[بندقيتي الحبيبة]
أ. د. نزار عبد القادر ريان
الليل يرخي مع الشتاء برودة تمتد في الأعصاب، ترتجف الضلوع، ترتعد الأوصال، تصطك أسنان العراة الجائعين، تعربد الطائرة فوق سطوح القرميد في المخيم، تهتز كل الدور، وينادي بمنع التجوال الرعديد الخائف من قلب الدبابة، فيخرج من لا يجد في قدميه حذاءً غير الأرض الباردة، المتسربل بالظلام والعري والفخار، يواجه المخرز اليهودي؛ فما أشبه الشروق بالشروق، وما أشبه الظلام بالظلام، لكنها الشمس توشك أن تزيل الليل والعَتَمَة، وتنشر الدفء والحياة، وتكشف الضباب، وتخرس المنادي بمنع التجوال، وتفقده الحياة.
قد أَلِفَ المجاهدون معالم الطريق، في الليل تُقتسم المهام مع الشباب المؤمنين، رَشْمُ الطريق بالمسامير المعكوفة مهمةُ مجموعة من مسجد الخلفاء، على طول طريق صلاح الدين، ورَفْعُ الأعلام على أعمدة الضغط العالي، مهمة مجموعة مسجد العودة، وعلى مجموعة مسجد الرضوان رفعها على المآذن والأشجار الشامخات، الأعلام موجودة في دار الأخت فايزة؛ فقد صنعتها ليلة أمس، كما أخبرتنا في النقطة الميتة، وهي تنتظركم لأخذها من النقطة نفسها، وعلى مجموعة مسجد النور أن تكتب على الجدران. لحُسْنِ الخط بُعدٌ في نفسية المجاهدين والمواطنين، وتأنَّقْ في الكتابة والتخطيط يا سعد! وزخرِفْ كلمة «حماس» وزيِّنها ببندقية وقنبلة وشامة، وكَحِّل الكلمات بالسواد؛ فإنها العروس زينة وعزة ودلالاً، واصبر على نار العدو؛ فالصبر والمصابرة يورثان النور في القلوب، ويبدع المصابرون، ويصنعون الفجر والإيمان.
كان نادر في بداية الانتفاضة ممتلئاً شباباً وقوة وعنفواناً، لكنه لم يكن يملك البندقية، كان طويلاً فارعاً، لا يمكنه أن يختفي في الأزقة الصغيرة، لكنه كان متقدماً علينا جميعاً؛ فقد يبيت الليلة كلها فوق جدار المدرسة، ينتظر وراء العبوة المصنوعة من عيدان الكبريت، لا يقبل البلل، لا يعرف البرد، الدفء في أعطافه مختزن من عبق الجهاد والمقاومة، قنبلة الكبريت كانت مرعبة، فما أن تقترب آليات اليهود حتى تنفجر، ويطلق الرصاص يمزق صمت الليل وصفوه، وتتوالى الأصوات، وتكون تجربة رائعة لنادر، آهِ لو نملك القنابل والبنادق، وكيف يمكن أن نملكها، إن لم تكن إلا من أيدي الجنود الغاصبين؟
ولمعت الفكرة المجنونة في رأسه: هل يُعقل أن نقتلهم ونغنم سلاحهم؟ هل يمكن ذلك؟ كانت فكرة غريبة لا يمكن تصورها، لكنها عزيمة المقاتل في سبيل الله.
في إحدى مزارع البرتقال شرق معسكر جباليا (شوكة فلسطين) ، كَمَنَ نادر بصحبة مجاهدين آخرين، يترقبون ويرصدون. عواء الضواري في المزارع ليلاً تقشعر له الأبدان، انطلاقة طائر مفزوع ترتعد لمفاجأته البوادر، صوت صافرة من بعيد يقترب، هذا (جيب) مغتصِبٍ ينتهب الأرض، يتوقف لحظة، يترجل ضابط مغتصِب، تشتد الأعصاب وتتواتر الأنفاس، يلتقط عن الأرض بياناًً من بيانات الانتفاضة، آهِ لو كانت معنا البنادق، آهِ وكيف السبيل؟ مرة أخرى تتوهج الفكرة المجنونة في رأسه، لا بد من بندقية، لا تقل لي من أين نأتي بالبنادق، لا تقلْ! سنحتفل يوم نملك أول بندقية بصورة خاصة، سنحتفل وسنشعل النار في قلوب الصهاينة المغتصبين.
