المقاومة والتطبيع من يهمش الآخر؟!
أمير سعيد
حينما كانت الجيوش العربية تشد رحالها ميممة شطر فلسطين في عام ١٩٤٧م، كان العديد من القادة العسكريين المخلصين يدركون حجم الخطيئة التي ارتكبتها القيادات السياسية يومئذٍ بحق هذه الجيوش وبحق فلسطين ومقدساتها.
كان بعضهم يستشعر خيانات سياسية وعسكرية في الجانب العربي. أما الجانب الصهيوني فكان يبدو متماسكاً قوياً إلى حد بعيد.
لم يكن الجندي المسلم العربي البسيط مطمئناً لقيادة (جلوب باشا) الإنجليزي للجيوش العربية؛ مثلما لم يكن بعض القادة العسكريين مطمئنين لقيادته للجيش الأردني على الأقل.
الطيور العربية لم يكن أي منها يغرد خارج السرب، ذاك السرب لم يكن موجوداً بالأساس؛ فبينما الجيش المصري كان محاصراً بالفالوجا كان الأردن يقدم اللد والرملة غضتين للاحتلال، وبينما كان المتطوعون الفلسطينيون والمصريون والسودانيون يتقدمون كان الجيش العراقي يتقهقر، لم يكن هذا يدري بذاك، وكانت الهزيمة، لا بل النكبة التي يعزوها الخبراء مجتمعين إلى ضعف التنسيق، وتباين التوجهات لدى القادة السياسيين للبلاد العربية، وافتقار العرب إلى قيادة عسكرية موحدة جادة وقادرة على التخطيط، والتنسيق والإشراف على العمليات العسكرية، علاوة على التسليح الضعيف، والخيانات المترادفة.
عشرات السنين مضت على هذه النكبة، تعاقبت فيها الأحداث، وتنوعت تلك التجارب التي عركت الفلسطيني المناضل، وصيرته موسوعة نضال؛ خلص بتمامها إلى مفهوم نضالي سديد: «شركاء الدم، شركاء القرار» .
من هذا المنطلق، كانت الحاجة ملحة للتنسيق داخل الصف الفلسطيني بعدما أدرك الجميع في الداخل أن لا سرب عربياً يغردون فيه في الداخل. كما أن في الخارج مناضلين مزيفين وتجار قضية، لكن المعركة الحقيقية يدرك المناضلون الحقيقيون أنها ليست بين الفلسطينيين أنفسهم.
في الواقع هناك محددات باتت تحكم القضية الفلسطينية الآن، لم يكن بمقدور أصحاب القضية القفز عليها:
الأول: دولي: ويعني الضغوط الأمريكية والأوروبية التي تمارس ضد الفصائل الفلسطينية بطريقتين: مباشرة، وغير مباشرة:
الطريقة المباشرة: هي تلك التي تمخض عنها وضع جملة الفصائل الفلسطينية في لائحة المنظمات الإرهابية، سواء في الولايات المتحدة أو أوروبا.
الطريقة غير المباشرة: عبر توكيل الدول العربية نيابة عن الغرب بخنق الفصائل المقاومة سياسياً وعسكرياً، ونفض أيديها عنها؛ بغية قطع أي مدد (لوجيستي) قد يطيل مدد المقاومة، وهو ـ للتذكرة فقط ـ ما كانت تمارسه بريطانيا بالأصالة عن نفسها إبان حرب فلسطين المشار إليها، حين كانت تحول دون تسليح العرب، وتترك الباب مشرعاً أمام تسليح الصهاينة.
الثاني: إقليمي: وهو نتاج الأول، غير أن الجهود التي كانت تسعى للحد من غلوائه قد تهاوت تحت المطرقة الأمريكية الثقيلة، وبات من الصعب تجاوز تأثير هذه المطرقة بكل اندفاعها في البطش.
الثالث: محلي: وفيه عدة متغيرات: إحداها: مقتل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، وغياب تأثير الرجل عن بسط هيمنتها على الأحداث، وتبعثر عناصر القيادة الفلسطينية في أيدي بعض الأقوياء نفوذاً. وثانيها: نتائج انتفاضة الأقصى حتى الآن، ومدى إمكانية البناء على انتصاراتها أو خسائرها. وثالثها: الاضطراب الحادث على الصعيد الفتحاوي، والذي تفيد منه الفصائل الإسلامية خصوصاً.
