للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التقميص الإسلامي لبعض صيغ التمويل المعاصر]

د. محمد بن عبد الله الشباني

- مقدمة:

تحتلّ حركة الأموال وتبادلها عصب النظام الاقتصادي المعاصر، والذي أدَّى إلى ظهور النظام البنكي كتنظيم يقوم بدور المنظِّم لحركة الأموال تجميعاً وتوزيعاً؛ باعتبار أن النقود سلعة يُتاجَر فيها، واعتبار الزمن هو المحدد لثمن النقد، وإخراج النقود عن طبيعتها التي أُوجدت من أجلها باعتبارها أداةً للتبادل وإبراءً للذمة ومخزناً للقيم.

- النقود والربا:

الربا بكل صوره وأشكاله يدور حول النقود، وقد جاء الإسلام بتحريمه، بل إن الله ـ تعالى ـ لم يعلن الحرب على كبيرة من الكبائر كما أعلنها على الربا في قوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة: ٢٧٨ - ٢٧٩] وفي هذا العصر ـ الذي تعددت فيه أشكال وأنواع النقود ـ خَمُلَ مفهوم النقود وحلَّت الصكوك ـ بمختلف أشكالها وأنواعها وأنماطها ـ محلَّ النقود، وأصبح التعامل في النقود محدوداً حتى في شكلها الورقي الذي حلّ محلَّ المعدن. ومن هنا فإن من الواجب النظر إلى الأشكال التي يتم بواسطتها نقل الالتزامات وإبراء الذمم المالية بين الأفراد والمؤسسات والشركات، على اعتبار أنها نقود تحققت فيها صفات النقد ووظيفته الاجتماعية والاقتصادية.

- التمويل والربا:

من الظواهر المعاصرة في مجال التمويل السعي إلى إيجاد المخارج الفقهية لبعض صيغ التمويل الربوية، وإلباسها اللباس الإسلامي من خلال استخدام صور من صور البيوع التي كانت تُمارَس في الماضي، والتي أُجيزت من قِبَل بعض علماء السلف، الذين عاشوا ضمن بيئة اجتماعية واقتصادية مغايرة للبيئة الاقتصادية المعاصرة، دون نظر إلى حقيقة التعامل المعاصر وغايته، وأنه نابع من النظرة القائمة على فلسفة الحرية المطلقة في التعامل الاقتصادي دون ضوابط أخلاقية أو دينية، وإنما ضابطها تحقيق المنفعة غير المنضبطة.

ما يمارَس في هذا العصر من صيغٍ للتمويل أُلبست اللباس الإسلامي، واعتبر التعامل بها تعاملاً إسلامياً لا شُبَه فيه، مع أن الحقيقة لا تعدو أن تكون مخرجاً من المخارج التي استُحلّ بها الربا، وهو مصداق لما أخبر عنه الصادق المصدوق في الحديث الذي أخرجه أبو داود والنسائي والإمام أحمد عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ليأتينّ على الناس زمان لا يبقى منهم أحد إلا أكل الربا؛ فإن لم يأكله أصابه من غباره» .

إن مناقشة هذه الصيغ ـ التي تمارس من قِبَل البنوك باعتبار أنها جائزة شرعاً وأصبحت مقبولة ـ واجب ديني، ويقتضي الأمر مناقشتها من جميع الجوانب بشفافية متناهية، بأن يكون لدينا الجرأة في تبيان حقيقة التعامل بهذه الصيغ ولو كانت هذه الحقيقة غير مرغوب بها، وتخالف رغبة معظم الناس، حتى ولو كانت مجازة من قِبَل مَنْ لهم باعٌ في العلم الشرعي، أو الاقتصاد الإسلامي، فهم مجتهدون، ومع إمكانية خطئهم في الاجتهاد فلهم أجر الاجتهاد، ولكن لا ينبغي تجاهل الأمر والاندفاع وراء المقولة التي يرفعها كثير من الناس: «أن الدين يسر، فلا تعسّروا ولا تنفِّروا» ، و «أن الرسول عليه الصلاة والسلام ما خُيِّر بين أمرين إلا اتّبع أيسرهما ما لم يكن حراماً» .

