متابعات
التأمين.. وجهة نظر أخرى
د. رفيق يونس المصري [*]
في العدد ١٤٨الصادر في ذي الحجة ١٤٢٠هـ، نشرت مجلتكم الموقرة مقالاً
للدكتور سليمان بن إبراهيم بن ثنيان، بعنوان: «حقيقة شركات التأمين» ، أخذ
فيه برأي الفقهاء المانعين للتأمين، بكل أنواعه، ورأى أنهم هم العلماء الذين يعتد
برأيهم في بلاد المسلمين، كما رأى أن الباحثين الذين قالوا بأن للتأمين إيجابيات
هم - بنظره - ليسوا من أهل العلم. وأورد عدداً من سلبيات التأمين، منها
أن شروطه شروط إذعان تعسفية واستغلالية، وأن شركاته ليس من همها إلا الربح،
وأنها اشترت بالمال ذمم كثير من المستشارين، والمحامين، والأطباء، والخبراء،
وغيرهم من أفراد طاقم التأمين، وأن هذه الشركات تعقد كثيراً من العقود، ولا تفي
إلا بالقليل منها، وأن الكثرة الكاثرة في التأمين هي الجماعة الخاسرة، وأن القلة
القليلة هي الحفنة الرابحة من قادة التأمين في العالم، وأن بلدان العالم فئتان: فئة
مصدرة للتأمين، وفئة مستوردة له، وأن تكلفة التأمين تكلفة عالية، وأنه السبب
في الكثير من الجرائم، كالقتل، والكذب، وأن التأمين فيه ربا، وغرر، وقمار،
وأن شرَّه يغلب خيره، وأنه ليس فيه أي مصلحة اقتصادية، ويغني عنه التأمين
الذاتي، أي إنشاء حساب استثماري لاحتياطي الحوادث ... إلخ.
المعلوم أن الفقهاء المعاصرين على ثلاثة آراء في التأمين: الأول يكتفي
بالتأمين الخيري القائم على الزكوات، والصدقات، الوصايا، والديات، والنذور،
والكفارات، ومن القائلين بهذا الرأي: الدكتور شوكت عليان من الفقهاء، والدكتور
عيسى عبده من الاقتصاديين المسلمين.
والرأي الثاني يجيز التأمين التعاوني دون التجاري، ومن القائلين بهذا الرأي:
الدكتور الصديق الضرير، والأستاذ محمد أبو زهرة، والدكتور حسين حامد
حسان، والدكتور محمد بلتاجي حسن، من الفقهاء.
والرأي الثالث يجيز التأمين التجاري أيضاً، ومن القائلين بهذا الرأي:
الأستاذ مصطفى الزرقا، والأستاذ علي الخفيف من الفقهاء، والدكتور محمد نجاة
الله صديقي من الاقتصاديين المسلمين.
ومما يؤخذ على رأي المانعين للتأمين التعاوني عدم اهتدائهم إلى بعض
النصوص الشرعية، ومن ذلك حديث الأشعريين، وهو أنهم كانوا إذا أرملوا
(فني زادهم وافتقروا) في الغزو، أو قلَّ طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان
عندهم في إناء واحد، ثم اقتسموه بينهم بالسوية (صحيح البخاري، كتاب
الشركات، وصحيح مسلم، باب فضائل الصحابة) .
إن التأمين الخيري لا يعوض المصاب إلا إذا أصابه فقر، أما التأمين
التعاوني أو التجاري فإنه يعوض المصاب، ولو لم يصبه فقر؛ لأن الغرض منه
هو ردُّه إلى مستواه السابق من الغنى والكفاءة الإنتاجية.
والناس متفاوتون؛ فبعضهم قد لا يرى حرجاً من اللجوء إلى التأمين الخيري،
عند الحاجة، وبعضهم يفضل الاعتماد على نفسه، والتقليل من الاعتماد على
الآخرين، وتخفيف الأعباء عن الإيرادات الخيرية وحصائل الزكاة.
