[الرؤوس المفخخة]
د. عبد الله بن حمد العويشق
أطلت علينا في الآونة الأخيرة رؤوس ترتدي لباس التعقل والاستبصار و «التنوير» وتطلق صفات: التزمت والإسلاموية و «التفخيخ» على من تريد إقصاءه.
ومثل تلك المصطلحات تحمل عدة معانٍ وربما قصداً ـ ليتم تفسيرها بحسب الظروف والأهواء، كما في مصطلحات «حقوق الإنسان» و «الإرهاب» و «الحرية» و «الديموقراطية» و «الاستعمار» و «إعادة الإعمار» ... إلا أن التفخيخ وهو أحد تلك المصطلحات الجديدة وبخاصة حينما يضاف للرؤوس فإنما
وعندما ننظر ـ في المقابل ـ إلى تلك الرؤوس «المتعقلة» ! «المستنيرة» ! نجدها أكثر تفخيخاً، وأشد تدميراً ـ لو تحقق لها ما تريد ـ للأسباب التالية:
أولاً: أن أفكارها التدميرية قد غُطيت بعدة طبقات من الأغلفة البراقة.
ثانياً: أن التدمير الفكري يأخذ أبعاداً كثيرة، ويمتد تأثيره طويلاً.
ثالثاً: روحها الإقصائية في تناول الرأي الآخر؛ فلا مجال للحوار أو سماع وجهة نظره.
وقد برزت مظاهر التفخيخ في تلك الرؤوس في الجوانب التالية:
١ ـ أخذت تلك الرؤوس على عاتقها تبرير الغزو الأجنبي للعراق واحتلاله، مع أن الشرائع السماوية والقوانين البشرية لا تقر ذلك. وعلى الرغم من أن الإدارة الأمريكية حاولت الحصول على تفويض دولي فلم تفلح، وشنت حرباً غير شرعية لم تقرها الأمم المتحدة ولا مجلس الأمن. فبأي حق تروّج له تلك الرؤوس المفخخة، مع معرفتها بأن ذلك الغزو ـ كما هو معلوم ـ قام على أسس كاذبة، اعترف مقترفوها بذلك، واتضح للعالم أجمع عدم صحتها، ما عدا تلك العقول المفخخة التي ما زالت مظهرة تصديقها.
٢ ـ حاولت تلك الرؤوس الترويج للمقولة بأنها جاءت لمنح العراقيين «الحرية» و «الديموقراطية» ، والضغط على الدول المجاورة ـ وفي مقدمتها دول الخليج ـ لإجراء «إصلاحات» ، وإلا فإن مصيرها سيكون مثل العراق. صحيح أن التهديد بفرض الإصلاح خفت في الأشهر الأخيرة للمأزق الذي وقعت فيه أمريكا، لكن حليمة ستعود لعادتها القديمة إذا ما واتتها الفرصة. فهل تريد تلك الرؤوس المفخخة أن نصبح مثل العراق؟ يقول الأمين العام المساعد السابق للأمم المتحدة (دينس هاليدي) : «بوش الديكتاتور الأكبر للنظام العالمي لتورطه في جرائم الحرب في العراق وفلسطين وأفغانستان، إنها إرهاب دولة، وانتهاك صريح لمبثاق الأمم المتحدة، واتفاقية جنيف» ويضيف: «إن أمريكا تريد فرض هيمنتها ـ وليس الديموقراطية كما تدعي ـ لاستنزاف الموارد الطبيعية للعرب، وفي مقدمتها النفط» كما شبّه هاليدي الهيمنة الأمريكية على الوطن العربي بأنه «تسونامي أمريكي» .
