للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات تربوية

قاعدة الانطلاق وقارب النجاة

(١ ـ ٢)

فيصل بن علي البعداني

[email protected]

الحمد لله، والصلاة والسلام على نبيه ومجتباه، وبعد: فإن هذا الموضوع

مما يحتاج إلى التذكير به في كل مناسبة، والحديث عنه بين وقت وآخر؛ إذ هو

لب الدين، وعموده الأعظم، وعليه مدار النجاة وتحقيق سعادة الأبد. واللهَ أسأل

أن يلهمني الرشد، وأن يعم النفع بهذه السطور.

* منزلة الإخلاص:

الإخلاص هو حقيقة الدين. قال تعالى: [وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ

مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ] (البينة: ٥) ، وقال سبحانه: [فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ

الدِّينَ * أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ] (الزمر: ٢-٣) ، فقصر سبحانه «ما يصح أن

يدان به على الخالص منه، وهو المنزه عن شوائب الشرك قليله وكثيره، جليله

وحقيره، فأفادت الآية أن الإخلاص شرط في دين الإسلام، وهو دين الأنبياء

أجمعين. وطلب الإخلاص في جميع الشرائع دليل على عظم منزلة هذا الخلق

العظيم» [١] . وهو مفتاح دعوة المرسلين عليهم السلام، وأعظم الأصول التي

جاؤوا بها. وهو رأس أعمال القلوب التي هي أجل أعمال العبد وأعظمها قدراً [٢] ،

«فعمل القلب هو روح العبودية ولبها، فإذا خلا عمل الجوارح منه كان كالجسد

الموات بلا روح، والنية هي عمل القلب» [٣] . كما أنه شرط لقبول العمل وتحقق

الزلفى عند رب العالمين. ولجلالته وعظم منزلته أثنى الله على المتصفين به ونوه

بذكرهم؛ مما يوضح أن الإخلاص كان أبرز سماتهم وأخص خصائصهم فقال

سبحانه عن يوسف عليه السلام: [كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ

عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ] (يوسف: ٢٤) [٤] ، وقال تعالى عن محمد صلى الله عليه

وسلم: [قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ

مُخْلِصُونَ] (البقرة: ١٣٩) [٥] .

وفي المقابل جاء الوعيد الشديد لمن تخلى عنه، فقال تعالى: [إِنَّ اللَّهَ لاَ

يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء] (النساء: ٤٨) ، وقال سبحانه

عن المشركين: [وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُوراً] (الفرقان:

٢٣) ، «وهي الأعمال التي كانت على غير السنة، أو أريد بها غير وجه الله»

[٦] ، وقال صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛

من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه» [٧] ، وقال صلى الله عليه

وسلم: «من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله عز وجل، لا يتعلمه إلا ليصيب به

عرضاً من الدنيا؛ لم يجد عَرْف الجنة [يعني: ريحها] يوم القيامة» [٨] .

ولذا فالإخلاص مطلوب في جميع العبادات الظاهرة والباطنة؛ فلا يكفي أن

يتوجه العبد إلى الله في عمل دون عمل، أو في عبادة دون معاملة، قال ابن القيم:

«العمل بغير إخلاص ولا اقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملاً ينقله ولا ينفعه» [٩] .

* حقيقة الإخلاص:

الإخلاص لغة: تصفية الشيء وتنقيته وتخليصه مما يكدره [١٠] .

وللعلماء في المراد به شرعاً عبارات متقاربة مدارها على أن يريد العبد

«بطاعته التقرب إلى الله سبحانه دون أي شيء آخر؛ من تصنع لمخلوق،

أو اكتساب محمدة عند الناس، أو محبة مدح من الخلق، أو معنى من المعاني

سوى التقرب به إلى الله تعالى» [١١] .

ولقصد الرب بالعمل وإخلاصه له صور عدة؛ إذ من العباد من يعبد الله تعالى

تعظيماً له وتوقيراً، ومنهم الذي يقصد الدخول في طاعته وعبادته، ومنهم الذي

يطلب رضوانه ورضاه، ومنهم الذي يقصد الأنس به والتلذذ بطاعته وعبادته،

ومنهم من يرجو التنعم برؤيته في يوم لقياه، ومنهم من يطلب ثوابه من غير أن

يستشعر ثواباً معيناً، ومنهم من يطلب ثواباً معيناً، ومنهم من يخاف عقابه من

حيث الجملة غير ناظر إلى عقاب معين، ومنهم من يخشى عقاباً معيناً.

وتنوع المقاصد باب واسع، والعبد قد يقصد هذا مرة، وهذا مرة، وقد يقصد

أكثر من واحد من هذه المقاصد، وكلها تنتهي إلى غاية واحدة، وتعني في النهاية

شيئاً واحداً: أن العبد يريد الله سبحانه، ولا يريد سواه، وكل ذلك محقق للإخلاص،

وأصحاب هذه المقاصد على الصراط المستقيم، وعلى الهدى والصواب [١٢] ،

وإن كان لا ينبغي للعبد أن يخلي عبادته من قصد الحب لله المشوب بتعظيم، ومن

الخوف والرجاء؛ إذ قوام العبادة ومدارها على ذلك، والله أعلم.

