[دعوية الحوار والتعاون مع الآخر]
د. عدنان علي رضا النحوي
لقد كثر الحديث في السنوات الأخيرة لدى عدد من الدعاة والكُتَّاب المسلمين عن أهمية الحوار مع «الآخر» وعن ضرورة الاعتراف «بالآخر» وعن ضرورة البرِّ والقسط إليه، إلى درجة يكاد يرفع، من خلال ذلك، بعض الكتّاب المسلمين «الآخر» فوق المسلم، ويحرصون عليه وعلى حقوقه ولا يلتفتون إلى المسلم وحقوقه، وعُقِدت مؤتمرات وندوات عن ذلك. وبعضهم يبني ذلك على قوله ـ تعالى ـ: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: ١٢٥] .
فيأخذون بعض هذه الآية ويتركون بعضها الآخر الذي هو الأساس. إنهم يقولون: يجب أن نتعامل مع هؤلاء وهؤلاء بالحكمة ونخاطبهم بالتي هي أحسن. وفي سبيل هذا الهدف يمكن أن نتنازل ونتعاون ونتقارب. وبذلك يلغون القاعدة التي قامت عليها الإشارة إلى الحكمة وما تلاها، ألا وهي: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ ... } ! تَركوا الدعوة إلى الإيمان والتوحيد، وأقاموا مكانها علاقات اجتماعية واقتصادية ومصالح مادية، وأخذوا من الآية الكريمة ما يظنّون أنه يسوّغ ما هم فيه من علاقات تطورت حتى أصبح فيها المسلمون يمتدحون مبادئ هؤلاء وفلسفاتهم ونظمهم وأدبهم وفكرهم. انقلبت الآية وأصبحنا نحن الذين نُدْعَى ولسنا الذين يدعون، على الأقل من الناحية العمليّة التطبيقية والنتائج الملموسة.
كيف يأمرنا الله أن ندعو هؤلاء من أهل الكتاب وغيرهم؟ وكيف تكون العلاقة معهم؟ فلنستمع إلى آيات الله البيّنات:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً * إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إثْمًا عَظِيمًا} [النساء: ٤٧ - ٤٨] .
إنَّ أوّل ما نفهمه من هذه الآية الكريمة هو أنَّ الدعوة إلى الإيمان والتوحيد، إلى الإسلام، دعوة واضحة جادّة صريحة، دعوة إلى التخلّي عن الشرك.
إنَّ المواربة في هذا الأمر أو المداهنة أو المساومة ليست أسلوباً يدعو له الإسلام أو يرضى به الله. إنَّ الله يريد أن تكون دعوته واضحة جليّة، وأن نُبلّغها كما أُنزلت على محمد -صلى الله عليه وسلم-.
فليست الدعوة إذن إلى التقارب مع «الآخر» فأيّ تقارب بين التوحيد والشرك؟ إنَّ قوة أهل الكتاب اليوم وسلطانهم الممتدّ يضغط على بعض المسلمين وعلى فكرهم، فتختلط الأمور تحت تأثير هذا الضغط.
لا بدَّ من أن نؤكِّد أنَّ أساس العلاقات هو الدعوة إلى الإسلام، وأن تكون الدعوة واضحة جليّة لا تدع لأحد عذراً يدّعي معه أنه لم يستوعب الدعوة، ويجب أن تكون الدعوة عامة على جميع المستويات، كما أنزلت من عند الله.
ولنستمع إلى آيات بيّنات أخرى توضّح ذلك:
{الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ * إنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إلَهٍ إلاَّ اللَّهُ وَإنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * فَإن تَوَلَّوْا فَإنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} [آل عمران: ٦٠ - ٦٣] .
وهذا أسلوب آخر من أساليب الدعوة إلى الإسلام يحمل خصائص الأسلوب السابق نفسها: الوضوح والجلاء، النهي عن المراء والمماراة؛ فإذا لم ينفع الجدل بإقناعهم بالحقّ من عند الله، فليجتمعوا ليدعوا أنَّ لعنة الله على الكاذبين. وأسلوب آخر:
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: ٦٤] .
أسلوب ثالث، ولكنه مثل سائر الأساليب، واضح جليّ حاسم. فإن لم يستجيبوا فيعلن المسلم إسلامه واضحاً جليّاً ويقول: «اشهدوا بأنا مسلمون» .
