ملفات
الحرب على الحجاب مدخل للتغريب
[مع قضية الحجاب]
د. عدنان علي رضا النحوي
اتخذ الرئيس الفرنسي شيراك قراراً بمنع الفتيات المسلمات من الحجاب في
المدارس الفرنسية، وتناول عدد من الكتاب والصحف ووسائل الإعلام هذا القرار
بالتعليق والاعتراض والتنديد، إلا أن شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي فاجأ
العالم بفتواه أن من حقّ فرنسا أن تصدر مثل هذا القرار، وعلى المسلمة أن
تستجيب له ما دامت تعيش في فرنسا تحت حجّة الضرورة التي يبدو أن شيخ
الأزهر غاب عنه معنى الضرورة في الإسلام.
كانت المشكلة الردّ على الرئيس الفرنسي فصارت المشكلة الآن الردّ على
محمد سيد طنطاوي وشيراك. أمريكا وإنجلترا والطائفة الكاثوليكية في فرنسا
والفاتيكان اعتبرت أنه ليس من حق فرنسا إصدار مثل هذا القرار حسب المنهج
الديمقراطي العلماني، وحسب النصرانية، وقامت ردود كثيرة على الطنطاوي من
شيوخ الأزهر ومسلمي العالم الإسلامي، كما سبق لهم أو لبعضهم أن ردَّ على
شيراك.
مشكلة الحجاب في فرنسا قديمة ربما ظهرت في العقد الماضي من القرن
الخامس عشر الهجري (العقد العاشر من القرن العشرين الميلادي) ، وبدأت
القضية حين فصلت بعضُ المدارس الفرنسية طالبات مسلمات؛ لأنهنَّ أصررن
على الحجاب، وبدأ المسلمون ينقلون اعتراضهم من دائرة إلى دائرة، ومن مستوى
إلى مستوى، دون الوصول إلى نتيجة. واستمرت القضية مع ضخامة الجهود التي
بذلها مسلمو فرنسا إلى اليوم حين أصدر شيراك قراره الأخير، ونهض شيخ
الأزهر يؤيده.
أين هي المشكلة، وما أسبابها؟! عزا الكثيرون السبب إلى وجود تحدٍّ للإسلام
والمسلمين، وهذا مظهر من مظاهر هذا التحدي، ونحن نؤكد وجوده بصورة أوسع
من الحجاب، وأوسع من فرنسا؛ إن نطاق التحدي للمسلمين واسع ممتدٌّ في
الأرض، ممتد في الأساليب، تتكاتف فيه قوى كثيرة.
ولكني أود أن أشير إلى سبب هو من أهم الأسباب في نظري، ذلك هو
مسلسل التنازلات من المسلمين خلال تاريخ غير قصير، سواء أكان المسلسل في
العالم الإسلامي، أم في الغرب، أم في فرنسا بالذات.
كنت في مؤتمر إسلامي في باريس فرنسا قبل بضع سنين. فوجئت أن من
بين الأفكار التي طرحت آنذاك هو أن العلمانية مساوية للإسلام في مقصودها.
وتناول هذه الفكرة عدد من الدعاة المسلمين بالتأييد والشرح؛ حتى قال أحدهم:
«لا نملك إلا أن ندخل في النسيج الفرنسي الثقافي والديني» . وتردد هذا الكلام في
مواقع متعددة، كان من بينها الحوار الذي دار بيني وبينهم، بالرسائل، ثم في
منزلي في الرياض شهده عدد من الدعاة، ثمَّ الحوار الذي دار على صفحات
المجتمع في أكثر من حلقتين، لقد نصحتُ في حدود وسعي، ونبهتُ إلى الخطر
الذي يقع بسبب هذه التنازلات [١] . فإذا أضيف هذا إلى مسلسل التنازلات في العالم
الإسلامي، التنازلات التي انتهى بعضها بحكم علماني واضح يمنع الحجاب ويمنع
كثيراً من أحكام الإسلام وشرعه غير الحجاب.