هذه المحددات الثلاثة أدت بملف التطبيع إلى أن يعود فارضاً نفسه بقوة على طاولة العرب والصهاينة على حد سواء، حتى قبل أن تنعقد شرم الشيخ، أو يطرح الأردن ورقته الداعية للتطبيع في قمة الجزائر الأخيرة؛ فسياسياً واقتصادياً قد غدت ١٢ دولة عربية بطريق التطبيع من وراء حجب الحياء المصطنع. أما في الداخل الفلسطيني فقد طرحت ورقة أدنى إثارة للجدل، وهي ورقة «التهدئة» ، وهي ورقة بدت محل إجماع من جميع الأطراف لأول مرة منذ بداية النزاع.
الولايات المتحدة الأمريكية: نظرت للتهدئة من منظور كونها ضرورة الظرف وواجب الوقت؛ فالدولة العظمى التي تعاني متاعب جمة في العراق لا ترى غضاضة في إشاحة وجهها عن «إرهاب» حماس مؤقتاً، وتشجيعها على المضي قدماً ففي التعاطي الإيجابي مع «التهدئة» ؛ فالولايات المتحدة ترى المعركة في فلسطين معركتها تماماً، مثلما تراها في العراق، ومهما رفعت أنفها في السماء بالادعاء بقدرتها على خوض معركتين في آن واحد؛ فإنها تراغمه وقت الكريهة، وهي تنظر للأحداث على نحو أوضح مما تراه تل أبيب؛ فخلافاً لنظرة الكيان الصهيوني القريبة؛ فإن واشنطن تنظر من البؤرة البعيدة، وتلك الأكثر وضوحاً، والأكثر قدرة كذلك على تحريك شرم الشيخ وعمان من «إسرائيل» القريبة.
والولايات المتحدة ـ بنظرة استراتيجية ثاقبة ـ تعتبر أن الظرف الدولي والإقليمي والمحلي في صالحها «تطبيعياً» ، وليس كذلك إذا ما وضعت جيشها الصهيوني أمام المقاومة الفلسطينية، والحكمة تقتضي اتباع السبيل الأقصر للوصول للمراد.
والولايات المتحدة الأمريكية التي كلت جفونها من طول إغماضها عن جرائم الصهاينة بحق الفلسطينيين، من دون أن يفلح شارون في إنجازها في الموعد المحدد الذي ضربه بنفسه (١٠٠ يوم جاوزت الألف حتى الآن) لا تستطيع الاستمرار طويلاً، وهي ترى الأحداث لا تصب ماءها في الجدول الصهيوني.
و «إسرائيل» التي تحصي: ١٠٠١ قتيل، ٦٣٥٨ جريحاً ـ وفقاً للأرقام «الإسرائيلية» المبتسرة ـ بفعل انتفاضة الأقصى، قتلت منهم عدوتها اللدود (حركة حماس) وحدها ٤٦٥ بنسبة ٤٦.٥% من عدد من لقوا حتفهم من الصهاينة، لا تجد نفسها في وارد المخاطرة بأرواح آخرين، لا سيما وقد خلفت تلك الانتفاضة انتكاسات اقتصادية صهيونية لافتة؛ فقد شهد الاقتصاد الصهيوني انخفاضاً حاداً في حجم الاستثمارات المحلية والأجنبية التي تراجعت من ٤٩٨٨ مليون دولار عام ٢٠٠٠م إلى ١٦٤٨ مليوناً عام ٢٠٠٢م بنسبة تراجع قدرها ٥٣.٢%، وانكمشت الاستثمارات المباشرة للأجانب في الاقتصاد «الإسرائيلي» بنسبة ٨٠% في عام ٢٠٠٤م (عام الهدوء النسبي!!) عن العام السابق له وفقاً لـ (سيفر بلوتسكر) الخبير الاقتصادي الصهيوني (معاريف ٧/٢/٢٠٠٥م) لتبلغ مستواها الأدنى منذ ٩ سنوات، كما أن الاستثمارات «الإسرائيلية» رغم الهدوء النسبي تضخمت في الخارج (٢.٨ مليار دولار) بنسبة ٥٥%، وبلغ تقهقر الاقتصاد الصهيوني نتاج هجرة المال «الإسرائيلي» وغياب الأجنبي حد الملياري دولار في عام الهدوء الأخير.
كل هذه المعطيات ومثيلاتها العسكرية التي تشهد هي الأخرى تطوراً هائلاً على الصعيد الفلسطيني، خاصة لدى كتائب عز الدين القسام التي لا يفتأ مهندسو حركتها العسكرية النشطة يفاجئون العقلية العسكرية الصهيونية بكل جديد.