وكذلك الناس متفاوتون حيال المخاطر؛ فبعضهم قد يكون أكثر رغبة وقدرة على
تحمل المخاطر، وبعضهم قد يجد ميلاً لديه لركوب المخاطر في الأنشطة
الاقتصادية المختلفة، لا سيما إذا كانت هناك وسيلة كالتأمين تخفف عنه آثار بعض
المخاطر، لكي تشجعه على ركوب مخاطر أخرى يحتاج إليها النشاط الاقتصادي
في المجتمع. والتأمين إذا ما طبق في اقتصاد بلدٍ مَّا، فإن الاقتصادات الأخرى
تتخلف وراءه، إذا لم تطبقه.
ومما يؤخذ على رأي المجيزين للتأمين التعاوني، والمانعين للتأمين التجاري،
أنهم رأوا أن التعاونيات كالتبرعات يغتفر فيها من الغرر ما لا يغتفر في
المعاوضات. وهذا فيه نظر؛ لأن حقيقةَ: «أتبرع لك على أن تتبرع لي» ليس
من التبرعات، بل هو من المعاوضات. ومما يؤخذ عليهم أيضاً أنهم ميزوا بين
معاوضات تهدف إلى الربح، ومعاوضات لا تهدف إليه، فمنعوا التأمين التجاري
وأجازوا التأمين التعاوني. وهذا التمييز غير مسلَّم؛ لأن الإسلام يجيز التجارة،
كما يجيز الربح. وغاية الفرق بين التأمين التعاوني والتأمين التجاري أن الأول
تديره جمعية تعاونية، والآخر تديره شركة تجارية.
وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن جميع الفقهاء الذين أجازوا التأمين
التعاوني، أو أجازوا التأمين التجاري، إنما أجازوا التأمين، بغض النظر عن كونه
تعاونياً أو تجارياً، وهذا اعتراف منهم بالمصلحة الاقتصادية والاجتماعية للتأمين.
كما أن جميع الفقهاء، حتى الذين منعوا التأمين التعاوني والتجاري، قد
أجازوا التأمين الحكومي: التأمينات الاجتماعية، والتقاعد، والمعاشات. والتأمين
الحكومي يمكن أن يدار بشكل تعاوني بلا أرباح، ويمكن أن يدار بشكل تجاري
استرباحي.
فلا يمكن القول بأن العلماء الذين يعتد برأيهم قد حرموا التأمين بجميع أنواعه،
سواء كان تعاونياً أو تجارياً، حكومياً أو خاصاً.
أما ما ذكر من أن التأمين فيه ربا فالرأي في هذا أن الربا ليس من لوازم
التأمين؛ إذ يمكن استثمار أقساط التأمين استثماراً غير ربوي، بصيغة المشاركة في
الأرباح مثلاً. كما أن قسط التأمين لا ينظر إليه على أنه قرض، حتى يقال بأن
مبلغ التأمين يكون فيه ربا إذا زاد على قسط التأمين. والربا في القرض مضمون،
أما التأمين فالزيادة فيه غير مضمونة، فقد تقع، وقد لا تقع.
أما ما ذكر من أن التأمين فيه قمار فالرأي في هذا أن القمار يكون في اللعب،
والتأمين ليس لعباً، والمقامر في القمار يخلق المخاطر، أما المستأمن فإنه يتحصن
من المخاطر. وهذا التمييز الدقيق بين ما يدخل في القمار وما يلتبس به وليس منه
تمييز لم يعرفه الفقهاء المعاصرون فحسب، بل عرفه أيضاً الفقهاء القدامى، منهم
أبو عبيد في الأموال؛ حيث ميز تمييزاً دقيقاً بين القمار من جهة، والقرعة
والخرص من جهة أخرى، خلافاً للفقهاء الذين حرموهما، ظناً منهم أنهما من
القمار المحرم.
