متابعات
[نقطة فوق الفاصلة]
بقلم: محمود عبد العزيز
طالعت بمزيد من الإعجاب التوضيح الذي جاء في العدد (٩٠) تحت عنوان
(فاصلة أدبية) والذي ذُكرت فيه وجهة نظر التحرير تجاه الشعر الحر المنشور
بالمجلة.
وإذا كنت أُعجبت بالفاصلة كمقطوعة أدبية راقية الأداء رشيقة التعبير إلا أنني
أختلف معكم حول ما ترمي إليه، واختلاف المسلمين لا يفسد لودهم قضية، بل
أرى أن هذا الأداء الأدبي الراقي استعمل لتمرير وجهة النظر المؤيدة للشعر الحر
بطريقة ناعمة ممتعة.
وإذا سمحتم أن تسمعوا لأحد المتطفلين على مائدتكم الثقافية العامرة، فإني
أحب أن أذكر وجهة نظر أخرى، وقد عودتمونا على تقبل عرض آراء متنوعة
انطلاقاً من ممارسة واعية للنقد الذاتي.
فالناظر في التوضيح الذي جاء في الفاصلة يَخْلُص إلى أن المراد توضيحه
نقطتان:
أولاً: الشكل الشعري لبعض قصائد الشعر المنشورة، التي أُطلق عليها
تجاوزاً (شعر التفعيلة) .
ثانياً: الغموض الشعري في بعض القصائد المنشورة.
والناظر في القصائد المنشورة بالبيان الأدبي يلحظ امتزاج النقطتين غالباً،
وكأن هناك علاقة عضوية بين الغموض والشعر الحر.
ففي الشكل ذكرتم ما خلاصته: أن الالتزام يكون بالفصحى وعدم العبثية
والشكلية المحضة مع قبول أشكال أدبية جديدة لا يعترضها (نص شرعي صريح،
أو رأي فقهي صحيح) .
ولنراجع مقاطع بعض النصوص الشعرية على ضوء (معبر) شعر التفعيلة
الذي ذكر في صدر (الفاصلة) ، ولن نذهب بعيداً، بل سنطوي صفحة واحدة بعد
نهاية (الفاصلة) لنقرأ:
(باسم كشف السر عن خارطة الأموات (دي جاما ... ) .
ثم: (يرسم: المدخل والمخرج، والأبعاد، هبوب الريح، هزات المدارات،
المضيقات ... ) .
على أي تفعيلة هذا الشعر؟ ! بل ما الفرق بينه وبين النثر غير أنه متقطع
السطور؟ ! ولنبحث في القصيدة نفسها عن الفصحى في مثل: (في علبة
ديتولٍ) ... (لم ينس التنوين) و (خلطة كيك!) (دوزن ناظريك) ، فهكذا يشمل التفلت من الفصحى المفردات اللاتينية والمولّدات الفارسية.
وإذا كنا ننزهكم عن العبثية في المعنى، فإن العبثية في الشكل تجاوزت
التغاضي عن ذريعة (التفعيلة) لتصل إلى (العدمية) ، ومن يريد التأكد فليراجع
قصيدة (معالم) في العدد (٨٤) ، حيث نلاحظ الشعر النقطي! :
(يدعم الأكبر (قيصر) ! ! .........) (هكذا)
وفي العدد (٨٦) قصيدة (أهازيج دماء اليقظة) للشاعر نفسه:
(صوت ٤.... . سْ) (هكذا: سين مفردة ساكنة بعد حشد نقطي) .
ولكن في العدد (٨٩) التطويري: تطورت الأبيات النقطية عدداً فبلغت ثلاثة
أبيات! ! .
وبالطبع فلن نسأل عن التفعيلة ولا عن الفصحى لعدم وجود ألفاظ أصلاً،
وهذه المرة الأولى التي أشاهد فيها حسب اطلاعي المحدود شعراً يقرأ بل يُنظر ولا
يُلقى ولا يُسمع! ! ، وبالطبع فإن المعنى مدفون في أغور بطن الشاعر، والاجتهاد
في الوصول إليه مسؤولية كل منقّب!
