المهتمين من نفس التيار ليعطيه فتوى جاهزة
مقبولة في شأن ذلك الكتاب أو ذاك المؤلف؛ مما ينتج عنه أحياناً اختزال كبير
للأفكار في حدود مقولات مبتسرة لا تكشف فكراً ولا تروي ظمأً، فنجد أن عقولاً
ضخمة في الساحة الفكرية والثقافية أنتجت مشاريع ودراسات فكرية تحليلية رائدة،
يُختزل فكرها في أن فلاناً يرى في الجنة والنار كذا، وأن فلاناً يؤوِّل الصفات ولا
يثبتها، وغير ذلك من اختزال للأفكار الهادرة في قطرات قليلة وجمل مجتزأة،
وأبسط ما تحلل به كتابات هؤلاء أن يقال: إن فلاناً تأثر بالفكر القومي، وفلاناً
ماركسي سابق، وفلاناً يعاني من الاستلاب للغرب، وتكفي هذه المقولات لإسقاط
هذا المؤلف أو ذاك من قائمة الذين يستفاد منهم، فينشأ الشاب على أن فلاناً هو من
يرى كذا، وفلاناً هو من يرى كذا، ربما دون أن يرى غلاف كتاب لأحد هؤلاء
الذين تكلم عنهم فضلاً عن أن يكون قد قرأه.
وربما نكون في حاجة إلى التأكيد على أن التذكير بمخالفات أي كاتب ومفكر
خاصة في مجال الاعتقاد أمر مطلوب؛ ولكن ينبغي قبل ذلك إعطاء صورة واضحة
ومنصفة عن تلك الأطروحات أو الدراسات الرئيسة التي أنتجها هذا المؤلف. كما
أنه من المعلوم أن الشاب والقارئ السلفي في الجملة لا يأخذ عقيدته من ذلك النوع
من الكتب، مما يقلل من مقدار تخوفنا من الاستلاب والتأثر.
هذا السلوك في التعامل مع الأطروحات الفكرية والثقافية ربما ينتج في
المستقبل ردود أفعال تتفاوت في شدتها، مثل أن تقرأ بعض هذه الكتب في الخفاء
ودون علم المحيطين، مما قد يصيب بعضاً بردة فعل عنيفة، خاصة عندما
يستوعب تلك الأفكار والكتب، ويكتشف أنه كان يعيش فترة تغييب لعقله وازدراءً
لقدراته. وربما اتهم من كان معهم بالسطحية والضحالة وهشاشة الفكر، وممارسة
الوصاية على من دونهم، ومصادرتهم للرأي الآخر وتهميشه أياً كانت قوته وعمقه.
أذكر أن أحد الإخوة وهو يعمل مديراً لإحدى المدارس الثانوية الأهلية التقى
عدداً من أساتذة العلوم الشرعية المتقدمين للتوظيف، ودار بينهم حوار حول عدد
من القضايا الثقافية، فكان يقول: إنه فوجئ بالمستوى الثقافي المتدني جداً،
وبالبساطة والسطحية عند هؤلاء الأساتذة، مما جعلني أقول له: إن هؤلاء من
النشء الذي لا يكبر.
نعم النشء الذي يظل نشئاً لا يملك القدرة على الفرز والتقييم والفهم لأي طرح
ثقافي وفكري إذا لم يضع قدميه على طريق التطور نحو الأفضل والفهم والإدراك
للأطروحات الحديثة بشكل متزن ومتدرج، وإلا فسيكون أحد ضحايا النظرة السائدة
التي ترى أن أصحاب المرحلة الثانوية هم صغار من الصعب أن يستوعبوا تلك
القضايا «المعقدة» ! ! .. ومن هم في المرحلة الجامعية لا يملكون القدرة على
التمييز والفرز، وربما تشوش أفكارهم ويدخلون في إشكالات ومعتركات قبل
الأوان، والموظف وهو متزوج في الغالب لديه من هموم الحياة وطلب الرزق
والعمل الدعوي ما يصرفه عن الاهتمام والمتابعة، حتى إذا امتد العمر بذلك النشء،
كان في حقيقته لا يزال نشئاً لا يستطيع الدخول في عالم الفكر والثقافة دون تأثر؛
لأنه لا يملك آليات النقد والتقييم. وإن أراد الدخول فإن استعداده للتطور والاستفادة
يكون قد تقلص كثيراً؛ لأنه صار يملك عقلاً قد شكلته البيئة والتوجهات السائدة فيها
حتى صار أشبه بقطار يسير على سكة حديد لا يحيد عنها لا يميناً ولا شمالاً، ثم
في النهاية لا يزيد على أن يكون رقماً مفرداً قد ينفع فقط في تكثير السواد.