* صعوبة الإخلاص:

مع وضوح الإخلاص وجلائه إلا أنه من أشق الأمور على النفس؛ لأنه يحول

بينها وبين تطلعاتها وشهواتها؛ فتحقيقه والاستمرار فيه يتطلب مجاهدة كبيرة،

وهذه المجاهدة لا تقتصر الحاجة فيها على عوام الناس فقط، بل الكل محتاج إليها

حتى العلماء والأشداء من الصالحين والعباد، يقول الثوري: «ما عالجت شيئاً أشد

عليّ من نيتي، إنها تقلب عليّ» [١٣] ، ويقول يوسف بن الحسين الرازي:

«أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، وكأنه

ينبت فيه على لون آخر» [١٤] ، ويقول يوسف بن أسباط: «تخليص النية من

فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد» [١٥] ، «فالنفس الأمارة بالسوء

تشين الإخلاص للعبد وتريه إياه» في صورة ينفر منها، وهي الخروج عن حكم

العقل المعيشي، والمداراة والمداهنة التي بها اندراج حال صاحبها ومشيه بين

الناس؛ فمتى أخلص أعماله ولم يعمل لأحد شيئاً تجنبهم وتجنبوه وأبغضهم

وأبغضوه « [١٦] ؛ ولذا فقد كان صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يدعو:» يا مقلب

القلوب! ثبت قلبي على دينك « [١٧] ، وكثيراً ما كان صلى الله عليه وسلم يكثر في

حلفه من قول:» لا ومقلب القلوب « [١٨] ، وذلك لكثرة تقلب القلوب وتحولها في

قصودها ونياتها.

* ثمرات الإخلاص:

للإخلاص ثمار عديدة، من أبرزها:

١ - دخول جنات النعيم: يدل على ذلك قول المولى جل جلاله: [إِلاَّ عِبَادَ

اللَّهِ المُخْلَصِينَ] ١٩ [* أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ

النَّعِيمِ] ،» فالناس كلهم هـ (الصافات: ٤٠-٤٣) لكى إلا العالمون، والعالمون

كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون « [٢٠] .

٢- قبول العمل: الإخلاص شرط لقبول العمل، قال صلى الله عليه وسلم:

» إن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتُغي به وجهه « [٢١] ،

وقال صلى الله عليه وسلم:» إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة ليوم لا

ريب فيه نادى منادٍ: من كان أشرك في عمل عمله لله فليطلب ثوابه من عند غير

الله؛ فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك « [٢٢] .

٣ - الفوز بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في الآخرة: قال صلى الله

عليه وسلم:» أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من

قلبه أو نفسه « [٢٣] ،» فمن كان أكمل توحيداً كان أحرى بالشفاعة « [٢٤] ،

و» الشفاعة لأهل الإخلاص، ولا تكون لمن أشرك بالله « [٢٥] .

٤ - تنقية القلب من الحقد: إذا حلّ الإخلاص في قلب هذَّبه من الآفات،

وحصَّنه من سيئ الصفات، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:» ثلاث لا

يَغِلُّ عليهن قلب امرىء مؤمن: إخلاص العمل لله، والمناصحة لأئمة المسلمين،

ولزوم جماعتهم « [٢٦] ، قال ابن عبد البر:» فمعناه: لا يكون القلب عليهن

ومعهن غليلاً أبداً، يعني: لا يقوى فيه مرض ولا نفاق إذا أخلص العمل لله، ولزم

الجماعة، وناصح أولي الأمر « [٢٧] .

٥- مغفرة الذنوب ومضاعفة الأجر: إذا تمكن الإخلاص من عمل كان سبباً

لمغفرة ذنب صاحبه ومضاعفة أجره؛ حتى لو كانت الطاعة في ظاهرها يسيرة أو

قليلة، يقول ابن المبارك - رحمه الله - في هذا الشأن:» رُبَّ عمل صغير تكثره

النية، ورُبَّ عمل كثير تصغره النية « [٢٨] ، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم

عن أعمال صغيرة غفر لأصحابها ببركة إخلاصهم، كحديث صاحب البطاقة التي

فيها» لا إله إلا الله «، وحديث البغيِّ التي سقت كلباً فغفر الله لها، وقصة الرجل

الذي أماط الأذى عن الطريق فغفر الله له، قال ابن تيمية:» فهذه سقت الكلب

بإيمان خالص كان في قلبها فغفر لها، وإلا فليس كل بغي سقت كلباً يغفر لها،

وكذلك هذا الذي نحَّى غصن الشوك من الطريق؛ فعله إذ ذاك بإيمان خالص،

وإخلاص قائم بقلبه فغفر له بذلك، فالأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من

الإيمان والإخلاص، وإن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحداً، وبين صلاتهما

كما بين السماء والأرض، وليس كل من نحَّى غصن شوك عن الطريق يغفر له «

[٢٩] . وهذا يبين سر تفاوت منزلة الناس في المنازل. قال ابن القيم:» واعتبر

هذا بحال الصدِّيق؛ فإنه أفضل الأمة، ومعلوم أن فيهم من هو أكثر عملاً وحجاً

وصوماً وصلاة وقراءة منه. قال أبو بكر بن عياش: ما سبقكم أبو بكر بكثرة صوم

ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في قلبه « [٣٠] .

وفي المقابل متى كان أداء العبد للطاعة بدون إخلاص لله وصدق معه كان

معرضاً للوعيد الشديد؛ لحديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة،

وهم شهيد وعالم قارئ ومنفق، عملوا من أجل أن يقول الناس: هذا شهيد، وهذا

عالم، وهذا منفق [٣١] ، وحديث:» لا تعلَّموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا

به السفهاء، ولا تخيروا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار « [٣٢] ، وحديث:

» إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر. قالوا: يا رسول الله! وما الشرك

الأصغر؟ قال: الرياء، يقول الله لهم يوم يجازي العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى

الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟! « [٣٣] .

٦ - الظفر بالنصر والتمكين: قال صلى الله عليه وسلم:» إنما ينصر الله

هذه الأمة بضعيفها؛ بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم « [٣٤] ، وقال:» بشِّر هذه

الأمة بالنصر والسناء والتمكين؛ فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في

الآخرة من نصيب « [٣٥] ، ومن تأمل في حياة سلفنا الصالح يجدهم لم ينتصروا إلا

بقوة إيمانهم، وزكاة نفوسهم، وإخلاص قلوبهم، وعملهم بعقيدة جعلوا كل شيء

وقفاً عليها [٣٦] ، يقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -:» فمن خلصت نيته

في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس « [٣٧] ، ومن كان الله معه

» فمن ذا الذي يغلبه أو يناله بسوء؛ فإن كان الله مع العبد فمن يخاف، وإن لم

يكن معه فمن يرجو، وبمن يثق، ومن ينصره من بعده؟! « [٣٨] .

٧ - نيل قبول الناس ومحبتهم: يضع الله سبحانه لصاحب الإخلاص القبول

والمحبة في قلوب الخلق بعكس المرائي الذي يطلب الشهرة ويسعى للحصول على

المنزلة في قلوب الناس، فالله يعامله بنقيض قصده، قال صلى الله عليه وسلم:

» من سمَّع الناس بعمله سمَّع الله به سامع خلقه، وصغّره وحقّره « [٣٩] ، وقال:

» من كانت الدنيا همه: فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته

من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته: جمع الله له أمره، وجعل غناه

في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة « [٤٠] .

وهذا مجاهد يقول:» إن العبد إذا أقبل إلى الله عز وجل بقلبه أقبل الله

بقلوب المؤمنين إليه «، وهذا الفضيل يقول:» من أحب أن يُذكر لم يُذكر، ومن

كره أن يُذكر ذُكر «! قال ابن القيم معلقاً على قول الفاروق:» لما كان المتزين

بما ليس فيه ضد المخلص فإنه يظهر للناس أمراً وهو في الباطن بخلافه.. عامله

الله بنقيض قصده ... ولما كان المخلص يعجل له من ثواب إخلاصه الحلاوة

والمحبة والمهابة في قلوب الناس.. عجل للمتزين بما ليس فيه من عقوبته أن شانه

الله بين الناس؛ لأنه شان باطنه عند الله، وهذا موجب أسماء الرب الحسنى

وصفاته العليا « [٤١] .

٨ - قلب المباحات إلى طاعات: إخلاص العبد وصلاح نيته يرتفع بعمله

الدنيوي ويصيره عبادة متقبلة، يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:» وفي

بضع أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟

قال: أرأيت لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟! فكذلك إذا وضعها في الحلال

كان له أجر « [٤٢] ، وقوله صلى الله عليه وسلم:» إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها

وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في فم امرأتك « [٤٣] ، فإذا كان هذا في

شأن الزوجة التي يكون معها هذا عادة عند الملاعبة والملاطفة والتلذذ بالمباح،

فغيرها من المباحات من باب أوْلى [٤٤] ، قال ابن تيمية:» إن الذي ينبغي أنه لا

يفعل من المباحات إلا ما يستعين به على الطاعة، ويقصد الاستعانة بها على

الطاعة، فهذا سبيل المقربين السابقين « [٤٥] . ولذا فقد كان السلف يكثرون من

استحضار النية الصالحة في المباحات، قال زبيد اليامي:» إني لأحب أن تكون

لي نية في كل شيء حتى في الطعام والشراب «، وعنه أنه قال:» اِنْوِ في كل

شيء تريده الخير، حتى خروجك إلى الكُناسة « [٤٦] ، وقال غيره:» من سره أن

يكمل له عمله فليحسن نيته، فإن الله عز وجل يأجر العبد إذا حسنت نيته حتى

باللقمة « [٤٧] .

وكما أن الإخلاص يرفع المباحات إلى منزلة الطاعات، فإن الرياء يهبط

بالطاعات المحضة فيقلبها معاصي شائنة؛ كما في قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ

آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ

وَالْيَوْمِ الآخِرِ] (البقرة: ٢٦٤) ، وكما في حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر

بهم النار [٤٨] .

ومما روي عن السلف في ذلك أن رجلاً قال» لعبادة بن الصامت: أقاتل

بسيفي في سبيل الله أريد به وجه الله تعالى ومَحْمَدة الناس؟! قال: لا شيء لك.

فسأله ثلاث مرات، كل ذلك يقول: لا شيء لك. ثم قال في الثالثة: إن الله يقول:

أنا أغنى الشركاء عن الشرك ... الحديث « [٤٩] ،» وسأل رجل سعيد بن

المسيب فقال: إن أحدنا يصطنع المعروف يحب أن يحمد ويؤجر؟ فقال له: أتحب

أن تمقت؟ قال: لا، قال: فإذا عملت لله عملاً فأخلصه « [٥٠] .