إن التساهل في قبول كثير من الصيغ التي تكتنفها الشبهات سيكون له نتائج سلبية على إبراز الاقتصاد الإسلامي كمنقد لواقع الناس الربوي، وتحويله ليكون ظلاً للاقتصاد الربوي يبحث عن مخارج لعلل الاقتصاد المعاصر القائم على الفكر الربوي منهجاً وأسلوباً.

إن تفشِّي الصيغ التمويلية المسماة بالصيغ الإسلامية وتبنِّيها من قِبَل البنوك الربوية لما فيها من تحقيق مصالح مادية أفضل مما تحصل عليه باسم الفائدة، وتقبل الفائدة الربوية من قِبَل المجتمعات الإسلامية باسم الإسلام ودفع الناس وجرِّهم إلى مستنقع الدَّيْن، وربطهم مدى الحياة بالاقتراض لمصلحة المرابين من أصحاب رؤوس الأموال، وإشاعة روح الاستهلاك من خلال توسيع منافذ الربا، وكسر حاجز الورع؛ بحيث يتحقق في الواقع ما أخبر عنه رسول الهدى محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ فيما أخرجه البخاري عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: «ليأتينّ على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال: أَمِنْ حلال، أم من حرام» .

- الصيغ التمويلية والحيل الربوية:

الصيغ التمويلية ـ التي يتم استخدامها من قِبَل مختلف البنوك سواء التقليدية أو الإسلامية ـ تعطي الانطباع للمتأمل فيها أنها نوع من التحايل على أحكام الشريعة الإسلامية ومقاصدها وغاياتها لإلباس الصيغ الربوية للتمويل اللباس الإسلامي، ولهذا فإن من الواجب الشرعي مناقشة هذه الصيغ من ناحية الغايات والمقاصد، ومن ناحية الوسائل والطرق المستخدمة من الناحية العملية، وليس من خلال العقود المصاغة والتي تبدو ـ في أشكالها وصيغها ـ غير مُصادِمة لمفاهيم وأسس العقود الشرعية، بهدف الوصول إلى صيغ شرعية بعيدة عن المحاذير وقائمة على قواعد الشريعة ومقاصدها ودون تناقض بين التطبيق العملي الواقعي والعقود التي تمثل المظهر الشكلي الذي يتم التعامل بها.

إن مناقشة هذه الصيغ لا يقصد منها الإساءة إلى البنوك الإسلامية التي تحاول أن تبعد المعاملات المالية البنكية عن الربا، ويكفي لهذه البنوك شرف فتح الطريق أمام إمكانية تقديم الحلول الشرعية لقضايا التمويل، ولكن واقعها الذي تعيش فيه وما يحكمها من تنظيمات تشريعية تحكم تعاملها تحدّ من تحرّرها من القواعد والأسس التي قام على أساسها النظام البنكي الربوي؛ لهذا فهي تعمل تحت ازدواجية بين الرغبة في الربح والالتزام بأحكام الشريعة، وبين الأحكام المنظمة للرقابة على أعمال البنوك وفق الأسس والأحكام التي تحدّ من قدرتها على تعديل مساراتها في طرح التصورات العملية في استثمار الأموال المتاحة خارج نظام الفائدة الذي يحدد وينظم العلاقات بين المدّخرين والمقترضين والمودعين، وبين البنك كمنظم لعملية تبادل المصالح بين المدخرين من المودعين والمقترضين ممن يحتاج إلى النقود في عمليات استخدام الأموال في تسيير أعمال الأنشطة الاقتصادية، أو إشباع الرغبات الاستهلاكية بين الأفراد.

إن دور العلماء الشرعيين في تبيان الحكم الشرعي في الصيغ التمويلية لتلبية احتياجات القطاعات الاقتصادية المختلفة لا يقف عند إصدار الفتاوى بالجواز أو الحرمة على الصيغ التمويلية من خلال تبنِّي أحكام وردت في كتب الفقه وصدرت من الفقهاء الأقدمين الذين أجازوا بعض صيغ البيوع ضمن ظروف عاشها المجتمع الإسلامي في عصرهم، وضمن معطيات خاصة بطبيعة المبادلات في ذلك العصر، فينبغي النظر إلى الأمر من خلال دراسة الظروف التي تحكم الواقع المعاصر والأسس التي يقوم عليها البناء التشريعي الاقتصادي، والفلسفة التي يرتكز عليها النظام البنكي، حتى يمكن فهم طبيعة الأعمال التي تمارسها البنوك ضمن إطار الفلسفة الاقتصادية السائدة في هذا العصر، ومن ثم يجب النظر إلى عمليات الصيغ التمويلية من هذا المنظور، والنظر إلى مقاصد الشريعة فيما يتعلق بالعلاقات المالية بين الأفراد بعضهم ببعض وما يحكمها من أُطر تشريعية جاءت بها السنة النبوية.