لقد كوَّن هذا المسلسل من التنازلات التي امتدت زمناً طويلاً قوة نفسية
للكثيرين في العالم الغربي تغريهم بالجرأة على تحدي الإسلام والمسلمين في قضايا
الحجاب وغيرها، لما رأوا أن بعض المسلمين أنفسهم يتنازلون شيئاً فشيئاً عن
إسلامهم، حتى توافر لديهم، لدى بعض المسلمين، الاستعداد النفسي والفكري
للتنازلات.
أضف إلى ذلك صدور بعض الفتاوى عن بعض المسلمين فيها ضعفٌ وتراخٍ،
أو مخالفة صريحة للإسلام، وحتى في فرنسا قامت مؤخراً دعوة تطلب استبدال
الحروف الفرنسية بحروف اللغة العربية، وقام عدد من أبناء العرب المسلمين
يؤيدون ذلك. ومن المنتسبين إلى الإسلام من طالب بتبنّي اللغة العامية بدلاً من لغة
القرآن، والأمثلة على ذلك كثيرة يطول عرضها، إنها من مسلسل التنازلات
المشهود.
أما بالنسبة لرأي الشيخ الطنطاوي، فأستحي أن أسميها فتوى، إنه رأي
أورثنا صدمة كبيرة حين يخرج هذا الرأي المخالف كليةً للإسلام من شيخ الأزهر،
الأزهر الذي ظل قروناً يحمي الإسلام والمسلمين.
الخطأ الكبير الذي وقع فيه شيخ الأزهر هو أنه كان من واجبه أن يخاطب
الناس جميعاً بالإسلام وشريعته وأحكامه، وأن يبلغ دين الله كما أنزل على رسول
الله محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يدعو الناس إليه.
فالإسلام هو دين الله، دين جميع الأنبياء والمرسلين. فالله واحد، وما كان لله
الواحد الأحد أن يبعث للبشرية بأديان مختلفة، ولكنها رسالات تحمل الدين الحق
الواحد، رحمة من الله بعباده.
فالإسلام دين نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وسائر الأنبياء والمرسلين
عليهم السلام، ودين محمد صلى الله عليه وسلم، خاتم الأنبياء والمرسلين، دين
واحد. فهو رسالة الله إلى الناس جميعاً، وإلى شيراك وشيخ الأزهر وغيرهما؛
فإن عصى أحدهم ربَّه وخالف رسالة الله إليه، أفنقرّه نحن على ذلك؟!
فليس من شأن شيخ الأزهر أن يقر الاتجاهات المنحرفة عن الدين الحق، ولا
أن يعطيها المسوِّغات لوجودها، ولا أن يعطي المسوِّغات لأحد من المسلمين أن
ينحرف عن دين الله ويخضع إليها.
ليس من حق فرنسا ولا غيرها أن تصدر قوانين تخالف شرع الله، فإن فعلت
ذلك من منطلق قوتها وعلمانيتها، فليس من حق شيخ الأزهر ولا أحد من المؤمنين
أن يُقرّوا ذلك ويقبلوه ويدعموه، أو أن يتحاكموا إليه.
العلمانية تدَّعي أن الدولة لا تتدخل في دين الناس؛ فكل فرد حرٌّ بأن يتبع
الدين الذي يريده. ومع ذلك فالدول العلمانية تطلق الحركات التنصيرية وتدعمها
بالمال والإعلام وغير ذلك. وأما الإسلام، الدين الواحد الحق من عند الله، فيجعل
أول مسؤوليات الدولة حماية الدين الإسلامي وإقامة شرعه والدعوة إليه، ونشره في
الأرض كما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
[إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا
جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ] (آل عمران:
١٩) .
[أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً
وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ] (آل عمران: ٨٣) .
وكذلك:
[وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ]
(آل عمران: ٨٥) .
ولقد لاحظنا في كثير مما كتب رداً على شيراك وشيخ الأزهر أنهم تحاكموا
إلى العلمانية وقوانينها في ردودهم، وإلى أعراف وقوانين يبرأ الإسلام منها. إن
واجب كل مسلم، كما هو واجب شيخ الأزهر، أن يرد كل قضاياه صغيرها
وكبيرها إلى الكتاب والسنة، وأن يخرج برأي تدعمه الحجة والبينة من الكتاب
والسنة، ولا بأس بعد ذلك أن يرد عليهم من خلال علمانيتهم وديمقراطيتهم. ولكن
أين الديمقراطية التي يزعمونها؟ إنها عدوان واحتلال ونهب لخيرات الشعوب.
