المسلم قارئاً ومثقفاً
جاسر الجاسر
القراءة عمل إيجابي بلا شك لأنها أول وأهم المراحل التي ينفض بها الإنسان
غبار الجهل من رأسه ليحل محله نور المعرفة وضياؤها، وهكذا تكون القراءة
معرفة ونمواً، وتكون وعياً ونضجاً، فكل خطوة يخطوها القارئ تصبح فيما بعد
سلماً إرشادياً يساعده على وضوح الرؤية ودقة الحكم، ويظل نضجه العقلي يتنامى
بصورة مطردة ليصبح بعد ذلك محكاً حساساً وصادقاً لكل محاولة تضليلية وكل
محاولة غزو خارجية أو داخلية، وهنا نستطيع أن نسمي القارئ مثقفاً.
وهذا يعنى بداهة أن كل قارئ ليس مثقفاً لأن بعض القراء رغم فهمهم للمعرفة، وحرصهم على استمرار القراءة يفتقدون حساً نقدياً أولياً يستطيعون من خلاله
تجنب الغث أو على الأقل إدراك غثاثته أو خطورته إن كان مضاداً، ومثل هؤلاء
القراء تكون قراءاتهم -إلا ما شاء الله - ضرراً عليهم وعلى غيرهم لأنهم يصبحون
مجرد أبواق مضخمة لهجمات شرسة مضادة دون وعى منهم أو إدراك، وإنما
بسبب اندفاعهم الأهوج، وافتقادهم التكوين المعرفي الأصيل والضروري للتعامل
مع الأشياء.
وهذا خطأ وقع فيه عدد كبير ممن يطلق عليهم تجاوزاً المثقفين المسلمين،
والذين تكون قراءاتهم واختياراتهم كحاطب الليل.
والمشكلة أن هؤلاء عادة يصبحون مسئولين أو مشرفين أو تربويين أو
إعلاميين بحيث يستشري خطرهم، ويعظم ضررهم فيجرفون معهم أجيالاً من
الشباب الذين تعاملوا معهم كمصادر أصلية ومباشرة للمعرفة، ولكن الرائد في هذه
المرة كذب أهله.
يجب بدءاً أن نقول أن الثقافة التزام، بمعنى أن المثقف فرد يتحرك من
منطلق ثابت، ويستند دائماً على إطار مرجعي ثابت، يرجع جميع القضايا
والمشاكل التي تعرضه إليه، ويمرورها من خلاله -أقصد من خلال الإطار- حتى
يعرف صلاحيتها من عدمها.
وهو دائماً ثابت في موقفه، فخور بالتزامه، حريص على عرض قضيته
والدفاع عنها ضد كل هجمة.
وحتى يصبح الإنسان مثقفاً فلابد أن تكون قراءاته منذ البداية موجهة بما
يتناسب مع تكوينه الفكري الأساسي، بمعنى أن المسلم لكي يكون مثقفاً فلابد أولاً
أن يكون تكوينه العقائدي سليماً وقوياً ولابد أن يستشعر معنى وأهمية كونه مسلماً
صحيح الاعتقاد، وهذا يعنى أن تكون قراءته الأولية تأسيسية حتى يتعرف على
جوانب دمه بشكل كامل وأن يعرف ما يراد به، لأن استشعار الخطر هو أول
ضمان على سلامة الخطوة القادمة.
ولابد أن يكون فخوراً بهذا الانتماء وأن يشعر بتميزه وتفوقه وأفضليته ومهما
كانت الظروف الظاهرية توحي بغير ذلك، لأن الاعتقاد النفسي بالتفوق هو المقدمة
لقلب وتغيير مثل هذه الظروف، ولابد أن يكون مقتنعاً بعمق بأن الأفراد الآخرين
قد يقعون في الخطأ، ولذلك فإنهم ليسوا مصدراً مأموناً في كل الأحيان، وإنما يجب
أن يقرأ لهم بحذر وترصد فإن الكلمة الخاطئة قد تصبح فيما بعد نواة لقناعة مغايرة، وهذا أمر يتساهل فيه معظم المثقفين حتى تدور عليهم الدائرة.
وهكذا فإن المثقف المسلم يعي بحدة معنى إسلامه، وأنه يجب أن تكون
خطواته وفق النسق الإسلامي، بمعنى أنه لا يمكن أن توجد قضية يمكن معالجتها
وفق منهج مغاير للإسلام لأن هذا الأمر ليست له سوى دلالة واحدة: الانحراف.