لقد عرضت هذه الآية الكريمة أُسس الخلاف وأخطر قضاياه، وحددت الموقف الإيماني الحاسم منها كلّها.
هذه هي الحكمة والموعظة الحسنة التي يريدها الله والتي أشارت إليها الآية من سورة النحل: قول الحقّ والصدق، الوضوح والجلاء، عرض أخطر القضايا.
فلم يكن القرآن يبحث عن العوامل المشتركة الأساسية في دعوة الآخرين من المشركين ومن أهل الكتاب وغيرهم كما يدّعي بعض المسلمين اليوم؛ إنَّما كان يعرض الحق ويدعو إليه. فأنَّى يكون بين التوحيد والشرك عوامل مشتركة؟ وإذا كانت هنالك عوامل مشتركة هم يؤمنون بها ونحن نؤمن بها؛ فلماذا ندعوهم إليها؟ فما ذكرته الآية الكريمة من سورة آل عمران: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ..} ، لا تعرض عوامل مشتركة، وإنما تعرض جوهر الخلاف والقضايا غير المشتركة لتذكّرهم بها؛ لأنَّها كانت هي أساس دينهم الذي حرّفوه، حتى أصبحوا بسبب التحريف مشركين. وإذا كانت كلمة «سواء» عاملاً مشتركاً فلماذا ندعوهم إليها؟
إنَّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ أمرنا أن ندعو أهل الكتاب إلى الحقِّ الذي فارقوه، وأمرنا أن نُجادلهم بالتي هي أحسن، دون أن نُغيّر حقيقة الدعوة وأهميتها وقضاياها تحت ادعاء «بالتي هي أحسن» :
{وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إلَيْنَا وَأُنزِلَ إلَيْكُمْ وَإلَهُنَا وَإلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: ٤٦] .
نعم! بالتي هي أحسن. إنها الأسلوب الذي يقنعهم بالحقِّ دون أيّ تنازل عنه. وهذا الحق هو الذي أُنزل إلينا فآمنَّا به وحفظه الله لنا، وهو الذي أُنزل إليهم كذلك فحرّفوه وبدَّلوه فأشركوا. ثم تكون النتيجة هي الحسم والفصل: «ونحن له مسلمون» .
لا بدّ أن يكون أسلوب الجدال يجمع قوة الحجّة، وصدق النيّة، وسلامة المنهج.
إنَّ الذي يعرضه القرآن الكريم من أجل التعامل مع «الآخر» وغيرهم في الأرض هو منهج متكامل متماسك، وليس قطعاً منثورة هنا وهناك. فلا بدّ حين نتحدّث عن هذا الموضوع أن نشير إلى هذا المنهج وإلى تكامله وإلى أسسه التي يقوم عليها، حتى تكون الصورة التي نعرضها أقرب للتقوى.
وحين لا نلتزم النهج أو لا نشير إليه وإلى أُسسه، ونكتفي بأخذ آية واحدة من هذا المنهج، فإنَّ الصورة ستختلف عندئذ كثيراً، والمصطلحات التي نستخدمها لا تنصف الدلالة المرجوة وقد تفارقها.
ويقول بعض الدعاة إنَّ الإسلام يدعو إلى التضامن مع «الآخر» ، لدرء المفاسد وجلب المصالح والمنافع للناس، كرفع الظلم ورعاية حقوق الإنسان وتعزيز الحريّة والعدالة وسائر المبادئ الإنسانية، ويستشهد على ذلك بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لقد حضرت في دار ابن جدعان حلفاً ما أُحبُّ أنَّ لي به حمر النعم، ولو أُدعى إليه في الإسلام لأجبت» [سيرة ابن هشام] .
حين يقال ذلك فإنه لم يُبيّن مَنْ هو «الآخر» أولاً، وما هي المفاسد وما هي المصالح، وما هي حقوق الإنسان وما هي الحريّة والعدالة والمبادئ الإنسانية، وما هو مقياس ذلك كله وميزانه؟ ومن الذي يحدّد المقاييس والموازين؟ إنّ حلف الفضول الذي كان في الجاهلية كان تعاهداً بين قبائل قريش: «على أن لا يَدَعوا بمكّة مظلوماً من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا أقاموا معه وكانوا على من ظلمه حتى تردّ إليه مظلمته» . لقد كان أولاً حلفاً على قضيّة محدّدة بين قبائل قريش، لهم على الظلم ميزان يحتكمون إليه في جاهليتهم. وبعض هذا الميزان خير وبعضه غير ذلك. فإن قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثه المذكور أعلاه فلا يعني أنه أقرَّ ميزان الجاهليّة لتحديد الظلم ولرفعه. ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم- في حديثه المذكور «لو أُدعى به في الإسلام لأجبت» . وهذا يعني أنه «في الإسلام» لن يكون إلا ميزان واحد هو ميزان الإسلام، وهذا هو الأساس الذي يقوم عليه التعاون في نظر الإسلام؛ حيث يكون ميزان واحد يميّز الباطل من الحقِّ.
