من لقيادة العرب السنَّة في العراق؟!
صالح عبد الله الجيتاوي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحابته ومن والاه، وبعد:
فإن تبسيط المقدمات وتضخيم النتائج، آفة يعاني منها الوعي العربي والإسلامي، وأعراضها ظاهرة بقوة في أزمة العراق؛ فالجميع يتحدث عن التراجع الأمريكي والإخفاق المريع الذي مُنيت به إدارة بوش في تحقيق أهدافها من احتلال العراق على النحو الذي خُطط له سابقاً، وهذه حقيقة لا جدال فيها، لكن التحليلات المتداولة تتركز حول إخفاقات الأهداف النهائية والتصورات الكاملة، بينما عند التأمل الموضوعي بعيداً عن العاطفة والحماسة، نكتشف أن كثيراً من أهداف واشنطن المرحلية ـ للأسف الشديد ـ تحققت في العراق.
أبرز الأهداف المرحلية التي نجحت إدارة بوش في تحقيقها من خلال جهود متواصلة متراكمة طَوال أربع سنوات، هي تفريق الصف العربي السني وتشتيت مواقفه وتمزيق صفوفه؛ فلا أحد ـ ولا جهة ـ يمكنها حالياً احتكار التحدث باسم العراقيين السنَّة. هناك فصائل مقاومة متباينة فكرياً ومنهجياً، وهناك أطراف سياسية متخالفة، وأصبح لدى العراقيين تجمعان للعلماء يتبنيان توجهات متعارضة؛ فهناك (هيئة علماء المسلمين) المعروفة والمقبولة جماهيرياً، وتأسس مؤخراً (مجلس علماء العراق) ليتسع الاختلاف إلى الميادين الثلاثة لقيادة الأمة: المقاومة، السياسة، العِلم.
كانت الاستراتيجية المتبعة في تفريق العرب السنَّة ماكرة: جذب أحد الأطراف إلى العملية السياسية حتى ينغمس فيها، وترك الطرف الآخر يتجه إلى أقصى خانة المعارضة للاحتلال الأمريكي، وكانت النتيجة أن الطرف الأول يرفض انسحاباً فورياً للاحتلال، بينما ينادي به الطرف الثاني، وتفرق الرأي العام العراقي السني بينهما، وأدى الخلاف إلى إضعاف «هيبة» العلماء وقوة مرجعيتهم بعد أن علقت الجماهير عليهم آمالاً عريضة، وبلغت المأساة ذروتها والخديعة غايتها عندما تآمر الاحتلال مع الحكومة الشيعية على إبعاد (الشيخ حارث الضاري) رئيس هيئة علماء المسلمين وتحويله إلى «زعيم المعارضة» العراقية في الخارج، وكان محزناً الصمت ـ السني ـ الذي رافق المؤامرة وأعقبها.
انتقلت الخلافات السياسية إلى ساحة المقاومة، وبرزت آفة «الاحتكار» من جديد ليصبح الجهد المقاوم مشتتاً بين إثبات وجوده ونفوذه ومساحة تأثيره في الساحة العراقية السنية، وبين مواجهة الاحتلال وأذنابه، وتبادلت بعض الأطراف تهم الخيانة المستحقة للعقاب الذي تُرجِم في كثير من الأحيان إلى عمليات قتل وسفك للدماء.
شيئاً فشيئاً تآكلت المطالب السنية وتفرقت بين العشائر والأحزاب والفصائل، ويصعب على أي جهة حالياً إعلان قائمة محددة من المطالب باعتبارها متفقاً عليها من جميع الأطراف العربية السنية في العراق.
وبعد أن كان العرب السنة هم العقبة الأكبر في طريق النجاح التام للاحتلال، بدأت الآمال الأمريكية تنتعش من جديد في إمكانية «عزل» الخطر السني وإنهاكه داخلياً.
كانت الخطوة الأولى هي سلب العراقيين السنة قدرتهم على اتخاذ قرار موحد، ثم جاءت الثانية لتسلب القوى السياسية العراقية القدرة على اتخاذ قرارات مهمة ولو بصورة منفردة، ولذلك بقيت الأحزاب العراقية عاجزة عن مواجهة أي قانون أو قرار حكومي يتجاوز السنَّة، بل اتُخذت المشاركة السنية السياسية غطاءً لتمرير تنازلات لا حصر لها، لعل من أخطرها: الأغلبية الشيعية ـ الدستور العراقي ـ الفيدرالية ـ قانون النفط الجديد. ولا يمكن الطعن في هذه القوانين والقرارات بعد ذلك بالقول: إن العرب السنة تعرضوا للتهميش؛ فالأحزاب السنَّية الممثلة في البرلمان والحكومة تزعم تمثيلها لغالبية طائفتهم.
الغريب أن القوى السنية في العراق ترفع بحماسة شعار «عراق موحد» ، بينما تعجز عن تَمَثُّل هذه الوحدة في واقعها، ولا نفهم كيف يدعون إلى وحدة في إطار يشمل كل العراق بينما لم تتحقق هذه الوحدة في المناطق ذات الأغلبية السنية؟
ليكن معلوماً لدى سُنَّة العراق أن الرهانات الأمريكية قد تطورت؛ فلم يعد الرهان منحصراً في صراع شيعي ـ شيعي أو حتى سني ـ شيعي، الرهانات تتركز الآن على صراع سني ـ سني، ويوجد على أرض العراق فضلاً عن جنود الاحتلال أكثر من ١٢٠ ألف مرتزق يعملون في الشركات الأمنية الأمريكية وغيرها، بالإضافة إلى عشرات الآلاف من عملاء المخابرات الأمريكية والإيرانية والإسرائيلية، هؤلاء جميعهم يضعون ضمن أهدافهم المهمة تسخين الصراعات داخل المناطق السنية.