قد يقال: يكفي أن تنفر طائفة من المؤمنين بهذا الأمر دون الآخرين. وهذه
حقيقة دون شك؛ إذ من البداهة أن ذلك ليس مطلوباً من الجميع ولا حتى الغالب إذا
كنا نتحدث عن التخصص في هذا المجال والتعمق فيه، ولكن إذا كان الحديث عن
قضية الوعي والنضج في التعامل مع الآخر أياً كان، فلا أقل من أن تكون سمة
غالبة، ولا أعتقد أننا بذلك نطلب مستحيلاً. ثم في موضوع التخصص: أين هي
تلك الطائفة التي تكفي الآخرين هذا الأمر؟ ! هل هي موجودة فعلاً؟ أم لا نزال
في طور الإعداد والتنشئة؟ لأنه عند استقراء سريع للساحة الثقافية اليوم قد لا
تخرج بأكثر من أسماء تعد على أصابع اليدين إن تواضعنا كثيراً في شروط التقييم.
إن كنا نريد أن نقوم بواجبنا على هذا الصعيد، وأن نعد إجابات للأسئلة
النهضوية الملحة من واقع شريعتنا وبصفاء منهج السلف، فلا بد من إعادة النظر
بأساليبنا في التنشئة والتكوين، قبل أن تفد علينا إجابات من الخارج، ينشغل
مثقفونا في تفنيدها والرد عليها، دون أن نصنع من ثقافتنا شيئاً يلائم هذا الواقع
بمستحدثاته التي لا تتوقف.
المؤامرة.. المؤامرة:
قد لا تكون النظرة التآمرية صفة إسلامية بقدر ما هي عقدة عربية تجمع
غالب التوجهات والتيارات والأحزاب في عالمنا العربي، وتشكل نقطة محورية في
علاقاتها مع الغرب وطريقة التعامل معه، وهي نزعة تشكلت في صورتها الحدية
المعاصرة بعد سيطرة الاستعمار على العالم العربي، وما صاحبه من ظلم وطغيان
وتكميم للأفواه.
وبدءاً يجب أن نؤكد على قضية هي من المسلَّمات والثوابت في عقيدة المسلم،
ولكن التأكيد عليها قد يحد من الفهم الخاطئ لمضمون هذا الكلام ومقاصده وهي:
أن عداء الغرب للإسلام والتآمر عليه ومحاولة إضعافه هي مسألة عقيدة قبل أن
تكون مسألة فكر وتحدٍّ حضاري: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى
تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] (البقرة: ١٢٠) . ولكن من هو الذي يكره الإسلام في الغرب؟ هل
هم كل أفراد المجتمع؟ ! أم المؤسسات الحاكمة؟ وهل ما يحرك الغرب في علاقاته
مع العالم الإسلامي والعربي هو نزعته العدائية فقط؟ أم أن هناك مجموعة معقدة
وخطوطاً متداخلة في خريطة العلاقات السياسية. وهناك مصالح وموازين قوى،
ربما تجعل الغرب في ظروف معينة يدعم الحركات الإسلامية ولو معنوياً كما حصل
في أفغانستان، وهذا ما لا يتصوره بعضهم، والتي تجعل المسلمين الذين يعيشون
في الغرب أكثر حرية في إقامة شعائرهم وعباداتهم وبناء مساجدهم ومراكزهم، بل
وفي دعوتهم للإسلام لأفراد تلك المجتمعات، واستخدام بعض الوسائل الإعلامية
الرسمية، فضلاً عن الحرية في تنفيذ وإصدار أي وسيلة إعلامية خاصة، وهذا ما
لا يحصل قطعاً في معظم الدول الإسلامية إن لم يكن في جميعها.