وقد تمت هذه التجاوزات في نظري تحت دعوى مطلقة، هي: قبول أشكال
أدبية جديدة، في حين اعتبرتم أن الضابط لها: ألا يعترض هذه الأشكال نص
شرعي صريح أو رأي فقهي صحيح.
وإذ كنت أعتبر أن التجديد والمرونة ضروريان لانتعاش الإبداع الأدبي وعدم
خنقه، إلا أنه من غير المقبول إطلاق هذه الدعوى لتهدم وتبني الأشكال الأدبية
بزعم عدم معارضتها لنص شرعي أو رأي فقهي، فإذا كنا نقبل هذا الضابط في
الحكم على المعاني التي ترمي إليها الأهداف والغايات الموضوعية للإبداع الأدبي
إلا أنه لا يصلح وحده معياراً للحكم على الشكل الأدبي، بل نستطيع القول: إن هذا
يعتبر مدخلاً لدعاة تكريس العامية بدل الفصحى، ولدعاة كتابة العربية بأحرف
لاتينية، فالتعامل الجاف المتعسف مع النصوص الشرعية والآراء الفقهية لا يمنع
ذلك إذا كانت وحدها هي المعيار في قبول أو رفض الشكل الأدبي! ! .
والمسألة أكبر من مجموعة كلمات تفتقد إلى قافية وبحر شعري، فهي تعود
إلى هوية أمة تفقد شخصيتها بسقوط مشخصاتها تباعاً لتذوب في شخصية حضارة
أخرى، واللغة واللباس من أهم عناصر شخصية أي أمة، لذا: رأينا أتاتورك
حريصاً على تحويل ومسخ مظاهر هذه العناصر أثناء أَوْرَبة المجتمع التركي،
ورأينا أيضاً وعي بقية من علماء الدولة العثمانية بأبعاد هذا التحول فيما عرف
بمعركة القبعة والطربوش، فالمسألة ليست مجرد فتوى في غطاء رأس لم يأت فيه
نص شرعي (لاحظ أن الطربوش أيضاً ليس فيه نص شرعي صريح ولا رأي فقهي
صحيح! ! (ولكنها مسألة أمة يراد القضاء عليها حضاريّاً عبر هدم مشخصاتها.
ومن هنا أرى شخصيّاً أن هناك فرقاً بين قبول أشكال أدبية جديدة لم تكن
معروفة في الأدب العربي من قبل كالمسرحية والرواية والقصة والمقال وتغيير شكل
القصيدة الشعرية العربية ليوافق شكل القصيدة الأوروبية؛ فالشعر العربي لم نكتشفه
الآن حتى نحدد أو لا نحدد ملامح شكل بنائه، بل تطور عبر مراحل طويلة
استغرقت سنوات عديدة ليصل إلى كمال تجاوبه مع الذوق العربي ونغم العربية،
كما رأيناه في أول قصيدة جاهلية وصلتنا وحتى اليوم، وليس من المعقول الاستغناء
عن قواعد هذا البناء لمجرد أن الشعر الحر جديد ومستحدث، فجدته وحداثته وحتى
قبوله ورواجه عند الآخرين ليست مبررات لقبوله بدون تحقيق أو تمحيص شكلاً
مزاحماً لبناء القصيدة العربية التي حافظت على شكلها عبر آلاف السنين، ولم
يتغير هذا الشكل إلا بالتزام مزيد من الضوابط كما في الموشحات الأندلسية إثباتاً
لتفوق شعراء الأندلس والمغرب العربي على شعراء المشرق العربي وقتها.
فما الذي حدث حتى يحدث الانقلاب على القصيدة العربية؟ .
الذي حدث هو الهزيمة النفسية المريعة التي خيمت على عالمنا الإسلامي في
العصور المتأخرة:
فالشعر (الحر) لم يحدث إلا بعد الانبهار بحضارة العالم (الحر) المتمدين! ! .
والشعر (الحر) ارتبطت نشأته بأدباء مشبوهي التوجهات، مشبوهي الانتماء.