ولهذا؛ فإن من الأمور التي يجب التركيز عليها ـ عند معالجة القضايا التمويلية ضمن إطار الاقتصاد الإسلامي ـ العودة إلى المنهل الذي نهل منه علماء السلف ـ رحمهم الله ـ وهو الحديث الشريف، وفهم مقاصده من خلال ربطه بواقع الناس.

ولتقريب ما أقصده أضرب مثلاً الحديث الذي أخرجه البخاري عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استعمل رجلاً على خيبر فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أكلّ تمر خيبر هكذا؟ قال: لا، والله يا رسول الله! لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تفعل! بِعِ الجمع بالدراهم، ثم ابتعْ بالدراهم جنيباً» . بالنظر إلى هذا الحديث من خلال ما استدل به علماؤنا هو منع ربا الفضل وسدّ ذريعته إلى الربا، ولكن من خلال إعادة النظر في هذا الحديث والتعمق في فهمه يمكن الاسترشاد به فيما يتعلق بتحديد المفاهيم الاقتصادية الإسلامية بالتوجيه إلى العمل على زيادة حركة التبادل التجاري بين أفراد المجتمع، من حيث إنه في الحالة التي وصفها الحديث يتم التبادل بين شخصين، هما: بائع التمر الرديء والجيد. أما التوجيه النبوي فهو يرشد إلى توسيع دائرة التبادل إلى ثلاثة أشخاص لتحقيق هذه العملية التبادلية؛ حيث يقوم طالب التمر الجيد ببيع ما عنده من تمر رديء إلى شخص آخر بنقد، ثم يقوم بالشراء بهذا النقد من عند الشخص الذي لديه التمر الجيد، وبهذا تتسع دائرة التبادل. كما أن هذا الحديث يرشد إلى توجيه المخططين والمشرعين الاقتصاديين إلى حقيقة وظيفة النقود، وأنها ليست سلعة ذات قيمة في حدّ ذاتها، وإنما هي وسيلة إلى تبادل السلع والمنافع، ومن ثم منع قيام الربا من خلال قصر النقود على وظيفتها الأساسية أنها معيار للقيم بين مختلف السلع والمنافع. ومن هنا ينبغي إعادة صياغة النظرية النقدية وقصرها على الحقيقة التي أشار إليها الحديث والتي فهمها ابن القيم ـ رحمه الله ـ حيث قال: (فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذي يُعرف به تقويم الأموال، يجب أن يكون محدداً مضبوطاً لا يرتفع ولا ينخفض؛ إذ لو كان الثمن يرتفع أو ينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن تعتبر به المبيعات بل الجميع سلع) .

- الممارسات التمويلية للبنوك الإسلامية:

إن ممارسة البنوك الإسلامية فيما يتعلق بصيغ التمويل يشوبها كثير من الشبهات، بل إن المتأمل لكيفية الممارسة فيما يطلق عليه بالصيغ الإسلامية يجد أنها لا تختلف من حيث النتيجة والغاية عمّا تمارسه البنوك الربوية، والاختلاف إنما هو في الشكل من حيث إلباسها اللباس الإسلامي، وهذا الأمر أدَّى إلى إعاقة تطور الصيغ التمويلية الإسلامية، فأصبح همّ تلك البنوك البحث عن مخارج فقهية لإلباس الصيغ الربوية اللباس الإسلامي بدل أن تسعى البنوك إلى صيغ جديدة تبرز التفاوت ما بين التمويل الإسلامي والتمويل الربوي، فتقدم تصوراً جديداً لصيغ التمويل تنبع من مقاصد الشريعة الإسلامية في تحرير الأنشطة الاقتصادية من لَوْث الربا، وللتدليل على ذلك فسوف أستعرض بعض الصيغ التمويلية المعمول بها في البنوك الإسلامية كبديل لصيغ تمويلية ربوية، بقصد توضيح قصور التجربة البنكية الإسلامية في تحقيق الأهداف والغايات من إيجاد نظام بنكي يبعد الناس عن الربا ويحقق لهم مقاصد استثمار الأموال المتاحة لدى بعض الفئات ليتم استغلالها من فئات أخرى لا تملك المال ولكنها تملك القدرة على الاستثمار.