و «إسرائيل» التي ـ نعم ـ قتلت عرفات أدركت متأخرة أنها قد أسدت «معروفاً كاريزمياً» ـ سحرياً ـ لزعماء حماس، وأسهمت في القفز بشعبية الحركة، وهي ربما أدركت بعد فوات الأوان أن سم عرفات لم يكافئ صاروخ ياسين؛ من حيث الوقع النفسي على أفراد الشعب الفلسطيني.
«إسرائيل» تدرك أن الظرف الإقليمي في صالحها تماماً؛ فسوريا ربما تكون مشغولة بالهم اللبناني الآن أكثر من الهم السوري، وهي قد انصاعت للضغوط بشأن الوجود الإعلامي والسياسي لقادة الفصائل الفلسطينية، ومصر تعاني من عدة مشاكل لعل أهمها الاستحقاقات الرئاسية والنيابية، والأردن قائم بدوره في طرح المبادرة التطبيعية، والعراق قد كفي مؤنته أمريكياً، غير أن كل هذا لا ينفي أن خطة المائة يوم التي أعلنها شارون قد باءت بالإخفاق، وأن سنوات حكمه تنقرض دونما إنجاز حقيقي سوى نجاحه في تغييب شيخٍ مقعدٍ من معادلة الصراع، ووضع «إسرائيل» داخل سجن الجدار الأمني.
ولذا، فلم تكن ضحكات شارون في شرم الشيخ عاكسة فرحته فقط بمصافحة أيدي الزعماء العرب، بعد أن تلطخت من قبل بدم الشيخ ياسين رحمه الله، ونيله تطبيعاً عربياً بلا ثمن وهرولة بغير هدى، وإنما تعكس شعوراً بخيبة أمل كبيرة؛ لأن هؤلاء لم يصافحوه ـ كما كان يرجو من قبل ـ نتيجة لتسليمهم بانتصاراته، بل نتيجة لضغوطات أمريكية لو لم تكن موجودة لما صافحه أحد.
وأبو مازن وفريقه يدرك من ناحيته حاجته الملحة للتهدئة، وإلى استرضاء عدوه اللدود (حماس) ؛ من أجل تحقيق هدنة أو قريب من هدنة تحفظ له كرسيه المهدد بالنسف في حال استمرار المقاومة، سواء على صعيد العلاقة مع الكيان الصهيوني، أو على الصعيد الفتحاوي الداخلي، وهو لا يريد أن يدخل نفق عرفات، ومن ثم فهو معني بلملمة الأطراف كلها، واسترضاء الجميع للدخول في لعبة التهدئة التي يريد لها أن تستحيل تطبيعاً للعلاقات بمرور الوقت.
أما حماس وخلفها الفصائل الرافضة لأوسلو، فمعطياتها مختلفة؛ لكنها تؤدي النتيجة نفسها التي يريدها أبو مازن، على الأقل من الناحية الشكلية.
هذه الفصائل تدرك أن فاتورة الانتفاضة ليست يسيرة؛ (إلى الآن أكثر من ٤٠٠٠ شهيد سدسهم من الأطفال، وأكثر من ٦٦ ألفاً من المكلومين) ، خلافاً للخسائر الاقتصادية الباهظة، إلا أنها تفهم أن هذا ليس ثمناً باهظاً، إذا قورن بما يألمه العدو في المقابل، وإذا ما قيس بحجم المكتسبات التي تحققت من ورائه.
والفصائل تبدو غير ماضية في التطبيع، وليس مطروحاً على أجندتها؛ بيد أنها غير رافضة للتهدئة، وهذه رؤيتها كما نفهم من أدبيات (حماس) كممثلة للفصائل المقاومة.
ü رؤية الفصائل الفلسطينية لقضيتي التهدئة والتطبيع:
في نقاط محددة يمكن أن نعرض لرؤية حماس للمرحلة القادمة، وموقفها من المقاومة والتطبيع على طرفي نفيض:
- حركة حماس لا ترى الآن أن الظرف الإقليمي في صالحها، اللهم إلا شلل الولايات المتحدة في العراق، وهو ما يمكن أن يكون ظرفاً دولياً أكثر من أن يكون إقليمياً، وهي تفهم جيداً المتاعب التي يلقاها قادة (حماس) في الخارج، وتحركهم غير الآمن في أكثر من عاصمة عربية، وما قد يجره ذلك على الحركة من احتمالية فقد أبرز أدمغتها في الخارج؛ فسوريا لم تعد آمنة لا سياسياً، بعد تكاثر الضغوط عليها، وتحديد إغلاق مكاتب المنظمات الفلسطينية: باعتباره أحد المطالب الأمريكية الثلاثة لنيل رضاها، ولا استخبارياً بعد محاولات الاغتيال الناجحة منها والمحبطة في العاصمة السورية لقادة حماس وعناصرها. وفي الأردن كذلك مرت الحركة فيه بالظروف عينها، وإنْ كان ذلك في مرحلة مبكرة، ولبنان تكاد تصفّى من الوجود السوري بما وفره من مظلة سياسية واستخبارية، ظلت تحمي قادة المنظمات ـ باعتبارهم ورقة للمساومة في قبضة السلطات السورية ـ من الطرد أو الاغتيال، والسودان أضحى تحت السيطرة تماماً، وإيران التي تمارس الولايات المتحدة ضغطاً نووياً عليها لا تريد أن تكون قاعدة انطلاق لحماس وغيرها من الفصائل، بعدما سلمت إيران من قَبْلُ قيادات الجماعة الإسلامية والجهاد إلى مصر، وبالتأكيد يفهم (خالد مشعل) ورفاقه أنهم حين يقيمون في قطر فإنهم يقيمون إلى جوار قاعدة العديد الأمريكية، ولن تكون تلك أرأف حالاً بهم من شارون.