تلك الليلة لم يتمكن المجاهدون من فعل شيء، كانوا سيكسبون الجولة لو كانت معهم البنادق، لكنهم تعرَّفوا عن قرب على ثغرات في أمن المغتصبين الصهاينة. إن توزيع بعض بيانات على الطريق العام (شارع صلاح الدين) يمكن أن يكرر المشهد، يمكن أن يترجل الغاصب كي يلتقط البيانات، يمكن عندها أن نلتقط قلبه برصاصتين، نرد بها على مجازرهم في مخيم بلاطة، نثأر للدماء النازفة في كل فلسطين.
في الليلة التالية كان نادر وإخوانه يتدارسون كيف يمكن الحصول على البنادق؟
بعد بحث عن الإبرة في تلة القش، وبعد تشتيت عيون البوم ليلاً، وتفريق الغربان في وضح النهار والكلاب، بعد عناء دام شهوراً، عَلِم نادر وإخوانه أن هناك رشاشاً لدى رجل ورثه عن أبيه الشهيد، يطلب به ألفاً وخمسمائة دولار، ولكن من أين نأتي بالدولارات، ونحن الفقراء، لا نكاد نجدها في بيوتنا ولو اجتمعت؟ وأخيراً، ذهبوا إلى تيسير؛ فقد كانوا يحسبون أن له من اسمه نصيباً، بل في اسم عائلته أيضاً فأل حسن، وهو حديث عهد بعرس، أفيصح أن نطرقه في ثلث الليل الأخير؟ لكنهم مضوا وكلموه أن يقرضهم بعض المال، فيعجب منهم، وأي مال معه؟ فهمسوا إليه: ذَهَبُ الزوجة قد يكفي لشراء بندقية قديمة، فخلعت أم حمزة الأساور الجميلة، ليفرح المجاهدون بالرصاص والبنادق.
وأخيراً اشترى نادر قطعة قديمة من رشاش الكارلوستاف، كان قديماً جداً، في عمره آنذاك، لكنها بندقية مقاتلة، والقِدَم لن يضيرها، والبركة في تاريخها وشرفها، أليست بندقية مجاهد شهيد؟ كان نادر يعجبه الفأل الحسن، لذلك كان يرى أنها بركة جهاد لا يصح أن تفارقه، ولو أعطوه بدله ألف بندقية.
حين مضى ثلث الليل الأول، انطلق نادر ورفيقاه شرق معسكر جباليا، هناك وسط مزارع البرتقال التي شهدت تجربته الأولى للبندقية، أطلق الرصاصتين الأُوليين، سمع الرصاص والنباح وفرار الطيور معاً، ولما مضى ثلثا الليل، في منطقة الزرقا، بجوار الحفرة القديمة شمال غزة، بجوار المطينة، أطلق نادر الرصاصتين الأخريين، عوت الكلاب في المزارع، وقفزت في كل اتجاه، مرة أخرى، واللهِ هذا فأل حسن! الكلاب واليهود يفرون من بنادقنا ورصاصنا. وطار نادر ورفاقه إلى مزارع البرتقال، بعد مئة متر داخل المزرعة قال نادر: البندقية صالحة، ونقد الرجل ثمن البندقية القديمة، ثم احتضنها بخشوع، وسجد ورفيقاه في الوحل والطين.
فاضت الدموع في مآقيها وأشرق الأمل، هذه المرة الأولى التي أمتلك فيها بندقية مقاتلة، ما أكثر البنادق في بلادنا، لكنها معطلة! أصبح عندي الآن بندقية، أصبحت في قائمة المجاهدين، بل في رأس القائمة. غداً غداً سنحمل البنادق، غداً غداً، والليل يشهد عودة المرابط، غداً غداً. وجعل يدق الأرض بقدميه، والمجاهدان وراءه بين سطور الشجر، كأنهم في طابور عسكري، كانت يومها نشوة الحصول على البندقية المصنوعة سنة تسع وخمسين، أفضل من الترسانة العربية الكبيرة في مخيلته آنذاك، والحق معه، فرْقٌ بين بندقية تقاتل، وطائرة تُحطَّم في مطاراتها السرية، وأرتال من الدبابات تصدأ في المخازن، وتصير عبئاً على العرب والبيئة معاً، فرق كبير، والعزة للرصاصة الصافرة في الهواء بالنشيد والحداء والتكبير، عائدون عائدون، إننا لعائدون.
(*) عضو القيادة السياسية لحركة المقاومة الإسلامية «حماس» .