٩ - بلوغ النية الخالصة مبلغ العمل: صاحب النية الصالحة قد يعجز عن

عمل الخير الذي يصبو إليه؛ لقلة ماله، أو ضعف صحته، وقد يجتهد في فعل

الخير ولا يدرك موقعه، ولكن الله المطلع على خبايا النفوس يرفع المخلص إلى

مراتب العاملين الموفقين؛ لأن علوّ همته وصدق نيته أرجح لديه عز وجل من

عجز وسيلة عبده وقلة حيلته، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:» إن أقواماً خلفنا

بالمدينة ما سلكنا شِعْباً، ولا وادياً إلا وهم معنا! حبسهم العذر « [٥١] ، وفي رواية

مسلم:» إلا شركوكم في الأجر « [٥٢] ، ويقول صلى الله عليه وسلم:» من أتى

إلى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل، فغلبته عيناه حتى أصبح، كتب له

ما نوى، وكان نومه صدقة عليه من ربه عز وجل « [٥٣] ، ويقول صلى الله عليه

وسلم:» من سأل الله الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه «

[٥٤] ، وفي الحديث الآخر: ذكر الرجل الذي رزقه الله علماً، ولم يرزقه مالاً

فتمنى مثل مال فلان ليعمل عمله الصالح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:» فهما

في الأجر سواء « [٥٥] .

والنية الصالحة تنيل صاحبها الأجر وإن لم يوفق المخلص لوضع الأمر في

موضعه، كما في قصة الذي تصدق على زانية وعلى غني وعلى سارق [٥٦] .

١٠ - تنفيس الكرب والنجاة من الشدائد: الإخلاص سبيل الخلاص، وهذا

بيّن في قوله تعالى: [وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ *

فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُنذَرِينَ * إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ المُخْلَصِينَ] (الصافات: ٧١-

٧٤) ، وقوله عز وجل: [وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ

فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ] (لقمان:

٣٢) ، وحديث الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه

الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فكان كل واحد منهم بعد أن يذكر عملاً

صالحاً قام به يقول: اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه،

فانفرجت الصخرة عنهم، وخرجوا يمشون [٥٧] ، وحديث سعد بن أبي وقاص -

رضي الله عنه - في فتح مكة، وفيه:» ... وأما عكرمة فركب البحر، فأصابتهم

عاصف، فقال أصحاب السفينة: أخلصوا، فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً ها هنا،

فقال عكرمة: والله لئن لم ينجني من البحر إلا الإخلاص لا ينجيني في البر غيره،

اللهم إن لك علي عهداً إن أنت عافيتني مما أنا فيه: أن آتي محمداً صلى الله عليه

وسلم حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفواً كريماً. فجاء فأسلم « [٥٨] .

١١- الحفظ من كيد الشيطان: يكيد الشيطان للعبد ويزين له سوء عمله،

وبإخلاصه في عمله وصدقه في نيته يحفظه الله تعالى ويعصمه من وسوسة الشيطان

ومكره، يدل على ذلك قوله تعالى عن الشيطان: [قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ

* إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ] (ص: ٨٢-٨٣) [٥٩] أي: إلا الذين أخلصوا

العبادة والإيمان لك فإنه لا سبيل لي عليهم [٦٠] ؛ فإخلاصهم كان سبباً في حفظهم من

إضلال الشيطان وإغوائه. قال أبو سليمان الداراني:» إذا أخلص العبد انقطعت

عنه الوساوس والرياء «. وكان معروف يبكي ثم يقول:» يا نفس كم تبكين!

أخلصي تتخلصي « [٦١] ، وقال ابن تيمية:» وإذا كان العبد مخلصاً له اجتباه

ربه فيحيي قلبه، واجتذبه إليه فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء والفحشاء،

... ومن لم يكن خالصاً لله عبداً له ... استعبدته الكائنات، واستولت على قلبه

الشياطين، وكان من الغاوين إخوان الشياطين، وصار فيه من السوء والفحشاء

ما لا يعلمه إلا الله، وهذا أمر ضروري لا حيلة فيه، فالقلب إذا لم يكن حنيفاً مقبلاً

على الله معرضاً عما سواه وإلا كان من المشركين « [٦٢] .

١٢ - نيل التوفيق والأنس والبركة: متى أخلص العبد لمولاه في عمله وفق

للصواب، ودخله الأنس، وأعطي الذخائر، وبورك له في العمل، قال مكحول:

» ما أخلص عبد قط أربعين يوماً إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه «

[٦٣] ، وحين قيل لحمدون القصار:» ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟ قال:

لأنهم تكلموا لعز الإسلام، ونجاة النفوس، ورضا الرحمن، ونحن نتكلم لعز

النفوس، وطلب الدنيا، ورضا الخلق « [٦٤] ، وقال ابن القيم:» ترك الشهوات

لله، وإن أنجى من عذاب الله، وأوجب الفوز برحمته، فذخائر الله، وكنوز البر،

ولذة الأنس والشوق إليه، والفرح والابتهاج به لا تحصل في قلبٍ فيه غيره، وإن

كان من أهل العبادة والزهد والعلم؛ فإن الله سبحانه أبى أن يجعل ذخائره في قلب

فيه سواه، وهمته متعلقة بغيره « [٦٥] .

ولكن لا بد لمن أراد نيل العطايا وتحصيل الهبات أن يتأكد فعلاً من تحقيقه

للإخلاص. قال ابن تيمية:» يذكر أن بعض الناس بلغه أنه من أخلص لله أربعين

صباحاً تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه، فأخلص في ظنه أربعين صباحاً

لينال الحكمة، فلم ينلها، فشكى ذلك إلى بعض حكماء الدين، فقال: إنك لم تخلص

لله سبحانه، وإنما أخلصت للحكمة. يعني: أن الإخلاص لله سبحانه وتعالى إرادة

وجهه، فإذا حصل ذلك حصلت الحكمة تبعاً، فإذا كانت الحكمة هي المقصود ابتداء

لم يقع الإخلاص لله سبحانه، وإنما وقع ما يظن أنه إخلاص لله سبحانه « [٦٦] .