- وتتفهم حماس بشدة المعاناة التي يحياها الفلسطينيون بسبب العدوان الصهيوني الذي تناوئه انتفاضة الأقصى؛ وإذ تشارك في الحكم حتى الآن عبر المحليات فإنها تريد أن تضع بلسماً إنسانياً على جروح المكلومين، وتوفر سبل العيش للمحرومين، وهذا بدوره يستدعي تهدئة، وليس بالضرورة تطبيعاً.
- وحماس تريد بذكاء أن تستثمر الشعبية الجارفة التي توافرت لها في تثبيت واقع لها على أرض السياسة، حين يتحدث الرسميون عن هذه الحركة التي تحظى بـ «نسبة كذا» من تمثيل الشعب الفلسطيني وهو ما يفرضها رقماً لا يتجاوزه من أراد حلاً حقيقياً للمعضلة الفلسطينية، لكن صناع القرار في حماس يدركون أيضاً أن هذه الشعبية التي عبر عنها اكتساح (حماس) لانتخابات غزة وفوزها في الضفة؛ لم تتوافر (لحماس) بسبب «المفاوضات» أو الذكاء السياسي فحسب، وإنما هذا الفوز الكبير كما قال الدكتور أحمد بحر، الكاتب والقيادي بحماس: لم يكن إلا ببركة دماء وأشلاء الشهداء، وعلى رأسهم شيخ الأمة الشهيد أحمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي، وآلاف الشهداء من أبناء شعبنا الصابر، وبسبب صواريخ القسام التي أقضت مضاجع العدو، وبالتفاف شعبنا حول المقاومة واحتضانه للمجاهدين، ووقوف الكثير من المخلصين من أبناء الأمة العربية والإسلامية مادياً ومعنوياً، والفضل أولاً وأخيراً لله ـ سبحانه ـ الذي أكرم الحركة الإسلامية وشعبنا الفلسطيني بهذا الفوز العظيم. لقد كان هذا الفوز نعمة من الله ـ عز وجل ـ يجب أن يزيدنا ذلة وتواضعاً وخشوعاً لله سبحانه» .
- وحماس تقرأ الواقع بعدسة غير تلك التي نظرت بها إبان أوسلو، لا بل تعتبر أن مشاركتها في اللعبة الانتخابية ينسف أوسلو أو ما تبقى منها. يقول الدكتور (محمد غزال) عضو القيادة السياسية لحركة المقاومة الإسلامية في مؤتمر صحفي أجرته الحركة في مدينة نابلس قبل أسابيع للإعلان عن مشاركتها في الانتخابات النيابية المزمعة في يوليو القادم: «إن انتفاضة الأقصى تجاوزت اتفاقية أوسلو، وأصبحت الأوضاع محكومة بمجموعة من الوقائع السياسية المختلفة، ننطلق في قرارنا مما أوجدته الانتفاضة من التفاف حول المقاومة» . وقد أكد المعنى عينه عضو القيادة السياسية للحركة الدكتور محمود الزهار في برنامج (أكثر من رأي) بقناة الجزيرة في يوم الجمعة ١٨/٣/٢٠٠٥م وهو أن «دخول حماس للمجلس التشريعي سوف يقضي على أوسلو تماماً» .