لذلك فمع إيماننا بهذا العداء، إلا أن المسألة لا تحسم بوصفات وفتاوى جاهزة
ومبسطة، بل تحتاج إلى تصور واقعي وسياسي ومصلحي، يضاف إلى تصورنا
العقدي المستقر في النفوس، حتى نصل إلى صورة أقرب للحقيقة لهذه اللحظة
التاريخية المعقدة من عمر العالم.
إننا نجد أن الأجيال الإسلامية الشابة في معظمها تربى اليوم على نزعة
تآمرية حادة تفسر بها كل الظواهر المعادية للإسلاميين والمتدينين، وتضع كل
المعادين في سلة واحدة، وتحشدهم في جبهة موحدة هدفها ضربهم والقضاء عليهم،
حتى إننا نساهم في رسم صورة ذهنية سطحية لدى الناشئة مفادها: أن كل هؤلاء
العلمانيين بكل ما يحمله هذا المصطلح من تعميم يشمل: الليبراليين والشيوعيين
والبعثيين والقوميين والمنحلين خلقياً أن كل هؤلاء هم ببساطة عملاء للغرب سواء
بشكل مباشر أو غير مباشر، ويُدعمون منه مادياً ومعنوياً، وأن هدفهم الوحيد هو
القضاء على المتدينين، ومن ثم القضاء على الإسلام؛ مما قد يرسم صورة
كاريكاتيرية في أذهان بعض الناشئة تجعلهم يتخيلون أشكال هؤلاء المتآمرين وهم
يجتمعون في سراديب مظلمة، حيث تنبت لهم قرون التآمر، وتتسع العيون وتزداد
حدتها، وهذه الصورة وإن بدت مضحكة إلا أنها نتاج طبيعي للخطاب التعبوي
واللغة العاطفية التحريضية، وتوجيه الرأي العام الإسلامي الذي تمارسه بعض
رموز الصحوة في كل طرح جماهيري، ضد كل من يحمل توجهات مخالفة للتيار
الإسلامي، وربما يتكرر الاستشهاد ببروتوكولات حكماء صهيون، حتى ترسم في
ذهنياتنا الصياغة المثلى لتوصيات المتآمرين في اجتماعاتهم ومؤتمراتهم.
إن طرحاً بهذا التوجيه له دون شك انعكاسات خطيرة على ذهنية الشباب
المتدين؛ حيث يساهم في تشكيل عقليات مسطحة وحدية، تتعامل مع ظواهر الحياة
وتفاصيلها ببساطة مفرطة، وتبني خوفاً من هذا الجيش العارم والمنظم تنظيماً دقيقاً
من العملاء والمنافقين والحاقدين في الداخل، وأسيادهم الذين يدعمونهم في الخارج،
وتبني عداءاً ليس فقط لكل من له انتماءات أيديولوجية أخرى، بل ربما لكل من
يشك في ولائه للتيار المتدين بكل مواقفه وأطروحاته، حتى يغدو من الصعب
تصور أن العدو رقم واحد للماركسيين في العقود الماضية كانت الليبرالية
الأرستقراطية، لا التيار الإسلامي وإن وقف في الخانة الثانية، وأن ألد أعداء
القوميين والبعثيين هو الغرب المستعمر وعملاؤه في الداخل، لا التيار الإسلامي
وإن وقف أيضاً في خانة العداء.