٣ ـ لقد تعامت تلك الرؤوس عن الأهداف الحقيقية للغزو الأمريكي والتي تهدد مستقبل العالم العربي والإسلامي على المدى القريب والبعيد: دينياً وثقافياً واقتصادياً وعسكرياً وسياسياً، وإذا كانت قوات التحالف لا تفكر في الخروج من أفغانستان قبل عشر سنوات من الآن، كما أعلن ـ منذ أيام ـ القائد الألماني لتلك القوات؛ فكم من عشرات السنين تكفي لخروج الأمريكان طوعاً من العراق؟
٤ ـ حاولت تلك الرؤوس إلصاق التطرف بالاتجاهات الإسلامية والمناهج التعليمية، وطالبت بمحاصرتها وتجفيف منابعها، وبتعديل المقررات الدراسية. ولكنها تجاهلت أن حكومة بوش يسيطر عليها تحالف الصهاينة مع «المحافظين الجدد» ـ كما تقول ـ بل بلغ بتلك الرؤوس الحد إلى تزوير الحقيقة؛ فالترجمة الصحيحة لـ New born Christians)) النصارى الجدد، وليست «المحافظون الجدد» التي يريد أولئك أن يلبِّسوا الأمر علينا.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ فعندما أعلن بوش حربه الصليبية على الإسلام، انبرت تلك الرؤوس المفخخة إلى تأويلها، بل تجاهلت تصريحاته بأنه يخوض هذه الحرب بتوجيه من الرب، واعترافه بأن اعتقاداته هي التي توجه سياساته؛ فما علاقة المعتقدات بالسياسة في دولة علمانية؟ وقد أشار (لانس دكي) ـ كاتب افتتاحية (صحيفة سياتل تايمز) ـ إلى استغلال بوش وفريقه الانتخابي بقيادة (كارل روف) للمصطلحات الدينية في الحملة الانتخابية.
وفي الوقت الذي تدعو فيه تلك الرؤوس إلى تجفيف موارد المنظمات الإسلامية، نجدها تصم آذانها عن دعم حكومة بوش للمنظمات التنصيرية بمبلغ ١٧.١ مليار دولار في سنة ٢٠٠٣، كما جاء في تقرير نشر، وبرر بوش ذلك بقوله: «لأن المنظمات الدينية تقوم بعمل أحسن من غيرها» . لقد رأينا نموذجاً لهذا «العمل الحسن» في استغلال هذه المنظمات لكارثة تسونامي وسرقة أطفال المسلمين اليتامى في إقليم إتشه الأندونيسي، ووضعهم في مخيمات تنصيرية، والذي فضحته وسائل الإعلام العالمية.
وفي الوقت الذي تحاول تلك الرؤوس الفخخة إبراز الولايات المتحدة على أنها دولة علمانية، بعيدة عن الانتماءات الدينية، نجد المحللين السياسيين يؤكدون بأن التقارب بين (بوش) و (رايس) ليس فقط تقارباً سياسياً، بل هو أيضاً تقارب ديني؛ فـ (رايس) قد صُبغت دينياً بيدي أبيها القس ومدير الكنيسة، أما سياسياً فقد صنعها أستاذها اليهودي المتعصب المهاجر التشيكي (جوزيف كورييل) والد (مادلين أولبرايت) وزيرة الخارجية في حكومة كلنتون.
بل أشار المحللون إلى أكثر من ذلك، وهو أن العامل الأساسي في إعادة انتخاب بوش هو انطلاقه من معتقداته الدينية، على الرغم من إخفاقه سياسياً وعسكرياً واقتصادياً؛ فصورة الولايات المتحدة الأمريكية قد تدهورت دولياً، وحربها على ما تسميه «الإرهاب» قد أدى إلى زيادته، كما أن العجز في الميزانية بلغ حداً غير معقول؛ فعجز الميزانية في هذه السنة يعادل عجز الميزانية لأكثر من مائتي سنة منذ الاستقلال إلى سنة ١٩٨٦. فيعزون إعادة انتخابه إلى تدينه، على الرغم من إخفاقه في هذه المجالات كلها.
بل تلك الرؤوس تتجاهل ما هو أخطر من ذلك، فاعتراف منظمي حملة كيري ـ المرشح الديمقراطي للرئاسة ـ بأن سبب عدم فوزه هو إغفال العامل الديني، هو مؤشر خطير؛ لأنه سيدفع السياسيين إلى المزايدة في ركوب هذه الموجة، ليس داخل أمريكا فقط، بل ستنتشر عدواها في أوروبا وغيرها، وكما يقول أحد المحللين السياسيين الغربيين: «إن السياسي ليكذب كما يتنفس، يكذب حول معتقداته الدينية كما يكذب حول الوجبة التي تناولها البارحة» .
كما ركزت تلك الرؤوس على وصف الداعين إلى مقاومة الاحتلال ومجاهدة العدو بأنهم غير واقعيين، وأنهم بزعمهم ضحايا لمفردات ومصطلحات العصور الوسطى، لكنهم صموا آذانهم عن سماع التوجيهات التي يتلقاها الجنود ورجال البحرية الأمريكيون، ليس فقط من القساوسة ـ الذين هم جزء من الجيش ـ بل أيضاً من القادة العسكريين؛ فهي مشحونة بالعبارات الدينية. وكما ذكرت صحيفة (كريستان ساينس مونيتر) الأمريكية أن الجنود المهاجمين للفلوجة يتلون دائماً (مزامير داود) وخاصة (الإصحاح ٩١) الذي يحث على القتال والبطش بالأعداء، بل لو استمعت إلى ما قاله قائد الفرقة التي هاجمت الفلوجة لاعتقدت أنك أمام أحد قادة الحملات الصليبية القديمة: «مزقوا جسد العدو وأرسلوه إلى الله، يحفظكم الرب» . هذه العبارات لا تصدر من جيش يدعي العلمانية، ولكن الرؤوس المفخخة تصم أذنيها عن سماع مثل هذه الألفاظ.