- وحماس تتبع استراتيجية يدعوها الأستاذ خالد مشعل بـ «التيئيس» ، وبرغم كون القيادي البارز قد تحدث عنها في سياق عسكري بحت؛ فإنها تبدو إحدى لوازم تحركات حماس الآن، (ربما الأمثلة لدينا في استغلال كل ثغرة لدى العدو ضيقت سبيل التفجيرات الفدائية، بفعل الجدار؛ فأمسى الجدار مؤمِّناً لحدٍ ما من الصواريخ، وإلى استهداف الدوريات والأبراج العسكرية، وسعت عدة جهات لجر حماس إلى «قفص التفاوض» فجرتهم إلى وثيقة مشتركة (وثيقة القاهرة الأخيرة) . منح شارون نفسه مهلة للاستراحة؛ فاستثمرتها حماس بلدياً ونيابياً وحتى عسكرياً) ، وعن ذلك يقول الأستاذ مشعل: «قضية مهمة أسمّيها تيئيس الأعداء من أن ينجح خيارهم العسكري والأمني؛ هذه النقطة التي نراهن عليها، نحن لا نراهن على اعتدال ميزان القوى بيننا وبين عدونا اليوم، نحن نراهن أن نيئّس أعداءنا من أن قوّتهم العظمى المتفوقة لن تقهرنا، ولن تكسر إرادتنا، ولن تفرض الهزيمة علينا، هذا التيئيس أمر ضروري وصدق الله {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ} [المائدة: ٣] ، وإذا وصلنا إلى لحظة التيئيس، فإنها اللحظة الحرجة التي تتقهقر بعدها قوى الأعداء. تخيّلوا الذين وضعوا حماس على قائمة الإرهاب ومنهم الأوروبيون؛ فعلوا ذلك استجابة للضغط الأميركي، ونفاقاً للصهاينة، على الرغم من عدم قناعتهم، تخيّلوا أنهم يضعون حماس على قائمة الإرهاب وهم يتصلون بها ويحاورونها، بل إن الأمريكان يسعون للحوار معنا بطرق مختلفة، كيف تحاورون إرهابيين؟! إنه التيئيس! لقد قالها أكثر من أوروبي، وأحدهم قال ـ كما سمعت في قطر ـ: لا حل في فلسطين دون حركة حماس» .
- فوق هذا وذاك، فإن حماس تتوقع انسداد الأفق السياسي أمام أبي مازن ومن ثم عودته ـ كما جرى لسلفه عرفات ـ خالي الوفاض من دائرة التفاوض الفارغة، والتي لن ترضى عن انجرافها بشدة ضد تطلعات الشعب الفلسطيني قوى وطنية داخل فتح ذاتها، مما يجعل الأمور تسير نحو عودة التصعيد العسكري إلى وتيرته الأولى، وساعتئذ تكون حماس قد حققت بعض المكتسبات على الأرض وعلى الصعيد السياسي، وتكون قد أعذرت إلى شعبها بإفساحها المجال أمام أصحاب الحلول السلمية أن يجروا مفاوضاتهم الماراثونية دونما ضجيج. وإذن فقد تكون الحركة مراهنة على الانسداد السياسي في مسيرة يشارك الساسة الفلسطينيون فيها (آرييل شارون) أشهر جزاري العصر.
- وبرغم نفي الدكتور (غزال) القيادي بحماس لإعلانها المشاركة في الاستحقاق النيابي على خلفية الاضطرابات البادية بقوة في الصف الفتحاوي؛ فإنها تبدو مقتنعة بأن هذه فرصتها الكبرى لاقتناص نسبة عالية من المجلس التشريعي الفلسطيني، يمكنها تالياً لطلب انضمامها لمنظمة التحرير الفلسطينية وفقاً لأرضية جديدة، ومن ثم تثبيت هذا الوضع دولياً وعربياً، ربما لفترة طويلة. ولا شك أن الحركة صادقة في نفيها ذلك؛ لاعتبار أنها أقدمت على دخول معترك الانتخابات البلدية قبل أن تستعر الخلافات داخل فتح، غير أنها تبدو متفهمة جيداً لمزاج الشعب الفلسطيني، حتى قبل هذه الخلافات والذي عبر عنه نجاحها في أكثر المناطق تعرضاً للبطش الصهيوني واجتياحاته: كـ (بيت حانون) وغيرها المتعرضة على الدوام لانتقام جنود شارون؛ لانطلاق سيل الصواريخ القسامية منها على بلدة سيديروت، هذا المزاج الذي لا يخطئ أيضاً ما يفوح من رائحة الفساد السلطوية التي أزكمت الأنوف، وغدت معها حديث الأطفال في الشوارع.