إن مما تشتمل عليه الحياة الفكرية في العالم الإسلامي نوعين من المثقفين:
مثقف ارتدادي التفكير. ومثقف إمعة. وكلا النوعين خطر على الأمة، فالمثقف
الارتدادي فرد يتخذ العلمانية موقفاً صريحاً وإطاراً مرجعياً، وهو يعي حتماً ما يفعل، بل إنه يفعله بقصد وتخطيط، ويسعى للهدم الصريح تحت اسم الثقافة والتجديد
والتطوير! ! .
ويزعم هذا المثقف أن الحضارة الغربية بكل إسقاطاتها وبكل انحرافاتها ملك
للإنسانية ككل، وأنها تمثل أرقى ما توصلت إليه البشرية في مجال الفكر والإبداع (!!) وأن الوسيلة الوحيدة لتقدمنا هي أن نلحق بركابهم، ونتعلق بأذيالهم، حتى لو
دخلوا جحر الضب لوجب علينا أن نتبعهم، لأنهم أدلاء هذا العصر ومرشدوه،
ومن تخلف عنهم تاه وضاع.
وهذا النوع من المثقفين يختبئ تحت مظلة المنافقين، فيبطن الشر ويظهر
الخير حتى يتمكن من بث سمومه، ويتخذ من الحرية ستاراً، ويدعي أنه يجب
علينا معالجة مختلف القضايا بمرونة، فلا نسمي القصص الجنسية عهراً ودعارة،
ولكنها أدب راقٍ وفن رفيع! وللأسف فإن أكثر من تعج بأسمائهم الصحف
والمجلات ويطفون على سطح الثقافة العربية هذه الأيام هم من هذا القبيل يشيعون
الأفكار الدخيلة، ويسفهون أصول الثقافة الإسلامية ويسخرون من الدعاة إلى الحق،
وينشرون الفوضى والفساد في أذهان الناشئة التي حيل بينها وبين الينابيع الفكرية
الصافية.
وهكذا يتحرك المثقف الارتدادي بكل سهولة ويسر بل وبترحاب أيضاً،
ويكون تحت الأضواء مما يسهل له بث سمومه ونشرها بين قطاع كبير من الشباب.
أما المثقف الإمعة فهو لا يمحص قولاً ولا يرد حرفاً، والحق أنهم ليسوا
مثقفين حقاً لأنهم لا يملكون رؤية ثابتة محدودة يتحركون من خلالها، ولأن مواقفهم
مائعة ومتناقضة، بل إنها أحياناً متغيرة حسب تغير وتبدل المدارس الفكرية التي
يغترفون منها.
ويفتقد المثقف الإمعة الوعي، لأن الوعي إمكانية إيجابية يتجاوز المرء
بواسطتها مكامن الخطر ومزالق الضياع، ويعاني الإمعة من (مركب نقص)
فيشعر أن القوة والمنفعة للآخرين أعني الأوربيين على وجه الخصوص، ويتصور
بحسن نية وسذاجة أن مناهجهم الفكرية هي الأصلح والأنسب لهذا العصر، ويظن
أنه من الممكن أن يسايرهم ويتابعهم حتى يستقل ثم بعد ذلك يرجع إلى دينه، وهذا
غباء مركب، ومثل هذا لا يرجى منه خير، لأن من شك في صلاحيته وقوة منهجه
الإسلامي فكأنما شك في أنه من عند الله، وهكذا يمرق من الدين، وإذا ظن مسلم
ذلك فهو ليس بمسلم ولا يمكن أن يكون فاعلاً ونشطاً في خدمة الإسلام، بل إن
المذاهب الأخرى هي التي تستفيد منه، ويكون بين ظهرانينا كأنه طابور خامس،
بل أسوأ من ذلك أحياناً. وحتى لا نكون متشائمين فإن فئة مخلصة تكافح عن هذه
العقيدة ولكنهم يتعرضون للهجوم من الطائفتين السابقتين، فالارتداديون يدركون
خطرهم وقوتهم، ولذلك يهاجمونهم بعنف أما الإمعات فإنهم يعتقدون أن هذه الفئة
المخلصة تسيء إلى الفكر الإسلامي وتحط من منزلته في نظر الآخرين! وبالتالي
يعترضون طريقهم.
ولكنها فئة مؤمنة، تعرف أن تجاهد في سبيل الله ولذلك لن يثنيها عن عزمها
شيء وستواصل طريقها بإصرار وكفاح وقوة، ويجب على هذه الفئة المؤمنة أن
تهتم بالنشء من أبناء المسلمين وأن تأخذ بأيديهم حتى لا يجرفهم التيار المدمر.
إننا نواجه في هذه الفترة تحديات خطرة، وما لم يكن تكويننا العقائدي سليماً
فالله وحده أعلم بما سيؤول إليه مصيرنا.