٥ ـ في مقابل تعميق النزعة الدينية في السياسة الأمريكية، تلح تلك الرؤوس المفخخة على المطالبة بالضغط على المنظمات الخيرية في الدول الإسلامية والحد من النشاطات الدعوية وتعديل المناهج الدراسية، لتبادر حكومات تلك الدول بالتنفيذ، بل لا ترضى تلك الرؤوس إلا «إذا طلب الأمريكان منا أن نسير شبراً؛ فعلينا أن نسير ذراعاً» ، كما قال بعض المحللين.
٦ ـ لقد تعامت تلك الرؤوس المفخخة عن جرائم الحرب والتعذيب التي يرتكبها الأمريكيون في أفغانستان والعراق وغوانتنامو، والتي هزت العالم وأرعبته وكشفت سوءة أمريكا، ولكنها لم تجد منفذاً إلى تلك الرؤوس المفخخة، بل انبرت للدفاع عنها وتبريرها بصورة مشينة لم يجرؤ عليها الأمريكيون أنفسهم. وكشفت المنظمات الدولية بشاعة جرائم الحرب الأمريكية، كالصليب الأحمر الذي كتب مجموعة من التقارير، وكذلك منظمة مراقبة حقوق الإنسان الدولية التي نشرت عشرة تقارير موثقة عن فداحة انتهاك الأمريكيين لحقوق الإنسان في كل من العراق وأفغانستان وغوانتنامو، ولكشف مدى مصداقية أمريكا أرفقت تقريرين لوزارة الخارجية الأمريكية تنتقد فيهما بعض الدول ـ ومن بينها دول خليجية ـ لانتهاكها حقوق الإنسان في سنتي ٢٠٠٣ و ٢٠٠٤. إن ما جاء في تقريري وزارة الخارجية من مزاعم غبر موثقة لا يوازي في بشاعته حادثة واحدة من الجرائم التي ارتكبتها أمريكا. أين تلك الرؤوس من هذه الجرائم التي رآها العالم أجمع: لماذا تطالب الضحية بالتسامح، وتتغاضى عن المجرم؟ وكيف ترجع العنف إلى مناهجنا الدراسية وحلقات تحفيظ القرآن؟ وأين درس وتربى قادة الجيش الأمريكي وجنوده الذين ارتكبوا تلك الجرائم؟
٧ ـ صدّقت تلك الرؤوس المزاعم الأمريكية بأنها تشن هذه الحروب لمكافحة المنظمات الإرهابية، بينما تناست تلك الرؤوس أن أمريكا نفسها تمارس الإرهاب وتدعم دولاً تمارسه كالعدو الصهيوني، وبعض دول أمريكا الجنوبية، وقد بيّن د. عبد الرحمن العصيل ـ أستاذ العلاقات الدولية بجامعة الملك فهد ـ بأن الولايات المتحدة الأمريكية أحد أبرز مصدري الإرهاب في العالم؛ ففيها ٣٨٠ منظمة إرهابية، تتلقى دعماً سنوياً يصل إلى مائة مليار دولار.
٨ ـ لم تُدِنْ تلك الرؤوس جرائم الإبادة الجماعية التي اقترفها الأمريكيون في مطار بغداد، وبغداد نفسها، والفلوجة، والرمادي، وبعقوبة، والنجف، والموصل ... وقصفها بالصواريخ والمدافع وطائرات بـ ٥٢ والأسلحة المحرمة، وتدمير المساجد وتدنيسها، وهدم البيوت على رؤوس أصحابها المدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ، ومنع سيارات الإسعاف والإغاثة من معالجة الجرحى ونقل الموتى، كل ذلك لم يحرك ساكناً لدى تلك الرؤوس المفخخة ولم تنبس بكلمة. لقد أدت هذه الإبادة الجماعية إلى مقتل أكثر من مائة ألف مدني عراقي خلال الستة عشر شهراً الأولى من الحرب، كما جاء في تقرير علمي لأساتذة جامعتين أمريكية وعراقية. لم ترَ تلك الرؤوس هذه المذابح التي يرتكبها جيش نظامي، بينما تضخم عمليات محدودة يقوم بها أفراد ليس لهم قيادة موحدة، وعرضة للاجتهاد والاختراق.
