افتتاحية العدد
هل للإرهاب ملة؟ !
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد..
فلقد عاشت كثير من المجتمعات العربية والإسلامية بعد الاستقلال تحت حكم
بعض الزمر العسكرية أو تحت إمرة بعض الأحزاب ذات الأيديولوجيات المشبوهة
ممن هم ثمرة مرة لمرحلة الاستعمار البغيض، فحكموا دولهم بالحديد والنار،
وكانوا نماذج رديئة لوأد الفكر النزيه وللعداء للدين وتغريب المجتمعات. وحينما
قيض الله للأمة الإسلامية الصحوة التي أعادت الناس إلى ربهم وجددت إيمانهم
برسالتهم الخاتمة واستجيشت الروح الإيمانية في الشعوب؛ فأعطت خيارها
لأصحاب المبادئ الإسلامية، نتج عن ذلك أن زلزلت قواعد العملاء، وأقض
مضاجع سادتهم، حتى هدد الرئيس الفرنسي السابق متران بالتدخل العسكري في
حالة تسلم الإسلاميين للحكم في الجزائر، مما هو معروف للجميع وكان الأتباع
الفرانكفون أوفياء لسادتهم؛ فأجهضوا واحدة من أنزه الانتخابات المعدودة في العالم
العربي، وما زال المجتمع الجزائري يعيش في دوامة العنف والعنف المضاد نتيجة
سرقة خيار ذلك الشعب المجاهد، ويبدو أن موقف تلك الطغمة العسكرية صار ديدنا
لكل سلطة حاكمة بأمرها حيال أي عمل نزيه، والوقوف بكل صفاقة ضد كل توجه
إسلامي، مع اختراعهم لإيقافه مؤامرات موهومة ودعاوى ما أنزل الله بها من
سلطان؛ لإيقاف المد الإيماني وإسقاط مشروعيته بدعاوى الإرهاب والتطرف وما
شابهها، وهذا في نظرنا أمر طبيعي ما دامت شريعة الله معطلة وأحكامها غير نافذة، والقضاة يحكمون بقوانين أجنبية مستوردة في محاكم استثنائية عسكرية تصدر
أحكاماً نهائية مفصلة حسب رغبة القوم وتوجهاتهم المعروفة، ولهذا: شن الإعلام
المؤمم والأقلام المشتراة وكتّاب الفنادق ما يثير المطاعن بدون وجه حق ضد
الإسلاميين، ويشكك حتى في نواياهم.
وما ذلك إلا ترديد أبله وتقليد أعمى إن لم نقل منقول عما تردده وسائل الإعلام
الأجنبية ضد الإسلام حيث يقولون: إنه العدو الوحيد بعد سقوط الشيوعية البائدة.
لقد أثار الغربيون بوسائل شتى ذلك الموقف ضد الإسلام، وأعدوا الخطط
ليجعلوا من الإسلاميين دعاة الإرهاب في العالم كما حصل في تفجير (مركز التجارة
الدولية) ، ولا يزال يتذكر المتابعون لذلك الحدث الجلل أن المحامين بينوا أن وراء
تلك الجريمة أيد خفية من ضمنها شخصية يهودية عُتّم عليها، ولم يعد لها ذكر،
ويبدو أن ذلك يثير شبهات تواطؤ المخابرات الأمريكية باستعمال أيادٍ مشبوهة
للشهادة ضد المتهمين.
وهذا ما أعلنه أحد هؤلاء العملاء الذي أعلن فيما بعد: أنه كان كاذباً في معظم
شهادته، ولا شك أن ما بني على باطل، فهو باطل، ومع كل ذلك فقد شوهت
سيرة كثير من الإسلاميين الذين زج بأسمائهم بشهادة عميل ضائع المروءة فاقد
الضمير.
أما الحادث الأخير وهو تفجير المبنى الفيدرالي في (أوكلاهوما) ، فقد كانت
ردود الأفعال المتعجلة حياله نتيجة طبيعية للحرب المجنونة ضد الإسلام وأهله
ووصمهم كذباً وزوراً بالتطرف والإرهاب، فقد اتهم الإسلاميون بأنهم وراءه - بعد
حدوثه بساعات معدودة - ولم يكن صدر بعد أي بيان رسمي بالإدانة، فوجدنا مثل
نائب أوكلاهوما السابق، والنائب الديموقراطي الحالي ديف مكيروي يصرح في
حديث لقناة ال (سي إن إن) الإخبارية: أن الاحتمال الأكبر هو أن المشتبه بهم من
الراديكاليين الإسلاميين! وضربت على هذا الوتر فعاليات أمنية وإعلامية أمريكية،
مما أدى إلى حرب قذرة ضد المسلمين في أمريكا، جعلتهم يعيشون أياماً قلقة حزينة
نالوا فيها من المضايقة والإرهاب الكثير وبخاصة في المدارس والمراكز الإسلامية
والتهديدات بالهواتف، الأمر الذي جعل الكثيرين يقبعون في بيوتهم خوفاً من ردود
الأفعال التي صنعها الإعلام المعادي.. ثم يأبى الله إلا أن تظهر الحقيقة بعد أيام
معدودات، فإذا بالمجرم الحقيقي إنما هو أصولي نصراني أمريكي، فجّر ذلك
المبنى في ذكرى إحراق جماعة (ديفيد قورش) الأصولية المتطرفة، التي انتحرت
مع زعيمها حرقاً حينما حاصرهم البوليس الفيدرالي في العام قبل الماضي، هذه
الجماعة وغيرها كثير: هي عينات من التطرف والإرهاب الموجود في الغرب،
وهي محسوبة سياسيّاً على اليمين الأمريكي العنصري. والتي لها ميلشياتها
العسكرية، والتي تعلن نازيتها وعنصريتها على رؤوس الأشهاد.