- وحركة حماس برغم أسفها على غياب عرفات، تستوعب تأثير ذلك على شعبية فتح، وغياب (الكاريزما) سحر الشخصية التي كانت تضفي على حركة فتح بُعداً رابعاً؛ بما لا يمكن إنكاره، وتفهم أن الخيار الشعبي قد استقام لها بعد أن قتلت «إسرائيل» عرفات الحاصل على جائزة نوبل، والذي كان يصافح بيريز بكل ودّ في مرات عديدة؛ في الوقت ذاته الذي قتلت فيه الشيخ ياسين الذي لم تتلوث يده بمصافحة الأعداء، والذي لن تخطئه عين أي مواطن حاذق يرى السبيل للتعايش مع الصهاينة درباً من دروب الخيال غير العلمي لا ترقى إليه سوى عقول أصحاب «الخيار الاستراتيجي» .
- وحركة حماس المنحدرة من أصول إخوانية لا تشذ عن فكر الإخوان الذي يؤكده الشعار الإخواني المصري: «مشاركة لا مغالبة» ، والذي استطاعت معه الحركة الأم انتزاع بعض المكتسبات السياسية من خصومها من دون أن تمنحهم فرصة «المغالبة» السياسية التي قد تجر في حالة مثل فلسطين إلى الاحتراب الداخلي، وهو ما أكده الدكتور غزال حين قال: «إن الحركة تسعى لتأسيس علاقة شراكة لا هيمنة» .
- وحماس التي تدرك حق العسكريين في المشاركة بالقرار السياسي لم يفتها أن تؤكد على شمولية شوريتها في قرار الانخراط في اللعبة الانتخابية النيابية، وحرصت على التشديد على مشاركة الأسرى كذلك في التحضير لهذا القرار.
ü الدول العربية بين التطبيع والمقاومة:
بطبيعة الحال حزمت الدول العربية أمرها حين انحازت لـ «الخيار الاستراتيجي» (السلام والتطبيع) ، غير أنها كانت معنية بعدم فقدان آخر أوراقها التي تتعامل بها مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهي ورقة التأثير على المقاومة، أو إمكانية ممارسة الضغط عليها، ومن هنا كان سحب هذه الورقة من يد سوريا إضعافاً شديداً لها، وكانت المفارقة أن حماس التي ترعرعت بالقرب من جماعة الإخوان في مصر (الثقل الكبير لحماس في غزة، ذاك القطاع الذي كان خاضعاً للإدارة المصرية لمدة طويلة قبل عقود، ومن ثم نبتت حماس من تربة إخوانية كانت غير بعيدة عن إخوان القاهرة إبان الخمسينيات والستينيات) ، غدت ورقة في يد الحكومة المصرية بعدما ابتعدت السلطة الفلسطينية عنها قليلاً بعد غياب الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، (ولا نعني بورقة أنها أداة بل تبادلية العلاقة بين الطرفين) ، وحيث يمضي قطار التطبيع سريعاً تجد بعض الدول نفسها راغبة في كبح جوامحه لاستخدامها في إبطاء عجلة التغيير الأمريكي المفروض من الخارج، وتجد دول أخرى نفسها عازمة على تسريعه، حتى لا يدعسها قطار آخر هو قطار «الإصلاح» .
ومن ثَمَّ تجد فصائل المقاومة نفسها في مأزق، كلما وجدت الدول العربية تهرول باتجاه الكيان الصهيوني غير عابئة بما تجره هذه الهرولة من تنسيق أمني عالٍ مع الكيان الصهيوني في المجال الأمني والاستخباري فيه خصوصاً مما يضرها أكثر مما ينفعها، والذي بدوره يقطع كثيراً من طرق الإمداد للمقاومة الفلسطينية، سواء العسكرية أو التموينية، كما يلاشي مساحة الوجود الفصائلية على التراب العربي، ومن ثم يقطع سبيل التواصل بين الخارج والداخل للفصائل الفلسطينية.
والدول العربية ليست الأسعد حالاً من الفصائل بهذا التطبيع الأمني والاستخباري، وحتى الاقتصادي مع العدو الصهيوني؛ حيث يجردها من أي قيمة تفاوضية يمكن أن تتراجع بالتفريط فيها مستقبلاً، وهذا سيسيل لعاب «إسرائيل» لمزيد من المكتسبات التي تجعلها تمتطي ظهور العرب واحداً تلو الآخر.