٩ ـ بل بلغ التفخيخ في هذه الرؤوس حد وصف المقاومة العراقية بأنها هي المعتدية وأن الأمريكيين هم المعتدى عليهم؛ وعليه فإن المقاومة الفلسطينية هي المعتدية وإرهابية، وشارون هو رجل السلام، كما وصفته الإدارة الأمريكية. بل لو تعرض بلدنا للتهديد ـ كما جاء على ألسنة بعض الساسة ووسائل الإعلام الأمريكية ـ فعلينا ألاّ نقاوم حتى لا نعتدي على الغزاة. إن القوى الغازية لن تندحر إلا بالمقاومة، يقول الأمين العام المساعد السابق للأمم المتحدة دينس هاليدي: «إن المقاومة العراقية تمارس حقها المشروع لتحرير وطنها، وميثاق الأمم المتحدة ينص على حق الأفراد في الدفاع عن النفس في ظل الاحتلال» .
لقد سمع الفلسطينيون من أمثال أولئك كثيراً عن عدم جدوى المقاومة، وخبروا مخاطر هذا الاستسلام، فأدركوا أن المقاومة هي السبيل إلى النصر، مهما خذّل المخذلون، وأزبد المحبطون، وحذَّر المحذرون من قوة العدو عدداً وعدة، وهاهم اليهود الآن يستعدون للهرب من قطاع غزة، راجين أن تحفظ لهم القيادة الفلسطينية الجديدة ماء الوجه وتخفي ذل الهزيمة. لا أحد يتوقع أن يحزم الأمريكان حقائبهم ويهربوا من العراق في المستقبل القريب؛ فالأطماع في العراق كبيرة، والخطط الاستعمارية عريضة، ولكن المقاومة أطول نَفَساً، وهزيمتهم في قطاع غزة تأتي بعد سبع وثلاثين سنة.
١٠ ـ الدعوة الملحة من تلك الرؤوس المفخخة إلى الاستسلام وترك المقاومة ما هو إلا حلم ووهم تمني نفسها به، كما توهم الغزاة بأن الشعب العراقي سيقابلهم بالورود، فلجأت هذه الرؤوس إلى التخذيل تارة، وإلى التخويف تارة أخرى، وإلى التلويح بمخاطر الحرب الأهلية. إن الأمريكان لن يدَّخروا وسعاً في إشعال حرب أهلية عندما تتحقق هزيمتهم. ولكن تلك الرؤوس لم ترَ ما تفعله أمريكا لزرع أسباب الفرقة في العراق؛ فهي تسعى لتقسيم أرضه عرقياً وطائفياً، وتوزيع المناصب السياسية عرقياً وطائفياً في الحكومتين الانتقالية والمؤقتة، بل الأسوأ من ذلك «السماح» بنهب كميات كبيرة من الأسلحة من مواقع تجميع الأسلحة، على الرغم من التحذيرات المتكررة التي قدمتها منظمة مراقبة حقوق الإنسان لقادة الجيش الأمريكي، وشكوى المنظمة من تجاهل هؤلاء القادة لتحذيراتها، كما جاء في عدة تقارير لها. إن هذه الأسلحة ستكون وقوداً لتلك الحرب الأهلية. إن المراهنة على نشوب حرب أهلية في العراق لن تُفلح كما جرى لمحاولة الإسرائيليين في غزة.
١١ ـ طُعْم آخر يعلقه أمامنا أولئك المتأمركون، وهو بناء العراق الحديث. ولكن من قال إن عليك أن تدمِّر بلداً كاملاً لتجعله حديثاً؟ ألم يصل مستوى إدراك تلك الرؤوس المفخخة عقل ذلك الطفل الأمريكي ـ الذي رأى قصف الجيش الأمريكي لبغداد بالطائرات والصواريخ والمدفعية في بداية الحرب ـ فسأل أباه: ماذا يصنع هؤلاء؟ فأجاب أبوه: يحررون العراقيين. فقال الطفل: أرجو ألاّ يأتوا لتحريرنا. لقد أغمضت تلك الرؤوس عيونها عن مغامرات أمريكا التحريرية الفاضحة في أمريكا اللاتينية؛ حيث نصبت مجموعة من الحكام الدكتاتوريين دعماً منها للديموقراطية وبناء الدول الحديثة، أما بناء الدولة الحديثة في العراق فيتطلب ـ بحسب النظرة الأمريكية ـ تمثيلاً نسبياً جنسياً وطائفياً وعرقياً، وهذا وضع تؤثرنا به على نفسها؛ فمجلس الشيوخ والكونجرس ليسا ممثلين نسبياً؛ فالمرأة الأمريكية ـ كاملة التحرير ـ لم يصل تمثيلها إلى عشرين بالمائة، أما التنوع الديني فلم يجد طريقه إلى هذين المجلسين، أما التمثيل العرقي فقد استأثر الأنجلو ـ ساكسون بنصيب الأسد.