والشعر (الحر) استخدم فيه مبرر هدم قيم أخرى للأمة (الحرية (، فالزندقة
والإلحاد كانا باسم: (حرية الفكر والعقيدة) ، والانحلال وهدم الأسرة كانا باسم
(تحرير المرأة) ، والربا والاحتكار كانا باسم (تحرير الاقتصاد) و (السوق الحرة) .
فالهزيمة النفسية الأدبية جعلت الشعر الأوروبي معياراً للقصيدة، فلماذا لم
نحاكم الشعر الأوروبي إلى وزن وقافية القصيدة العربية؟ ! ! ولماذا لم تظهر
دعوات بهذا المعنى بين أدباء أوروبا؟ ! لأنهم يدركون اختلاف الذوق الأوروبي
والنغم اللاتيني عن الذوق العربي ونغم العربية، ولأنهم (تراثيون تقليديون) ؛ فشكل
قصيدتهم باقٍ كما هو لم يتغير، ولم يتغير إلا البناء الموضوعي، وهذا ما حدث
أيضاً في الشعر العربي الذي كان من تقاليده في القصيدة الجاهلية البدء بالمطلع
الغزلي، ثم الانتقال إلى أغراض شعرية أخرى، فتطور هذا البناء الموضوعي إلى
الوحدة الموضوعية للقصيدة.
حقّاً إن (الأديب يجب أن يكون حرّاً طليقّاً، إلا أنه لا بد من أن تكون هناك
مناطق تحريم ومناطق إباحة.. وأنه لا يكون فن ما لم تكن هناك أطر فضفاضة
ترعى، وضوابط وحدود تحمي (الفن) من أن تنتهك حرماته، فيختلط الفن بغير
الفن، والادعاء والشعبذة بالصدق والأصالة، فلا ضوابط تميز وتفرق بين هذا
وذاك.
الفن هو الاقتدار على الضبط، والبراعة في إحسان التحرك، وإجادة
التصرف والحركة في أضيق المساحات والمجالات وأدق الأطر، دون المساس بها
أو خدشها وتشويهها أو المروق عليها) [*] .
أما عن الغموض الشعري فإننا نطالبكم فقط بما جاء في (الفاصلة) : أن يتحلى
أدبنا بقدر من الوضوح، يجعله (امتداداً لنبل حسان (رضي الله عنه)) لا أن نكتفي
بكونه صالحاً للدرس في قاعات المحاضرات، وتحليل النقاد على صفحات الكتب
والصحف والمجلات، نطالبكم بالأدب الذي ينسل من بين دفات الكتب ويخترق
جدران القاعات ليخالط شغاف قلوب الجماهير المسلمة ليصنعوا منه أنشودة الأمل
الموعود، ويرموا بها قراصنة الأمم، بل قراصنة الفكر.
تعقيب
الأخ الكريم محمود عبد العزيز.. ها نحن نشرنا رأيك كاملا، احتفاءً منا
بالاستقبال المنتج الفاعل، الذي ننتظره من قرائنا تجاوباً وحواراً مع كل ما ننشره
على صدر المجلة، وسنعلق على عدد من النقاط التي أثرتها، مع تقديرنا لوجهة
نظرك وإن اختلفنا معها:
* لازلنا عند الضابط الذي حددناه في قبول الأشكال الأدبية، وهو (أن
لايعترضها نص شرعي صريح، أو رأيٌ فقهي صحيح) إذ إن أحكام الأوزان
الخليلية والنقد الجمالي في تراثنا ليس من الثابت المعصوم، بل هو كسب نسبي من
المتجدد الطامح إلى الأكمل والأجمل. فهو عطاء بشري، وليس وحياً شرعياً منزلاً
ملزماً، كما أن الذوق الجمالي ليس قيمة مطلقة، يمتلكها جيل دون جيل، أو أمة
دون أخرى، ومثلما أن إحلال الحرام بغير نص شرعي صريح، أو رأي فقهي
صحيح قولٌ على الله بغير علم، فإن تحريم الحلال مثله في الإثم، وإنما يختلف
الناس بأذواقهم، بناءً على بيئاتهم، وتجاربهم، ومعارفهم؛ ولذا فإننا نقدم ما
يرضي الذوق الخليلي، كما نرضي ذوق المحب للجديد من الأشكال الأدبية بتقنياتها
الجمالية المعاصرة، والنص المستكملُ لأدواته الفنية والجمالية على مستوى الشكل،
المنتظم في إطار الرؤية الإسلامية من جهة الدلالة مقدّمٌ على غيره عند النشر،
سواءٌ أكان عمودياً أو من شعر التفعيلة. وليس نشرنا للأخير مجرد حب للتجديد مع
أن حب التجدد نعمة في ذاتها ولكنه ضرورة تستحثنا كي نكون متفوقين، وحتى
نكون إشعاعاً لاظلاً! نمتلكُ أصول الأشكال الجمالية والفنية، ونواجهُ بها مضامين
الشعر العلماني الحديثة الخائبة.