- صور الصيغ التمويلية:

إن للصيغ التمويلية التي تتبعها البنوك الإسلامية للتمويل صوراً عِدَّة، نقدم صورتين منها للاستدلال، وهما:

- الصورة الأولى:

تمويل التجارة الخارجية، وهو ما يُعرف بصيغة المشاركات؛ وذلك لتوفير التسهيلات الائتمانية للاعتمادات المستندية المفتوحة والقبولات الممنوحة لعملاء البنوك، فالأسلوب المتّبع من قِبَل البنوك التجارية الربوية هو الاتفاق مع عملاء البنك على منح سقف لتمويل احتياجات العميل من الأموال لسداد التزاماته المالية المتعلقة بالاستيراد، حيث يمنح البنك عميله مبلغاً معيناً يتم استخدامه من أجل توفير التمويل لاستيراد السلع التي يرغب في استيرادها، وعند وصول المستندات يتم تحويل المبلغ المستخدم في استيراد هذه السلع إلى حسابه الجاري ويحتسب على رصيد هذا الحساب نسبة فائدة معينة، وإن البنك قبل فتح الاعتماد المستندي يطلب ـ عادةً ـ من العميل الحسم من حسابه؛ فيما يعرف بـ (حدّ الائتمان) بنسبة من قيمة الاعتماد المراد فتحه. والبنوك الإسلامية عالجت هذه المسألة بأسلوب ما سمّته بـ (المشاركة الشكلية) فعندما يرغب العميل في استيراد سلعة ما وليس لديه المال الكافي لتغطية قيمة الاستيراد، فيتقدم للبنك الإسلامي ويبرم معه عقد مشاركة بغرض شراء هذه السلعة التي يرغب في استيرادها والتي هي ضمن نشاطه التجاري، ويتضمن هذا العقد الصوري اتفاقاً بأن لأحد الطرفين الحق في شراء حصة شريكه بعد ورود البضاعة مع تحديد نسبة المرابحة التي تحتسب على نصيب الشريك البائع لحصته وهو البنك عادة، على أن يتولى التاجر سداد هذا المبلغ مع الربح المضاف على المبلغ، أو أي مصاريف أخرى على أقساط مؤجلة بموجب سندات لأمر البنك، ويتولى الطرف المشتري وهو التاجر المتفق مع البنك باستلام البضاعة من ميناء الوصول والذي حدّد عند فتح الاعتماد المستندي، وتنتهي مسؤولية البنك بتسليمه الأوراق الخاصة بالبضاعة مع إضافة مادة في عقد البيع بشكل صوري يقر فيها المشتري باستلامه البضاعة محل العقد، وأنها أصبحت في حيازته وتحت يده، وهذا شرط قصد منه تلبية إجازة البيع وفق الصيغ الشرعية، ولضمان تحصيل حقوق البنك فقد أوجب عقد البيع أن يقوم المشتري ـ وهو العميل ـ بتوكيل البنك باستلام أية حقوق له مستحقة لدى الغير، كما أنه ليس هناك أحقّية للمشتري في فسخ هذه الوكالة حتى استيفاء قيمة المبيع.