١٢ ـ سقوط الأقنعة عن تلك الرؤوس المفخخة التي تحاول تبييض وجه السياسة الأمريكية، وكلما حاول كل واحد منهما تلميع الآخر زاد انكشافاً، وكأنهما في سباق محموم لبلوغ غايتهما، ولكنهما في الواقع متجهان إلى الهاوية. وإنك لتعجب حقاً من دولة توصف بأنها عظمى، وكذلك من عقول تزعم أنها مستبصرة، أن يسعى كل منهما لتدمير الآخر عنوة وهو لا يشعر، إنه زواج خاسر للطرفين. لقد أغمض كلاهما عينيه عن عدة تقارير من خبراء أمريكيين، وآخرها ما أصدرته لجنة استشارية في وزارة الدفاع الأمريكية نفسها يحذر من أخطار السياسة الأمريكية تجاه العالم الإسلامي، ويبين مغبة الاستمرار فيها، إلا أن الحكومة الأمريكية سائرة في الاتجاه المعاكس وتنذر بمغامرات جديدة في مسلسل التدمير، وعلى تلك الرؤوس التبرير.
١٣ ـ تلك الرؤوس المفخخة المبشرة ببزوغ فجر الحرية والديموقراطية في المنطقة تعامت عن التعتيم ـ بل التزوير ـ الإعلامي الذي يقوم به الذين جاؤوا لتعليمنا الحرية، بل إن تلك الرؤوس نفسها كانت أداة من أدوات ذلك التعتيم والتزوير، فبلد «الحرية» و «الديموقراطية» ، حارب الصحفيين في الداخل بالإقصاء والفصل من العمل والتهديد لمجرد محاولة نشر الحقيقة أو انتقاد السياسة الأمريكية. أما في الخارج فأبعدت وسائل الإعلام عن الأحداث، وحجبت الحقيقة، وتعرض من يجرؤ على نقل أخبار لا تريدها الإدارة الأمريكية إلى التهديد والوعيد من رامسفيلد، بل القتل والتفجير كما حدث لقناتَيِ الجزيرة والعربية، وقتل المراسلين والصحفيين في فندق فلسطين وغيره. ولو تتبعنا ردة الفعل لجريمة الحرب التي ارتكبها جنود البحرية الأمريكية في مسجد الفلوجة، التي هي واحد من أبشع جرائم الحرب الأمريكية، لوجدنا أن السياسيين وبعض وسائل الإعلام الأمريكية قد وجهت اللوم والنقد الشديد لمراسل (إن بي سي) لنقله الخبر والصورة، ودعا أحد أعضاء الكونجرس إلى منع الصحفيين من مرافقة الجيش، طبعاً حتى لا تنكشف تلك الجرائم. ونتيجة للحملة التي تعرض لها سايتز ـ المراسل الذي كشف جزءاً من المستور ـ فقد كتب رسالة مفتوحة يبرر فيها صحة تصرفه. وحينما يضطر صحفي لتبرير نقله جزءاً من الحقيقة؛ فذلك دليل على مدى ما وصلت إليه الحرية في أمريكا، والتي تريد أن تعلمنا إياها. إن تلك الرؤوس لا تريد أن تصدق أن من أكبر ضحايا هذه الحرب هي الحرية والديموقراطية.
إنك لتعجب من رؤوس قد أُشربت الولاء لأمريكا، وخُتم على قلوبها فلا تدرك الباطل باطلاً ولا الحق حقاً، وغُشّيت أبصارها فلا ترى إلا ما تُريها ولِيَّتُها، وصُمّت آذانها فلا تسمع صرفاً ولا عدلاً. غير أن عجبك هذا لا يدفعك لأن تتمنى سكوتها؛ فهي وسيلة من وسائل إظهار الحقيقة من جانبين: تهافت منطقها، وصلابة الموقف الذي تحاربه.