ü المقاومة بين التطبيع والتهدئة:
هناك للأسف من يخلط بين مصطلحي (التطبيع) الذي تمارسه الدول العربية، والتهدئة التي تمارسها الفصائل المناضلة في فلسطين، وحتى يتم تحرير هذين المصطلحين في الأذهان نورد بعضاً من أدبيات حركة حماس بهذا الصدد، والتي تزاحمت نصوصها في أعقاب إعلان حركة حماس عن عزمها خوض الانتخابات النيابية في مناطق السلطة الفلسطينية: «حماس لن تتحول إلى حزب سياسي؛ لأنها أصلاً تتعاطى مع السياسة ضمن رؤيتها الشاملة معتبراً أن البندقية غير المسيَّسة هي بندقية حمقاء» . (د. محمود الزهار/ قناة الجزيرة) . «كل عدوان عسكري لا يكتفي بالعسكرة، وإنما يستصحب معه أشكالاً أخرى وهذا يعطينا مساحة واسعة لمقاومة هذه الأشكال من العدوان؛ فكما يستصحب العدوان أشكالاً أخرى؛ فعلى الأمة أن تستصحب أشكالاً من المقاومة، وعند ذلك تنتصر الشعوب المحتلة. بل لعلّي أقول من واقع تجربتنا في فلسطين: إن الذين يمارسون المقاومة في الشعب الواحد ومستلزماتها هم شريحة محدودة في الشعب، فليس كل الشعب يقاوم، وإن كانت روح وثقافة وإرادة المقاومة متوفرة، ولكن الذي يمارس المقاومة بنفسه أو مستلزماتها يبدون شريحة محدودة؛ فماذا تفعل شرائح الشعب الأخرى؟ عليها أن تقاوم بأشكال مقاومة أخرى» . (خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في كلمة ألقاها بقطر، ضمن فعاليات المؤتمر التأسيسي لمقاومة العدوان الشهر الماضي) ، «إن انتفاضة الأقصى تجاوزت اتفاقية أوسلو، وأصبحت الأوضاع محكومة بمجموعة من الوقائع السياسية المختلفة ـ وأضاف قائلاً ـ: ننطلق في قرارنا مما أوجدته الانتفاضة من التفاف حول المقاومة» (الدكتور غزال عضو القيادة السياسية لحماس في مؤتمر نابلس الصحفي) . «المفاوضات ليس حراماً ولكن السؤال على ماذا وكيف نتفاوض» (الدكتور محمود الزهار) .
وهذا وإن كان يعطي انطباعاً دقيقاً حول تفكير الحركة إلا أنه لا ينفي أن مشاركة الحركة في النظام السياسي الفلسطيني هو أيضاً له تبعاته التي قد تضر بالحركة حين تجد نفسها شريكاً في العملية السلمية رغماً عنها، وتجد نفسها تخوض المعركة السياسية بكل ثقلها جوار المعارك الأخرى التي قد تستدعيها للحراك باتجاهها.
كل ذلك مفهوم من الناحية النظرية، لكن السؤال الأصعب الآن: كيف سيكون حال الأجنحة العسكرية إذا ما غلب السياسي على العسكري في حركة حماس؟ وإذا ما وصلت الدول العربية إلى آخر طريق التطبيع مع الكيان الصهيوني؟
الواقع أن هذين السؤالين ذوا شقين مختلفين من الإجابة؛ فالأخير أيسرهما من حيث الإجابة وأصعبهما على الأرض، فسهل أن نقول: إن التطبيع العربي يضر بالأجنحة العسكرية الفلسطينية بقدر محدود، وصعب أن نتصور تطبيعاً كاملاً مع الكيان الصهيوني من دون قلاقل داخل منظومة الدول العربية، لا سيما القريبة من الكيان الصهيوني، وبعضها قد بنى شرعيته الشعبية على رفع شعارات ثورية تغذي استتباب حكمه الطائفي أو محدود الشعبية، غير أن فئاماً من بني يعرب ممن كبّروا على المساندة العربية للقضية الفلسطينية أربعاً ـ أو حتى ربما يعبرون إلى منطقة أشد قتامة، هي منطقة عدم الفاعلية العربية في التأثير على القضية الفلسطينية سلباً أو إيجاباً ـ قد تستهلكهم الإجابة على السؤال الأول من دون الالتفات للأخير، وهؤلاء سينظرون بعين الاعتبار إلى تقرير نشرته صحيفة (يديعوت أحرونوت) الصهيونية (١٥/٣/٢٠٠٥م) جاء فيه على لسان اللواء أهرون زئيفي، رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية في جيش الاحتلال الصهيوني: «إن قدرة حماس الآن أقوى