هذه صورة من صور التمويل والتي أُلْبِسَت اللباس الإسلامي، وهي صيغة لا تخرج أن تكون تسهيلاً ائتمانياً وفق ما توفره البنوك الربوية؛ فالقصد والغاية من هذا العقد هو الإقراض وليس المشاركة بقصد تحقيق الربح من خلال الدخول في مخاطر الربح والخسارة بين الشريكين، ومفهوم المشاركة في الشريعة الإسلامية هو قيام الشريكين بتحمّل نتيجة المشاركة عند تصفيتها، وليست وسيلة لقيام البنك بإقراض التاجر؛ فالمشاركة وفق الصيغة الإسلامية سواء كانت بين صاحب مال ومضارب، أو صاحبَيْ مال يعملان في ماليهما، أو صاحبَيْ مال أحدهما يعمل في المال كصاحب مال وكمضارب يقومان بالمجازفة في الحصول على العائد المتوقع من ممارستهما المشاركة؛ فقصد البنك من قيام المشاركة ليس البحث عن ربح من خلال قيام الشريكين بالاتجار بالبضاعة المستوردة، كما أن البنك لا يبرم هذه العقود إلا مع المؤسسات التجارية التي تقوم بنشاط بيع هذه السلع التي يتم استيرادها، فالغاية هو توفير المال للتجار ولكن ضمن حيلة شرعية تجيز للبنك الإقراض باسم المشاركة، والقاعدة الشرعية التي يفترض أن تقوم عليها الأعمال ما حدّده حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الحديث المشهور الذي رواه عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ والذي جاء فيه: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» .

فالقاعدة التي يُرتَكَز عليها في تحديد مقاصد الأعمال هي النية والقصد. فالقصد من عقد المشاركة ليس تكوين شراكة بين البنك والتاجر لتحقيق ربح يعود بالفائدة على الطرفين، وإنما هو حيلة لاستحلال الاقتراض باسم المشاركة، والأمور تُبنَى على مقاصدها، ولهذا فإن من الواجب إعادة النظر في الأسلوب والمنهج الذي يتم به توفير المال للمستوردين للسلع بالصيغة التي تُبعِد المجتمع من الوقوع في الربا، وفي الوقت نفسه قيام البنك بدوره في استغلال الأموال المتاحة لديه؛ وهذا يقتضي إعادة النظر في النظام البنكي بجملته من خلال دراسة إمكانية إيجاد نظام يتميز بأمرين:

الأول: إعادة النقود بمختلف أشكالها لوظيفتها.

والثاني: استغلال الأموال المدَّخَرة والفائضة عن حاجة المبادلات.

- الصورة الثانية:

تتمثل في استخدام أسلوب المرابحة بقصد توفير احتياجات المؤسسات والأفراد للأموال. والبنوك التقليدية الربوية تمارس دورها في توفير هذه الاحتياجات للأموال من خلال أسلوبين: الأول: تلبية احتياجات الشركات والمؤسسات التجارية للأموال اللازمة لمصاريف التشغيل؛ وذلك بما يعرف بـ (التسهيلات الائتمانية) بمنح العميل سقفاً للإقراض فيما يُعرف بـ (الجاري المدين) حيث يُسْمَح للعميل بالسحب من حسابه الجاري على المكشوف حتى يصل إلى سقف محدد، وتحتسب الفائدة يومياً بأسلوب الفائدة المركبة. أما بالنسبة لتلبية احتياجات الأفراد فيتم من خلال الإقراض الشخصي لمبالغ معينة يتم استعادتها مع فائدة خلال فترة زمنية معينة، وتحتسب الفائدة المركبة على هذا القرض وفق معادلة بقاء المبلغ المقترض لدى المقترض مضروباً في المبلغ إذا كان السداد بالكامل، أما إذا كان السداد على أساس الأقساط فيتم تحديد القسط وفائدته وفق الفائدة المركبة، ويقوم المقترض بإصدار سندات لأمر البنك وفقاً لنظام الأوراق التجارية.

أما الأسلوب الذي تتبعه البنوك الإسلامية لمعالجة القروض الشخصية، أو التشغيلية للمؤسسات الفردية والشركات فهو ما يعرف ببيع المرابحة، وهذا البيع يتم من خلال آلية لا يقصد منها البنك الاتجار في هذه السلع التي يتم شراؤها بعد الاتفاق مع المحتاج للمال سواء كانت الحاجة لشراء سلعة معينة، أو بيع هذه السلعة للحصول على ثمنها وهو ما يعرف بالتَوَرُّق.

ولإعطاء صورة لكيفية حل إشكالية الإقراض الشخصي أُورِدُ صورتين لكيفية معالجة البنوك الإسلامية للقروض الشخصية ضمن إطار تجنّب مخاطر البيع والشراء وضمان المال المقترض كما تحدد الفائدة أو ما يطلق عليه (الربح وفق نظام المرابحة) على أساس تحديد مقدار الربح الذي يبنى على أساس عدد الأقساط، وبحيث يتم احتساب فائدة على القسط الأبعد زمنياً على القسط الأقرب زمنياً، ثم تجمع هذه الفوائد (الأرباح) ثم تضاف إلى مبلغ القرض الإجمالي ليحدد المبلغ مع الربح، ثم يقسم على عدد الأقساط ليتم في النهاية تحديد القسط الشهري الذي يتم سداده من خلال راتب الشخص المقترض أو من خلال الدفعات التي تستقطع من الحساب الجاري للعميل إذا كان تاجراً.