ففي حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إقرارٌ لمبدأ التعاون على رفع الظلم، وتحديد للميزان الذي يحدّد الظلم. وكان «الآخر» آنذاك محدّداً معلوماً.
أما اليوم، فحين ندعو إلى التضامن مع «الآخر» فمن هو «الآخر» ؟ أليس هو الذي أجرى دماء المسلمين في فلسطين وفي العراق وأفغانستان وسائر بلاد المسلمين؟ أليس هو القوة المسيطرة التي تحكم في الأرض بموازينها المضطربة وشعاراتها المزخرفة ومكاييلها المتعددة؟
فيحقُّ لنا أن نتساءل: إذاً لماذا هذا الحرص على «الآخر» ، و «الآخر» ليس بحاجة إلى حرصنا عليه، ولا هو حريص علينا؟ ولماذا تُثار هذه القضية و «الآخر» يدير المجازر في ديارنا غير عابئ بأحد؟
وباستعراض تاريخنا وخاصة في العصر الحديث الذي نعيشه لا أجد أنَّ «الآخر» وجد عدالة وحياة أفضل مما وجدها بين المسلمين. لقد عاش النصارى في معظم أقطار العالم الإسلامي حياة مطمئنّة كريمة إلا في فترات قليلة من تاريخنا الإسلامي. فالنصارى واليهود لم يُظْلموا في المجتمعات الإسلامية، ولكن يعاقبون بمقدار ما يُكْشَف من تعاونهم مع أعداء الأمة حين يتلقّون منهم التوجيه، ويعملون حسب المخطط الذي يرسمونه لهم.
فمن قائل: يجب أن نُقْسِط مع الآخر، ومن قائل: يجب أن نعترف به. ونتساءل: ولِمَ لَمْ يكن الأمر على عكس ذلك بأن يقسط «الآخر» معنا ويعدل معنا؟ فهو الظالم المعتدي المنكِر لحقوقنا. ومن قائل: يجب أن ننفتح عليه. وهل هناك انفتاح أكثر مما نحن فيه؟ فُتِحَتْ له القلوب والديار؟ إنَّ الآخر بجميع صوره وأشكاله لم يجد في تاريخه أرحم ولا أعدل من الإسلام.
نحن المسلمين اليوم نجابه أخطاراً تحيق بنا من كلّ ناحية. وإنَّ أبسط أنواع التفكير يجب أن تدفعنا جميعاً لندرس نهجاً عمليّاً يعين الأمة على الخروج مما يُكاد لها ويُمْكرُ بها.
إننا بحاجة إلى أن نضبط فكرنا ونهجنا بقواعد الإيمان وحقائق الإسلام ونور الكتاب والسنّة، وفيه كلُّ ما يعين ويُنير الدرب والطريق.
يجب أن لا يدفعنا الإحباط والهوان إلى أن نتلمس النجاة عند «الآخر» . إنَّ سبيل النجاة بيّنه الله لنا وفصَّله، ليبتدئ من ذاتنا حين نتجه إلى الله ونغيِّر ما بأنفسنا، ولننطلق على صراط مستقيم.
إنَّ الإسلام، والإسلام وحده، مصطلحاً ومعنىً ونهجاً، هو الذي يُعلّمنا كيف نحترم أنفسنا وكيف نقسط مع أهل الأرض كلّها، وكيف نتعامل مع شعوب الأرض نحمل رسالة الله، نبلّغهم إياها ونتعهّدهم عليها، بها نُخاصِم وبها نرضى وبها نتعاون.
مهما شعرنا بعجزنا وضعفنا وهواننا، فإنَّ لحظة الرجوع الصادق إلى الله تحيي في نفوسنا الأمل، وتبعث فينا القوة والعزيمة، وترسم لنا الدرب والأهداف والوسائل والأساليب، في صورة عبادة لله، ووفاء بالأمانة التي حملها الإنسان والتي