إنها شعار كذب في المواقع كلها، وخدع به المسلمون كما خدعوا بغيره من
الشعارات.
إننا ندرك أننا اليوم ضعفاء. ولكن ضعفنا لا يحل لنا تغيير دين الله، ولا أن
نتخلى عنه ولا أن نتنازل عن شيء منه مراءاة لأحد من خلق الله. ولا بد أن يعي
المؤمن أنه مهما تنازل عن شيء من دينه مراءاة إلى العلمانية ودولها، فإن ذلك لن
يكسبه ودهم، وإنما يخسر بذلك أمرين:
أولاً: يخسر رضا الله.
ثانياً: يخسر مهابته في قلوب أولئك، فيكون من الخاسرين، كما قال الله
سبحانه وتعالى: [وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ
الخَاسِرِينَ] (آل عمران: ٨٥) .
ومهما بذل المسلم من أجل هذه المراءاة فلن ينال رضاهم أبداً: [وَلَن تَرْضَى
عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ] (البقرة:
١٢٠) .
فإصدار قرار بمنع الطالبات المسلمات من الحجاب في المدارس الفرنسية هو
هوى من النفوس لا حجة له من الدين أو العلم أو الأخلاق؛ فهل نسي شيخ الأزهر
هذه الآيات الكريمة فاتبع أهواءهم؟! إننا ندعو شيخ الأزهر إلى التوبة من فتواه
هذه، إلى أن يتوب إلى الله؛ ففتواه خرجت به عن حدود الفتوى إلى المعصية
والإثم، فَلْيَتُبْ وليعلنْ توبته قبل أن يلقى الله وهو من الخاسرين، ليس له من الله
ولي ولا نصير.
ونقول للمسلمين في فرنسا وغيرها أن اثبتوا على دين الله إيماناً وعلماً ودعوة
وبلاغاً على نهج جليٍّ، مهما كلفكم ذلك، واعلموا أن الضرورة الشرعية هي الحالة
التي تهدد المسلم بالموت من الجوع والعطش وأمثاله. وهي ضرورة للفرد، لا
يُعقل أن تكون ضرورة للأمة كلها أو للجماعة، ليتنازلوا عن دين الله.
ونقول للمسلمين بعامة كفاكم تنازلات، فاجهروا بالحق، بدين الله، بالإسلام،
عن إيمان وعلم وخشية من الله لا خشية من الناس، وادعوا إلى دين الله واجهروا
به؛ فهو مصدر قوتنا وسبب نجاتنا، فاجهروا بدين الحق ولا تنحرفوا ولا تتنازلوا
مهما تكن المغريات، وإلا فالهلاك الهلاك!
إن القضية لدى فرنسا وغيرها ليست قضية الحجاب، إنها قضية الإسلام
ورسالته، قضية الإيمان بالله وبدينه.
إن الله سبحانه وتعالى لم يعط لأحد من خلقه الحق في أن يكفر فيكون في نجاة
مع كفره، كلاَّ! إن الله يريد من عباده الإيمان الصادق النابع من القلب واليقين،
ومن التأمل والتفكير، ومن رسالة النبوة الخاتمة؛ فمن آمن فله الجنة والأجر
والثواب، ومن كفر فله جهنم والعذاب الشديد: [وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ
فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا
يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً] (الكهف: ٢٩-٣٠) .
ولا يتكئن أحدٌ على سوء تأويله لقوله سبحانه وتعالى: [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّين]
(البقرة: ٢٥٦) ؛ فعليه أن يكمل الآية ليتضح المعنى: [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ
الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى لاَ
انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] (البقرة: ٢٥٦-٢٥٧) .
(١) مجلة المجتمع الكويتية: العدد (٨٧٨) ، ٤/٩/١٤٠٩هـ الموافق ١٦/٨/١٩٨٨م، بعنوان: (العمل الإسلامي والدولة الإسلامية) ، والعدد (١٢٨٩) ، ٢٧/١٠/١٤١٨هـ الموافق ٢٤/٢/١٩٩٨ م، بعنوان: (العلمانية والمسلمون في الغرب) .