١٣- النجاة من الفتن: يدل على ذلك قوله تعالى عن نبيه يوسف - عليه

السلام -: [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ

السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ] (يوسف: ٢٤) [٦٧] ، فأخبر سبحانه

أنه صرف عنه السوء من العشق والفحشاء من الفعل بإخلاصه؛ وذلك لأن القلوب

إنما تبتلى بذلك إذا كانت فارغة» من حب الله والإخلاص له؛ فإن القلب لا بد له

من التعلق بمحبوب؛ فمن لم يكن الله وحده محبوبه وإلهه ومعبوده فلا بد أن يتعبد

قلبه لغيره « [٦٨] .

يقول ابن القيم عن يوسف - عليه السلام -:» فلما أخلص لربه صرف عنه

دواعي السوء والفحشاء فانصرف عنه السوء والفحشاء ... فالإخلاص هو سبيل

الخلاص « [٦٩] ، قال بعض السلف:» العشق حركة قلب فارغ، يعني: فارغاً

مما سوى معشوقه « [٧٠] ، و» الشرك يدعو إلى الظلم والفواحش، كما أن

الإخلاص والتوحيد يصرفهما عن صاحبه « [٧١] .

* تحصيل الإخلاص:

لتحصيل الإخلاص طرق عدة، من أبرزها:

١ - قَدْر الله حق قدره: بمعرفة عظمته سبحانه وكماله وجلاله، وأنه عز

وجل الغني الكبير المتعال، القادر على كل شيء، العالم بخائنة الأعين وما تخفي

الصدور، الذي بيده النفع والضر وحده لا شريك له؛ فما شاء كان وما لم يشأ لم

يكن. وبمشاهدة منة الله تعالى وفضله وإحسانه، وأن العبد بالله لا بنفسه، وأن كل

نعمة منه وكل خير فمن جوده وإنعامه [٧٢] ، فحقوقه سبحانه عظيمة، والعبد

أضعف من أن يوفيه تعالى حقه، ويشكره على نعمه، وبهذا يقوى اليقين ويعظم

توجه العبد إلى بارئه وإخلاصه له.

٢ - تعلم الإخلاص: إذ العمل ثمرة العلم، قال يحيى بن أبي كثير:

» تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل « [٧٣] ، وقال عبد الله بن أبي جمرة:» وددت

أنه لو كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم،

ويقعد إلى التدريس في أعمال النيات ليس إلا ... ، فإنه ما أتي على كثير من

الناس إلا من تضييع النيات « [٧٤] .

٣ - تذكر ثواب الإخلاص وعاقبة ضده: ليصفو الإخلاص للعبد عليه أن

يتذكر ثواب الإخلاص وفضائله؛ فهو شرط قبول العمل، والسبيل الوحيد لدخول

الجنة، وبوابة السلامة من كيد الشيطان ووسوته. وفي المقابل لا بد من تذكر عاقبة

فقد الإخلاص؛ إذ ذلك يحبط عمل العبد، بل قد يودي به إلى النار، ويكون سبباً

في فضيحته في الدنيا والآخرة، كما جاءت بذلك النصوص، ومنها: قوله تعالى:

[مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ *

أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا

يَعْمَلُونَ] (هود: ١٥-١٦) ،» أي من أراد بعمله ثواب الدنيا عُجِّل له الثواب،

ولم ينقص شيئا في الدنيا، وله في الآخرة العذاب؛ لأنه جرد قصده إلى الدنيا،

وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» ؛ فالعبد إنما يعطى

على وجه قصده، وبحكم ضميره « [٧٥] .

٤ - مراقبة النفس ومجاهدتها: بحيث يراقب المرء نفسه قبل الإقدام على

العمل، سائلاً إياها: ماذا أرادت به؟ فإن كانت النية سليمة أقدم، وإن كانت غير

ذلك صحح قصده قبل أن يلج بوابة العمل، وقد كان ذلك هدياً ظاهراً للسلف. قال

الحسن:» كان الرجل إذا همَّ بصدقة تثبَّت؛ فإن كان لله مضى، وإن خالطه شك

أمسك « [٧٦] ؛ أي يمسك حتى يصحح نيته ويراجعها، وليس المراد أن يترك

العمل بالكلية خوف الرياء، بل المطلوب أن يأتي بالعمل بإخلاص. قيل لنافع بن

جبير:» ألا تشهد الجنازة؟ قال: كما أنت حتى أنوي، قال: ففكر هُنَيَّة، ثم قال:

امض « [٧٧] .

٥ - الاستعانة بالله: وذلك بأن يظهر العبد افتقاره إلى الله عز وجل، ويكثر

من الدعاء والتوسل إليه تعالى بأن يوفقه للإخلاص؛ إذ هو سبحانه مقلب القلوب

ومصرفها، فالاستعانة بجنابه هي الطريق القويم لتحصيل الإخلاص ودفع ضده،

ولذا فرض الله على العبد أن يردد في اليوم الواحد مراراً: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ

نَسْتَعِينُ] (الفاتحة: ٥) أي: نعبدك وحدك، ونستعين بك على عبادتك؛ إذ لا

حول لنا ولا قوة على فعل ذلك إلا بك. ولدور الاستعانة العظيم في تحقيق

الإخلاص ومفارقة الشرك جاء في الكتاب العزيز من دعاء إبراهيم الخليل - عليه

السلام -: [وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ] (إبراهيم: ٣٥) ؛ أي: يا الله!

باعدني وبنيَّ عن جانب الشرك، واجعلنا من أهل الإخلاص والتوحيد [٧٨] .