هذا التفسير التآمري للظواهر والأحداث الحياتية ربما أخذ منحىً آخر، هو
محاولة التصدي والاستعداء لكل المستحدثات العلمية الحديثة ذات الطابع الإعلامي
والجماهيري، والتي هي نتاج تطور تقني محض، وجعلها وكأنها لم تصنع ولم
توجد إلا لمحاربة الإسلام ولصرف الشباب المسلم عن دينه؛ حيث ما زلنا نسمع
من يطالب بتقليص انتشار الإنترنت وإغلاق المقاهي المخصصة له؛ لأنها قد
تستخدم في العبث المحرم، دون مجرد التفكير في إيجاد بدائل وحلول، ولأن
التاريخ يعيد نفسه، فقد كان الطرح الإسلامي قبل عدد من العقود هو محاربة
المجلات والإذاعات والتلفاز بعموم، أما اليوم وبعد أن صارت تلك المستحدثات
واقعاً مفروضاً، ووجدت بدائل إسلامية، صار الطرح مختلفاً؛ فليس كل المجلات
تحارَب لأن هناك مجلات إسلامية نافعة، وليس كل الإذاعات سيئة؛ لأن هناك
إذاعات مفيدة وتخدم الدين، وليس التلفاز بعمومه حراماً؛ لأنه قد يحوي برامج
إسلامية جيدة ومفيدة، ومع أن هذا يمثل اليوم وعياً، إلا أنه وعي متأخر ينطبق
عليه المثل الذي يقول: «حكيم بعد الحادث» .
لعل من أسباب هذا التفسير التآمري غياب التصور الصحيح للخريطة
الأيديولوجية في العالم العربي أثناء القرن الأخير وفي العقود القليلة الماضية،
وطبيعة المتغيرات التي حصلت، وطريقة نشوء الأفكار وانتشارها، وتأثر
الضعيف بالقوي، واستلاب المغلوب للغالب كما وصفه ابن خلدون في المقدمة الذي
ساهم في تشكيل جيل يحمل مبادئ الغالب شرقياً كان أم غربياً، لا بطريقة تآمرية
نفاقية بل بقناعة حقيقية تنتج أحياناً عن إخلاص وصدق وحب للمجتمع والأمة،
وإن كان ظل بهذا السبيل، بل ربما كانت هذه المبادئ والأيديولوجيات نتاج البيئة
العربية المحضة في إحدى مراحل الضعف، كما هو الحال بالنسبة للقومية العربية
والبعث العربي، اللذين يقومان في أساسهما على بث الروح العربية الوحدوية في
أرجاء العالم العربي.
إننا نضيع وقتاً في الانشغال المستمر في محاولة تقصي المؤامرات والتصدي
لها وفضحها، مما قد يسبب ضياع كثير من الجهود على حساب بنائنا الداخلي
وتكوينه الثقافي الذي يجب أن يعد لمواجهة متغير لا يكاد يتوقف، وزرع الوعي
المبكر في عقول الأجيال، ومد الجسور بوعي وبصيرة لأقرب التوجهات
والأيديولوجيات المعاصرة، وبناء تحالفات تكتيكية لخدمة الأهداف المشتركة.
وفي آخر هذه السطور التي لا تعدو أن تكون إشارات مقتضبة لقضايا تحتاج الكثير
من الحوار والنقاش، أرجو أن تكون معالم هذه الأفكار قد اتضحت وتجلت وإن كان
بشكل مختصر ومتعجل؛ لأنني أعوِّل كثيراً على قدرتنا في مراجعة مواقفنا
وتصوراتنا، وعلى النقد الذاتي المتبصر لمسيرتنا وواقعنا، وإن كان هذا النقد لا
يصفو في بداياته من أخطاء.
بقي أن أشير إلى أن هناك تطوراً واضحاً في صفوف التيار السلفي إذا ما
قورن بالعقود الماضية، ووعياً متزايداً يبشر بارتفاع مستمر لمؤشر القياس، مما
يدعونا إلى مزيد من الوقفات والمراجعات تجنبنا الوقوع في نفس الأخطاء التي
وقعنا فيها سابقاً، ومن أجل ألا يكون تاريخنا الذي يعيد نفسه إلا ذلك الذي يحمل
النجاح والتقدم والإبداع.