هناك عدد من الباحثين الغربيين المعنيين بشؤون الحركات الإسلامية، يعتبرون أن هذه الحركات تنزع للتوحد والتعاون عندما تكون في مرحلة المواجهة ضد عدو مشترك، ولكن عندما تلوح بوادر النصر تندلع بينها الخلافات والصراعات. الآن في العراق نشهد ملامح تغيُّر في هذه النظرية؛ فالخلافات بين الاتجاهات الإسلامية تمددت لتصل إلى مرحلة المواجهة مع العدو المشترك؛ فماذا يمكن أن يحدث إذا ما لاحت تباشير النصر؟
لقد بلغ التنافس بين الجهات والاتجاهات السياسية والعسكرية حد ادعاء كل تيار أو فصيل أنه يمثل الخطر الأكبر على الاحتلال الأمريكي.
مَنْ مِنَ الإسلاميين لم يقرأ عشرات المرات قول الله ـ عز وجل ـ: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: ١٦٥] ، وقوله ـ تعالى ـ: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: ٤٦] . البعض يريد تنقية الصف فيدمره، والبعض الآخر يريد توسعته فيخلخله. لقد أصبحت صفوف المسلمين عجباً؛ فهي تتسع ليصطف في جنباتها رموز شيعية وإيرانية، وتضيق عن استيعاب إخوة العقيدة والدين!
إن ذهاب قوة العرب السنَّة يكمن في تنازعهم وتفرقهم. وتمكُّنُهم وصمودُهم فرع عن توحدهم وترابطهم، هذا هو موطن القوة الرئيس، وبغير ذلك فإن خطاب العرب السنة في العراق وسلوكهم وأداءهم المقاوم والسياسي، سوف يلتقي في جوانب كثيرة منه مع المصالح الأمريكية؛ فواشنطن لا تريد استقراراً سياسياً أو أمنياً مطلقاً في العراق؛ فهي تريد من عمل المقاومة قدر ما يسوِّغ بقاءها وخطها الأمني، وتريد من الأحزاب السياسية تغطية سياساتها وإبراز العراق كنموذج سياسي ناجح في المنطقة، وإذا توجهت جهود هؤلاء وأولئك في جزء كبير من بعضهم ضد بعض، كان ذلك بمثابة الجائزة الكبرى للاحتلال، لكن عندما تتلاشى الاشتباكات والصراعات العَرَضية، وتتركز الجهود كلها على هدف أو أهداف واحدة فإن أيام الاحتلال في العراق تصبح معدودة.
من ناحية أخرى فإن تنازع العراقيين السنَّة فيما بينهم يقطع الطريق على المتحمسين العرب خارج العراق لدعمهم وتأييدهم، وسيفسح المجال للمتقاعسين كي يرددوا: كيف نساعد قوماً لا يعرفون ماذا يريدون؟ وستتجاذب القوى الإقليمية والدولية الأطراف العراقية السنُّية وتوظفها لخدمة مصالحها بحسب ما تقدمه لها من دعم وتأييد مقنن، وستصبح مشكلة العراقيين السنَّة في أنفسهم وليس في الدولة أو الدستور أو الفيدرالية أو الطائفية، عندها لن يكون للحديث عن استحواذ شيعي على الجنوب وانفصال كردي في الشمال أي قيمة، وستتوارى المخاوف من النفوذ الإيراني والانفصال الشيعي بدولة جنوبية خلف ضجيج الخلافات السنية.
إن جهود المخلصين من العرب والمسلمين، والصادقين من العراقيين السنَّة، يجب أن تتضافر لتوحيد الكلمة، وإعلان قائمة مطالب أو مبادئ رئيسة تصبح بمثابة ميثاق عمل لجميع الأطراف يتفقون عليها، وليختلفوا من بعدها كما يشاؤون، هذا الإعلان لن يتحقق إلا بتنازلات يقدمها الجميع، ولن يتحقق إلا بمبادرات الأطراف الخارجية الحريصة على مستقبل العراق، مع أهمية التأكيد على أن الوقت ليس في صالح العرب السنَّة؛ فكافة الأطراف ـ ما عداهم ـ يحققون مكاسب على الأرض ويتقدمون باتجاه أهدافهم، بينما لا توجد جهة سنية واحدة قادرة على قيادة الطائفة، ولا يُتوقع في الأجل القريب أن تستقل جهة ما بتحقيق نصر وانتصار على الاحتلالين الأمريكي والإيراني للعراق.
إن ما ذكرناه سابقاً عن تراجع أمريكي عن مستوى تحقيق الأهداف النهائية، ينطبق بصورةٍ ما على القوى السنية في العراق ـ وفي مقدمتها المقاومة ـ فهي نجحت في تحقيق أهداف مرحلية، ولكنها لم تتمكن من الوصول إلى أهدافها النهائية عندما يتراجع المشروعان الأمريكي والإيراني في العراق ويستحوذ العرب السنَّة على حقوقهم السياسية والاقتصادية المسلوبة.
إن أخطر ما يتهدد وحدة العرب السنة في العراق هو دعوى «الاحتكار» .. احتكار الحق أياً كان: في المقاومة أم في السياسة أم في العلم والدعوة، وعندما تقبل القوى السنية اقتسام الحق فيما بينها، ستتساقط أوهام القوة والنصر لدى أعدائها.
فهل تقبل هذه القوى أن تكون لها قيادة جماعية شُورية في العراق؟