وجاء عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم تعليمنا الاستعاذة بالله والاحتماء

به؛ فعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال:» خطبنا رسول الله صلى

الله عليه وسلم ذات يوم فقال: أيها الناس! اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب

النمل. فقال له من شاء الله أن يقول: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا

رسول الله؟ قال: قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً نعلمه،

ونستغفرك لما لا نعلم « [٧٩] . فأكثر من الاستعانة، وألح في الطلب؛ فإن من

يكرر الطَّرْق ويشتد فيه يوشك أن يلج.

٦ - الإكثار من الطاعات: مراد الشيطان من العبد أن يترك الطاعة بالكلية أو

أن يأتي بها على غير وجهها» نية أو كيفية «، فإذا عرف الشيطان أن العبد

يراغمه ولا يطيعه، وأنه متى أحدث له وسوسة زاد العبد من تعبده وإخلاصه

ومتابعته، فإنه يكف عنه لكي لا يكون ذلك سبباً في زيادة حسناته، قال الحسن

البصري:» إذا نظر إليك الشيطان فرآك مداوماً في طاعة الله ملَّك ورفضك، وإذا

كنت مرة هكذا، ومرة هكذا طمع فيك « [٨٠] ، و» يروى عن الفضيل بن غزوان

أنه قيل له: فلان يذكرك أي بسوء فقال: والله لأغيظن من أَمَره، قيل له: ومن

أَمَره؟ قال: الشيطان، اللهم اغفر له « [٨١] .

٧ - ترك الإعجاب بالنفس والمبالاة بالخلق: من أعظم مداخل الشيطان على

العبد دفعه له ليرى عمله ويعجب به، ويطالع المخلوقين أثناء فعله. فأما العجب

بالعمل فمن باب الإشراك بالنفس [٨٢] ، وهو ناتج من استعظام العمل، ولذا فكأن

المعجب بعمله مانّ على الله تعالى بفعله، وهو بذلك ينسى نعمته سبحانه عليه

بتوفيقه له لفعل الطاعات. قال تعالى: [يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ

إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ] (الحجرات:

١٧) ، وهو أمر محبط للعمل. وعلاجه: أن يستحضر منة الله عليه في كل شيء؛

فهو خالقه وممده بالقوى ومعلمه وموفقه ... فماذا للعبد من هذا؟! وأما مطالعة

المخلوقين والاهتمام بنظرهم، وحب حمدهم وكراهية ذمهم في الطاعات؛ فمن باب

الإشراك بالخلق [٨٣] . وداعي النفس إليه قوي؛ إذ النفوس مجبولة على حب أن

يكون لها منزلة في قلوب الخلق [٨٤] .

وطريق العبد لتجاوز ذلك: تذكُّر قوله صلى الله عليه وسلم:» واعلم أن

الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو

اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت

الأقلام، وجفت الصحف « [٨٥] .

ومما يبين أن مدح الناس وذمهم لا يغني العبد من الله شيئاً أن الأقرع بن

حابس لما نادى من وراء حجرة النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: إن مدحي زَيْن

وذمي شين، رد عليه صلى الله عليه وسلم بقوله:» ذاك الله « [٨٦] .

قال ابن القيم:» لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والطمع فيما

عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار، والضب والحوت، فإذا حدثتك نفسك بطلب

الإخلاص، فأقبل على الطمع أولاً فاذبحه بسكين اليأس، وأقبل على المدح والثناء

فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في

الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص « [٨٧] ، فمراءاة الآخرين والاهتمام بنظرهم لا

تجلب للعبد نفعاً ولا تدفع عنه ضراً، بل إنها تجلب مقت الناس وسخطهم، كما قال

صلى الله عليه وسلم:» من سمَّع سمَّع الله به، ومن يرائي يرائي الله به « [٨٨] .

٨ - مصاحبة الأخيار: الصحبة مؤثرة في إصلاح الحال وإفساده، فـ

» الطباع مجبولة على التشبه والاقتداء، بل الطبع يسرق من الطبع من حيث لا

يدري « [٨٩] ، فمن جالس المخلصين تحرك الإخلاص لديه، ومن خالط أهل

الرياء والسمعة تأثر بهم.

٩ - التأسي بالمخلصين: المحاكاة الواعية هي الأسلوب الأمثل لإعادة تحقيق

ما نجح الآخرون في فعله على نحو دقيق؛ فالقدوة الحسنة مثال حي يثير في النفس

التقدير والمحبة، ويقنعها بإمكانية الوصول للكمال، ويحفزها للعمل على بلوغه

[٩٠] . وسبيل معرفة إخلاص المخلصين مطالعة سيرهم والنظر في تراجمهم؛ إذ

فيها هدي القوم وسمتهم، قال أبو حنيفة:» الحكايات عن العلماء ومجالستهم أحب

إليَّ من كثير من الفقه؛ لأنها آداب القوم وأخلاقهم « [٩١] ، ومن قرأ في سيرة

النبي صلى الله عليه وسلم وسير أصحابه الكرام ومن تبعهم بإحسان رأى من صور

الإخلاص ما يبهر اللب ويشعل جذوة الإيمان.