ولتوضيح هذه الصورة أضرب مثالاً عملياً واقعياً تمّ من قِبَل أحد البنوك الإسلامية على النحو التالي:

تقدّم طالب الاقتراض بطلب شراء منزل، وقد قام البنك بدراسة طلبه من حيث مبلغ الدفعة الأولى التي سيقوم بدفعها ومقدار راتبه وقيمة المنزل الذي يرغب شراءه لمعرفة مدى إمكانية منحه القرض من عدمه، وفيما يلي البيانات الرقمية لهذه العملية: قيمة المنزل أربعمائة وخمسون ألف ريال سعودي سيتولى المشتري تقديم دفعة أولى مقدارها مائة وأربعون ألف ريال، والباقي ومقداره ثلاثمائة وعشرة آلاف ريال هو مقدار القرض، وقد احتسب البنك عليه مبلغ مائة وستة وثلاثين ألف ريال لمدة سبعين شهراً يتم سدادها على أقساط شهرية، مقدار القسط الشهري (٦٣٧١) ريالاً، مع دفع مبلغ ألف وثمانمائة ريال رسوم الاطلاع على المنزل المراد شراؤه، وبعد التأكد من مدى إمكانية قيامه بسداد المبلغ الشهري وتنازله بخصم القسط الشهري من راتبه والذي يتم إيداعه مباشرة لدى البنك من جهة علمه فإن نسبة عائد الربح على هذا القرض هو ٤٤% والمعدل السنوي ٣.٦% وهي نسبة أعلى من الفائدة الربوية التي تأخذها البنوك الربوية، ويتم احتساب الربح على أساس سعر الخصم لمبلغ قسط القرض الشهري ومقداره ٤٤٢٩ ريالاً وفق نسبة فائدة ٦% وعلى أساس الربح المركب لهذا القسط.

إن هذا الأسلوب من التمويل الشخصي لا يختلف عن الإقراض الذي تتبعه البنوك الربوية في توفير التسهيلات المالية للشركات العقارية، والهدف والغاية هو توفير المال للراغب في الاقتراض. الاختلاف يتمثل في كيفية وأسلوب الإقراض؛ حيث تحصل العلاقة الإقراضية في تمويل قروض السكن للراغب في تملّك السلعة المراد إقراضها من قِبَل البنك وإبقاء ملكيتها حتى سداد جميع الأقساط، بخلاف البنوك الربوية التي تدفع القيمة نيابة عن المقترض للشركات العقارية، وأما الضمانات لسداد المال المقترض فهي نفس الضمانات من رهونات أو كفالات شخصية والتي تتبع من قِبَل النظامين.

أما الصورة الثانية: فقد قامت على أساس مفهوم التورُّق مع استخدام الأسهم كسلعة وسيطة للإقراض؛ وذلك لسهولة بيعها لصالح المقترض، من خلال التعامل مع السوق المالي المحلي، أو العالمي، أو سوق السلع العالمي، والأسلوب المتّبع في تنفيذ هذا النوع من الإقراض والذي أُلبست عليه الصيغة الشرعية باعتبار أن السهم يمثل جزءاً من صافي حقوق المالكين في الشركة المساهمة، وهذا الجزء والمتمثل في قيمة السهم يتم تداوله في السوق المالي من خلال المضاربة فيه بيعاً وشراءً بسرعة وسهولة. وإجراءات الإقراض المتّبعة من قِبَل البنوك الإسلامية والتقليدية التي تمارس هذا النوع من أشكال بيع التورق تلبية لرغبات الناس بالبعد عن الربا لا تختلف عن الإجراءت المتّبعة من قِبَل البنوك التقليدية من حيث الحصول على الضمانات للمال المقترض، ويتم تحديد مقدار الفائدة وفق ما يعرف ببيع المرابحة؛ حيث يقوم البنك بشراء أسهم من السوق لصالح المقترض والذي يتم بيعها عليه بسعر مؤجل؛ حيث يتحدد سعر السهم المباع مؤجلاً على أساس المدة الزمنية ومقدار القرض والمقدرة المالية للمقترض في إعادة القرض مع فائدته، وعند الاتفاق يتم بيع هذه الأسهم المباعة للمقترض في السوق لصالحه.