وهناك أيضاً تطرف شرقي، هو ما فعلته جماعة (أوم) اليابانية، الذين ثبت
تواطؤهم بإلقاء غاز السارين السام في أنفاق مترو طوكيو، وأدى إلى وفاة واختناق
الكثيرين، وتداعياته اللاحقة ما تزال حديث الساعة، فما بالك بتطرف وإرهاب
الصرب في حربهم الضروس ضد مسلمي البوسنة، وتطرف وإرهاب السيخ
والهندوس ضد مسلمي الهند وكشمير، وتطرف وإرهاب أعداء المسلمين في كل من
(طاجيكستان) و (الفلبين) و (الشيشان) و (بورما) والتطرف الصهيوني في فلسطين
المحتلة المدعوم من الغرب والشرق معاً. وغير ذلك كثير.
لم يكن الإسلام في يوم من الأيام لا قديماً ولا حديثاً دين إرهاب، بل حتى في
الحروب: كان يأمر بالرفق وعدم قتل النساء والشيوخ والأطفال والرهبان ممن لا
يد له في قتال المسلمين وإيذائهم، وهذا ما تطرقت له باستفاضة كتب الحديث والفقه
في أبواب الجهاد مع حث الإسلام على العدالة مع الناس حتى عند الاختلاف معهم
في الدين [لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ
أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ] [الممتحنة: ٨] ؛ يقول العلامة
ابن سعدي في تفسيره لهذه الآية: أي: لا ينهاكم الله عن البر والصلة والمكافأة
بالمعروف والقسط للمشركين من أقاربكم وغيرهم حيث كانوا بحال: لم ينصبوا
لقتالكم في الدين والإخراج من دياركم، فليس عليكم جناح أن تصلوهم، فإن صلتهم
في هذه الحال لا محذور فيها ولا تبعة.
فكيف يُزْعَمُ أن الإسلام يدعو إلى مثل تلك الأعمال الإرهابية التي تتنافى
والروح الإسلامية المشبعة بالقسط والعدل والرحمة.
وبمناسبة عقد (مؤتمر الأمم المتحدة التاسع لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين)
الأخير؛ يحق لنا في هذا المقام أن نتساءل: ترى ماذا سيناقش هذا المؤتمر؟ ، وما
هي توصياته [*] ؟ وهل سيبحث حقيقة الإجرام والمجرمين فعلاً، ومنهم المجرمون
الحقيقيون الذين لم تأخذهم بالمؤمنين أي رحمة؟ أين محاكمة قادة الإجرام العالمي
الذين أرهبوا ونكلوا بالشعوب الإسلامية في فلسطين والبوسنة والهرسك والشيشان
مثلاً وانتهكوا الدين والحرمات، وضربوا بقرارات الأمم المتحدة عرض
الحائط؟ .. هل سيدانون ويحاكمون على الملأ ليعرف الجميع جرائمهم، كما حوكم وأدين مجرمو الحرب العالمية الثانية، ويكلف البوليس الدولي بالقبض عليهم في أقرب فرصة. أم إن المسألة ليست سوى مجرد جعجعات معروفة، وستوظف لمصالح معينة، وسيكون الضحية والمدانون دائماً هم المسلمين وبخاصة الدعاة منهم الذين يطاردون تحت ستار محاربة الإرهاب والتطرف؟ ، وهذا هو المتوقع، وما علمنا في مؤتمرات هيئة الأمم إلا تأكيداً لهيمنة الدول الكبرى على دول العالم الإسلامي، وإطلاقاً لأيدي الدول البوليسية في محاربة شعوبها مما نلمسه في واقع كثير من الدول العربية.
إن مما ينبغي أن يفطن له وأن يعيه كل الناس: أن الإرهاب الحقيقي إنما هو
إرهاب الشعوب في أن تدين لربها، وإرهابها من أن تدعو لتحكيم شريعته،
وإرهابها من أن تدلي برأيها فيما يراد لها من تغريب لمجتمعاتها، ومحاولة تركيعها
قسراً لأعدائها، وإرهابها في أن تعلن هويتها الإسلامية، بل وحتى التدخل
الخارجي في كثير من دول العالم الثالث كما حصل من قبل بعض الدول الكبرى هو
إرهاب بمعنى الكلمة. فإلى متى يلمز الإسلاميون بالإرهاب، والإرهابيون حقّاً
غيرهم؟ !
[وَسَيَعْلَمُ الَذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ]
(*) كتبت الافتتاحية في بداية افتتاح المؤتمر.