١٠ - اتخاذ الإخلاص هدفاً: كثيرون هم أولئك الراغبون في الإخلاص،

لكنِ المخلصون منهم قلة؛ ذلك أن رغبتهم تلك لم تتخذ هدفاً، فتترجم إلى ممارسة

وعمل، فإذا أردت أن تكون مخلصاً فاجعل الإخلاص هدفك الذي تريده وتتجه إليه

دوماً، ثم عليك أن تقرر استعدادك لدفع ثمن تحقيق ذلك الإخلاص وتحويله إلى

سلوك معاش في حياتك، وبادر إلى دفع ذلك الثمن فعلاً، كأن تقطع الطمع عما في

أيدي الناس، وتترك التعلق بالدنيا واتخاذها غرضاً، وتكبح جماح نفسك وطمعها

الشديد في الحصول على حمد الناس وثنائهم؛ لأن من فعل ذلك فسيكون إن شاء الله

من القلة التي نهضت بالعمل مقابل تلك الكثرة التي تكتفي فقط بالإرادة والتكلم [٩٢] .


(١) أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة، للحداد: ١/١٦٠.
(٢) انظر: الإخلاص والشرك الأصغر، د / العبد اللطيف: ٤.
(٣) بدائع الفوائد، لابن القيم: ٣/١٩٢، وانظر: ٣/ ١٨٧ ١٩٣.
(٤) قرئ في السبعة بفتح لام (المخلَصين) ، وتأويلها: (إن يوسف من عبادنا الذين أخلصناهم لأنفسنا واخترناهم لنبوتنا) ، وقرئ بكسر اللام، وتأويلها: (إن يوسف من عبادنا الذين أخلصوا توحيدنا وعبادتنا فلم يشركوا بنا شيئاً، ولم يعبدوا شيئاً غيرنا) ، انظر: جامع البيان، للطبري: ١٦/٤٩ - ٥٠، المحرر الوجيز، لابن عطية: ٨/٢٨١.
(٥) انظر: أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة: ١/ ١٦٠ - ١٦١.
(٦) مدارج السالكين، لابن القيم: ٢/ ٩٠.
(٧) أخرجه مسلم (٢٩٨٥) .
(٨) أخرجه أبو داود (٣٦٦٤) ، وصححه الألباني.
(٩) الفوائد، لابن القيم: ٦٧.
(١٠) انظر: معجم مقاييس اللغة، لابن فارس: ٢ / ٢٠٨، المصباح المنير، للفيومي: ٩٤.
(١١) الرسالة القشيرية: ٢/ ٤٤٣.
(١٢) مقاصد المكلفين، للأشقر: ٤٠٩.
(١٣) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، للخطيب البغدادي: ١/ ٣١٧.
(١٤) جامع العلوم والحكم، لابن رجب: ١/ ٨٤.
(١٥) المرجع السابق: ١/ ٧٠.
(١٦) الروح، لابن القيم: ٣٩٢.
(١٧) أخرجه الترمذي (٢١٤٠) وحسنه.
(١٨) أخرجه البخاري (٦٦١٧) .
(١٩) قرئ في السبعة بكسر لام (المخلِصين) وفتحها، فالمعنى على القراءة الأولى: إلا الذين أخلصوا لله العبادة والتوحيد، وعلى الثانية: إلا الذين أخلصهم الله لطاعته وتوحيده، ومن كان مخلِصاً فهو مخلَص ولا بد.
(٢٠) مختصر منهاج القاصدين، للمقدسي: ٣٦٠.
(٢١) أخرجه النسائي (٣١٤٠) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (١٨٥٦) .
(٢٢) أخرجه ابن ماجه (٤٢٠٣) ، وحسنه الألباني.
(٢٣) أخرجه البخاري (٩٩) .
(٢٤) تعليقات ابن القيم على سنن أبي داود - مطبوع مع مختصر المنذري ومعالم الخطابي -: ٧/ ١٣٤.
(٢٥) الدين الخالص، لصديق خان: ٢/ ٣٠٧ - ٣٠٨.
(٢٦) أخرجه أحمد (١٦٢٩٦) وابن ماجه (٣٠٥٦) ، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (٢/١٨٢) .
(٢٧) التمهيد، لابن عبد البر: ٢١/٢٧٧.
(٢٨) سير أعلام النبلاء، للذهبي: ٨/ ٤٠٠.
(٢٩) منهاج السنة، لابن تيمية: ٦ / ٢١٨ - ٢٢٢.
(٣٠) مفتاح دار السعادة، لابن القيم: ١/ ٨٢.
(٣١) أخرجه مسلم (١٩٠٥) .
(٣٢) أخرجه ابن ماجه، (٢٥٤) ، وهو حديث صحيح.
(٣٣) أخرجه البغوي في شرح السنة (٤١٣٥) ، وإسناده قوي.
(٣٤) أخرجه النسائي (٣١٧٨) وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (٢/٦٦٩) .
(٣٥) صحيح ابن حبان (٤٠٥) ، وقال الأرناؤوط: إسناده حسن.
(٣٦) الرائد، للفريح: ١/ ٣٤.
(٣٧) السنن الكبرى، للبيهقي: ١٠/١٥٠.
(٣٨) إعلام الموقعين، لابن القيم: ٢/ ١٧٨.
(٣٩) أخرجه أحمد (٦٨٠٠) ، وصحح إسناده محققو المسند (١١/٥٧) .
(٤٠) أخرجه ابن ماجه (٤١٠٥) ، وهو حديث صحيح.