هذا الأسلوب هو أكثر الأساليب في التمويل الشخصي، وقد راج استخدامه لسهولة تسييل قيمة الأسهم بأقل خسارة على المشتري، وقد يتحقق له ربح عن سعر الشراء الأساسي الذي تم على أساسه احتساب الفائدة.

التمويل من خلال بيع الأسهم بالأجل من قِبَل البنوك كوسيلة للإقراض الشخصي وقيام المقترض ببيعها إما مباشرة في السوق المالي، أو توكيل البنك وهو الغالب في بيعها نيابة عنه واعتبار هذا الأسلوب جائزاً شرعاً وهو صورة من صور الحيل لاستحلال المال المحرم؛ لأن غاية البنك هو الإقراض والحصول على الفائدة، كما أن المشتري غرضه من شراء هذه الأسهم هو بيعها والاستفادة من ثمنها؛ فهو أسلوبٌ الغرض منه الإقراض والحصول على الفائدة الناتجة عن هذا الإقراض.

إن اتبِّاع هذا الأسلوب من التعامل يخرج البنك الإسلامي عن أهدافه التي يسعى لتحقيقها، وهي أهداف الاقتصاد الإسلامي، ومن تلك الأهداف القيام بعمليات تمويل طويلة الأجل للقطاعات الاقتصادية الإنتاجية أو الخدمية، مثل: تمويل مشروعات الحرفيين، أو المشاركة في رأس مال المشروعات لصغار المنتجين، وإن اتجاه البنوك الإسلامية في التمويل الشخصي من خلال استخدام الأسهم في السوق المالي كوسيلة لتوفير المال سيؤدي إلى زيادة العرض والطلب على الأسهم ومن ثَم حركة صعود الأسعار والمضاربة فيها؛ وضخّ الأموال في هذه الأسواق لا يساعد على التنمية الاقتصادية، بل هو معيق للتنمية، حيث يتم تداول الأموال بين الناس بأسلوب غير منتج لا تؤثر حركة الأموال على التوسع في زيادة إنتاج السلع أو توفير الخدمات.

وعلى ضوء ما سبق فإن هناك ضرورة إلى إعادة النظر في أسلوب عمل البنوك الإسلامية ودورها في حركة الاقتصاد الوطني، والسعي إلى إبراز تصوّر جديد للتمويل يتجه نحو الاستثمار المنتج الذي يساهم في توفير فرص العمل وزيادة ونموّ المنتجات السلعية التي يحتاجها الناس، والتقليل من الاستيراد من الدول غير الإسلامية؛ بحيث يتم تحقيق تكامل اقتصادي بين المجتمعات الإسلامية، ولهذا فإنني أرى العناية بأمرين:

الأول: دراسة إمكانية إيجاد نظام بنكي مغاير للنظام الرأسمالي؛ بحيث يتم فصل التمويل بمختلف صوره عن نظام التداول النقدي إيداعاً وسداداً للالتزامات، بحيث يساهم في إعادة الوظيفة النقدية للنقود بكل صورها المعاصرة والمقتصرة على الوظائف التقليدية، وهي أنها ثمن للسلع والخدمات ومخزن للقيم وإبراء للذمة وإيجاد نظام خاص بكيفية استغلال الفوائض المالية المتاحة.

الثاني: العمل على البحث عن مخارج إسلامية للتمويل من خلال تفعيل مفهوم المشاركة والمضاربة لتمويل القطاعات التجارية بمختلف أشكالها وتطوير آلية للتمويل بما يتناسب مع عقود السَّلَم من حيث توفير المال التشغيلي للقطاع الصناعي.

أما بالنسبة للتمويل الشخصي للأفراد فيجب العمل على تحديد أسلوب التمويل من خلال توفير احتياجات الأفراد من خلال المؤسسات والشركات التجارية التي يتم تمويلها من خلال مفهوم المشاركة والمضاربة.