وتكريسُ العامية بديلاً من الفصحى أو كتابة العربية بالحروف اللاتينية
مرفوضٌ بالرأي الفقهي الصحيح، المستقرئ للنص الشرعي من الكتاب والسنة، لا
بأمور أخرى كما يظن الكاتب الكريم.
* نهمس في أُذن أخينا حتى لايتعجل في الحكم، فنحن بالفعل إلى هذا العدد
لم ننشر إلا القصيدة العمودية أو شعر التفعيلة، وحتى النماذج التي ذكرها الأخ
الكريم، ليست من الشعر المنثور في شيء فما اجتزأه من قصيدة (جغرافيا الرقاب)
مثلاً يهيمن على إيقاعه تفعيلة (فاعلاتن (بتنوعاتها المذكورة في علم العروض، ولو
كتبنا الكلمات بلغة العروض الإشارية فسيكون (باسم كشف السر عن خارطه
الأموات دي جاما) .. هكذا: (/٥//٥/٥ /٥//٥/٥ ///٥/٥ /٥//٥/٥ /٥) وكذا
البقية؛ فهي ليست مجرد نثر متقطع السطور كما ذكرت. ثم إننا لانرفض النقد
الأدبي الواعي، لما ننشره من نصوص بل نبحث عنه، ونلح على ذوي الموهبة
المصقولة بالمعرفة أن يمارسوه على صفحات المجلة، غير أن النقد المنهجي للنص
الأدبي مشروط بالانطلاق من رؤية متكاملة له، لأن النص كائن حي، كل جزء
منه تتحدّد قيمته ووظيفته من خلال صلته ببقية الأجزاء، في شبكة من العلاقات
التي تُنتج بمجموعها تأثيرَ النص في وعي القارئ وعاطفته، كما تنتج دلالات
النص وإيحاءاته، أما اجتزاءُ سطر من نص شعري والنظر إليه معزولاً عن شبكة
العلاقات التي تجسده، وعن وظيفته الدلالية داخل النص باعتباره امتداداً لما سبقه،
وجسراً إلى مابعده، فإنه تمزيق للنص يشبه عمل من يقطع اليد من الجسد، ثم
يلوح بها متسائلا: ماقيمة هذه القطعة الميتة؟ مع أن النص المكتوب يستفيد من
إمكانات الرؤية البصرية في التعويض بالإشارات الكتابية عن الدلالات التي تقدمها
اللغة المنطوقة، ومايصحبها من تلوينات في الأداء، كدلالات النبر والتنغيم، مما
لايظهر في اللغة المكتوبة، وهي قدرات أفاد منها الإنسان كثيرا بانتشار الطباعة،
وحقق بها وظائف نفعية وجمالية عديدة.
أخيرا فإن تبادل التأثّر والتأثير بين الآداب أمر قديم مشهود، والتغيرات في
أجناس الكتابة الأدبية، وأشكالها، وتوصيفاتها الجمالية والفنية أمرٌ مشهود ومشترك
بين آداب الأمم المختلفة، والأمة الفاعلة الراغبة في التأثير يغيظها أن يكون على
الأرض ملمح من حق أو خير أو جمال ثم لاتمتلكه! .
التحرير الأدبي
(*) صالح آدم بيلو: من قضايا الأدب الإسلامي، ص ١١٨.