(٤١) إعلام الموقعين (٢/١٨٠) .
(٤٢) أخرجه مسلم (١٠٠٦) .
(٤٣) أخرجه البخاري - ٥٦ -.
(٤٤) انظر: شرح مسلم للنووي ١١/١١٢.
(٤٥) مجموع الفتاوى، لابن تيمية: ١٠/٤٦٠.
(٤٦) جامع العلوم والحكم، لابن رجب: ١/ ٧٠.
(٤٧) جامع العلوم والحكم، لابن رجب: ١/ ٧١.
(٤٨) أخرجه مسلم (١٩٠٥) ، وانظر: الرائد للفريح: ١/ ٣٦ - ٣٧.
(٤٩) إحياء علوم الدين، للغزالي: ٣/ ٢٩٦.
(٥٠) إحياء علوم الدين، للغزالي: ٣/ ٢٩٦.
(٥١) أخرجه البخاري (٢٨٣٩) ، وانظر: الرائد للفريح: ١ /٣٨.
(٥٢) مسلم (١٩١١) ، وانظر: الرائد للفريح: ١/ ٣٨.
(٥٣) أخرجه النسائي: ٣/ ٢٥٨، وانظر: صحيح سنن النسائي للألباني (١٦٨٥) .
(٥٤) أخرجه مسلم (١٩٠٩) .
(٥٥) أخرجه ابن ماجه (٤٢٢٨) ، وانظر: صحيح سنن ابن ماجه (٣٤٠٦) .
(٥٦) أخرجه البخاري (١٤٢١) ، ومسلم (١٠٢٢) ، واللفظ له، وانظر: فتح الباري، لابن حجر: ٣/ ٣٤١.
(٥٧) أخرجه البخاري (٢٢٧٢) ومسلم (٢٧٤٣) .
(٥٨) أخرجه النسائي (٤٠٦٧) ، وهو حديث صحيح.
(٥٩) قرئ في السبعة بكسر لام (المخلِصين) وفتحها، والمعنى على قراءة الكسر: إلا الذين أخلصوا لك في العمل، وعلى قراءة الفتح: إلا الذين أخلصتهم وطهرتهم، وإنما استثناهم لأنه علم أن كيده ووسوته لا تعمل فيهم لأنهم لا يقبلون منه، انظر: فتح البيان، لصديق خان: ٧/١٧٠، التحرير والتنوير، لابن عاشور: ١٤/٥١.
(٦٠) انظر: جامع البيان، للطبري: ١٧/ ١٠٣.
(٦١) سير أعلام النبلاء، للذهبي: ٩/ ٣٤١.
(٦٢) مجموع الفتاوى، لابن تيمية: ١٠/ ٢١٦ - ٢١٧.
(٦٣) مدارج السالكين، لابن القيم: ٢/ ٩٢.
(٦٤) انظر: صفة الصفوة، لابن الجوزي: ٤/ ١٢٢.
(٦٥) الفوائد، لابن القيم: ٢٧٧.
(٦٦) الفتاوى الكبرى، لابن تيمية: ٣/ ٣٦٢ - ٣٦٣.
(٦٧) قرئ في السبعة بكسر لام (المخلصين) وفتحها، والمعنى على الأولى أن يوسف عليه السلام كان ممن أخلص طاعته لله، وعلى الثانية: أنه كان ممن استخلصه الله للرسالة، وقد كان عليه السلام مخلصاً مستخلَصاً، انظر: فتح البيان، لصديق خان: ٦/ ٢١٥ - ٢١٦.
(٦٨) إغاثة اللهفان، لابن القيم: ١/ ٤٧.
(٦٩) مفتاح دار السعادة، لابن القيم: ١/ ٧٢.
(٧٠) زاد المعاد، لابن القيم: ٤/ ٢٦٨.
(٧١) الفوائد، لابن القيم: ١٢٢ - ١٢٣.
(٧٢) انظر: الإخلاص والشرك الأصغر، د / العبد اللطيف: ١٤.
(٧٣) حلية الأولياء، للأصفهاني: ٣/ ٧٠.
(٧٤) المدخل، لابن الحاج: ١/ ٥.
(٧٥) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي: ٩ / ١٧.
(٧٦) جامع البيان، للطبري: ٣/ ٧٠.
(٧٧) جامع العلوم والحكم، لابن رجب: ١/ ٧٠.
(٧٨) انظر: فتح البيان، لصديق خان: ٧/ ١٢٢.
(٧٩) أخرجه أحمد في المسند (١٩٦٠٦) ، وقال محققوه: (إسناده ضعيف لجهالة أبي علي الكاهلي) ، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب - ٣٣ -، وصححه في صحيح الجامع (٣٧٣١) .
(٨٠) الزهد، لابن المبارك: ٧.
(٨١) إحياء علوم الدين، للغزالي: ٣/ ٣١٤.
(٨٢) مجموع الفتاوى، لابن تيمية: ١٠/٢٧٧.
(٨٣) انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية: ١٠/ ٢٧٧.
(٨٤) انظر: مختصر منهاج القاصدين، للمقدسي: ٢١١، الإخلاص، للأشقر: ٩٦ - ٩٧.
(٨٥) أخرجه الترمذي (٢٥١٦) ، وصححه الألباني.
(٨٦) أخرجه أحمد (١٥٥٦١) ، والترمذي (٣٢٦٧) ، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (٣/ ١٠٧) .
(٨٧) الفوائد، لابن القيم: ٢١٨.
(٨٨) أخرجه البخاري (٦٤٩٩) .
(٨٩) تحفة الأحوذي، للمباركفوري: ٩/ ٤٩.
(٩٠) انظر: القدوة، لابن حميد: ١٠ - ١١، القدوة على طريق الدعوة، لمصطفى مشهور: ٣١.
(٩١) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر: ١/ ٥٠٩ رقم (٨١٩) .
(٩٢) انظر: قدرات غير محدودة، لروبينز: ٢٧.