مما كانت عليه في الماضي، وهذا ما يثير قلقي؛ لأنهم يبنون هذه القدرة تحت غطاء الهدوء. وإذا تلقوا أمراً فسيتركون الهدوء جانباً، وخلال ٢٤ حتى ٤٨ ساعة ستكون لديهم القدرة التي لم تكن لديهم بعد أحمد ياسين، وعبد العزيز الرنتيسي أو ياسر عرفات، ومن ضمن ذلك عمليات داخل الكيان، وفي حالة كسر الهدوء، قد تقع عمليات كبيرة جداً» . ونلفت إلى أن «هناك الكثير من النشاط لإكمال عمليات، وهو نشاط نسميه نحن (عمليات مضبوطة) ، أو (عمليات في ماسورة السلاح) ، ولا يمكنني أن أقدم تفاصيل حول تلك العمليات، لكن تلك العمليات موجودة في مراحل يمكن خلال ٢٤ حتى ٤٨ ساعة أن نشهد عدة عمليات قاسية، من بينها أنفاق مفخخة. نحن نعرف أن هناك أنفاقاً مفخخة أكملوا إعدادها، وأن قسماً آخر في مراحل ما قبل إنهاء الإعداد في قطاع غزة، وهذا هو معنى استمرار الاستعدادات. كما أن هناك جهوداً كبيرة وحثيثة لجلب المعلومات والمعرفة، وتطوير صواريخ في الضفة الغربية، خاصة في جنين ونابلس (شمال الضفة الغربية) ، كما كان في نهاية عام ٢٠٠١م، وبداية عام ٢٠٠٢م، حركتا: حماس، والجهاد الإسلامي تستغلان كل هذه الجهود لاستخدامها في اليوم الذي ستضطران فيه إلى حمل السلاح. هذا وضع في غاية الحساسية» . وسيفهمون ما الذي يعنيه الأستاذ خالد مشعل بقوله: «إن الذين يمارسون المقاومة في الشعب الواحد ومستلزماتها هم شريحة محدودة من الشعب؛ فليس كل الشعب يقاوم» (يعني المقاومة المسلحة) . وسيلحظون معنى ما قاله بشير المصري الناطق باسم الحركة: «ستظل (حماس) حركة مقاومة إلى أن تتحقق أهداف الشعب الفلسطيني» ، وسيتوقفون عند رفض الحركة لنزع الأسلحة من أيدي المقاومين.
إن الظروف الإقليمية والدولية والمحلية قد تكسرت نصالها بعضها على بعض من فرط تكاثرها على صدر حماس، بيد أنها هي ذاتها تعتبر هذه المقاومة منها لكافة ألوان التدجين سواء منها العسكري أو السياسي ـ وهو الأشد مراساً الآن ـ درباً من دروب الحياة التي قرأها الأستاذ خالد مشعل من خلال هذه الكلمات: «المقاومة حالة شاملة، وحياة متكاملة، كما أن الهزيمة تنعكس على الجوانب الأخرى للحياة، لذلك ينبغي أن تتجلّى على جوانب الحياة كلها، ينبغي للأمة والشعوب أن تعيش حالة المقاومة والممانعة، ولذلك نحن لسنا أمام الشكل العسكري للمقاومة فحسب، بل نحن أمام حياة كاملة، والقرآن سمّاها حياة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: ٢٤] ؛ فالجهاد حياة شاملة، وهي الحياة الحقيقية، كما أن الهزيمة العسكرية في الغالب يرافقها انهيار شامل، فإن المقاومة ينبغي أن يكون معها إحياء ونهوض شامل، والشعب، أي شعب، لا يستطيع أن يقاوم محتلاً إلا إذا نهض بحياته، ووفّر كل مقوّمات الصمود، فتعيش المرأة، ويعيش الطفل، ويعيش الكبير والصغير، والكل يعيش حياة المقاومة، وهذا نموذج عشناه، ولا نزال في فلسطين، وأحبتنا في العراق كذلك، وكل الأمّة عليها أن تعيش ذلك. وكذلك كما أن المقاومة بحاجة قبل انطلاقتها إلى مرحلة تحضير؛ لأن المقاومة إنما تستند إلى قاعدة واسعة من التحضير؛ فإن شعباً غير حاضر للمقاومة ينكسر مع أول تجربة، وسبب الصمود في فلسطين، ـ بعد فضل الله تعالى ـ هو أن الشعب وطّن نفسه وجهّزها لمعركة طويلة؛ فكما أن هذه هي الحالة؛ فكذلك إذا انطلقت المقاومة فإنه لا يسع أي شعب إلا أن يستصحب مع المقاومة مشروعاً نهضوياً شاملاً؛ لأن المقاومة بحاجة إلى إسناد وإلى دعم ورعاية، وإلى ترشيد ورؤية، وإلى بوصلة، وإلاَّ فسيكون خياراً عسكرياً مضطرباً قد لا يصمد في المعركة الطويلة» .