أما ما ذكر من أن التأمين فيه غرر فالرأي فيه أن الغرر فيه على مستويين:
مستوى العلاقة بين شركة التأمين ومجموع المستأمنين، ومستوى العلاقة بين شركة
التأمين وكل مستأمن على حدة. فالمستوى الأول فيه الغرر إلى حد كبير، بالنظر
إلى قانون الأعداد الكبيرة Law of Large Numbers المعروف في علم
الإحصاء. والمستوى الثاني وإن كان فيه غرر أكبر، إلا أن للمستوى الأول تأثيراً
عليه، بحيث إن الغرر فيه يصير أقل نسبياً.
أما القاعدة القائلة بأن الغرر يغتفر منه في التبرعات ما لا يغتفر في
المعاوضات فهي صحيحة بشكل عام، بمعنى أن الغرر أكثر اغتفاراً في التبرعات
وأسهل، غير أن هذا لا يعني أن المعاوضات لا غرر فيها. فالجعالة فيها غرر في
الحصول، وفي المقدار، وفي الأجل، كالتأمين، ومع ذلك فإنها جائزة عند جمهور
الفقهاء. فإذا قلت: من عثر على سيارتي المسروقة فله ١٠٠٠ ريال، فإن الباحث
عنها قد يجدها وقد لا يجدها، وقد يعمل قليلاً أو كثيراً، لمدة قصيرة أو طويلة،
ومن ثم فقد يحصل على الجُعل أو لا يحصل عليه.
أما ما ذكر من أن أرباح التأمين أرباح عالية فالحل فيه هو المنافسة الكفيلة
برد الأرباح إلى حدود الاعتدال، أو الإشراف الحكومي على تحديد الأقساط، لا
سيما في حال الاحتكار.
وأما ما يقال من أن عقد التأمين هو عقد إذعان، فهو إذن حرام؛ فهذا ربما
أتى من سوء الترجمة. فعقد الإذعان ترجمة عربية للعبارة الفرنسية Contrat d
adhésion، والصواب في الترجمة هو: عقد الانضمام، وأما عقد الإذعان فهو
حالة متطرفة من عقود الانضمام، عندما تكون شروطها تعسفية فعلاً، في غياب
المنافسة، والإشراف الحكومي.
أما أن التأمين الذاتي Self-Insurance يغني عن التأمين التعاوني أو
التجاري، فهذا قد يصلح بالنسبة للمنشآت الكبيرة التي يتسع نشاطها إلى الدرجة
التي ينطبق عليها قانون الأعداد الكبيرة. أما المنشآت المتوسطة والصغيرة فلا
يصلح لها التأمين الذاتي، لا سيما في السنوات الأولى من تطبيقه.
أما ما ذكر من الآفات الأخرى، كالقتل، والكذب، وشراء الذمم فهذه آفات
عارضة؛ فالوارث قد يقتل مورِّثه، لأجل استعجال ميراثه، فهل نمنع الميراث
لأجل احتمال مثل هذا القتل؟ إن الفقهاء قد منعوا الميراث، في هذه الحالة، عن
القاتل فقط، ولم يمنعوه عن سائر الناس. والكذب، وشراء الذمم، فاشيان في كثير
من الأسر، والمنشآت، والأنشطة. فإذا استغلت المستشفيات مرضاها، وأجرت
لهم تحاليل، أو عمليات لا يحتاجون إليها، فهل نمنع النشاط الطبي والمخبري من
أصله، أم نعاقب فقط من يرتكب هذه المخالفات؟ وكذلك قد تدخل سيارتك إلى
ورشة إصلاح، فتستبدل الورشة قطعاً لا حاجة لاستبدالها، وقد تستخدم عمالاً
حمقى، فتضيع أموال الناس وجهودهم وأوقاتهم، فهل نعزف عن استخدام السيارة،
وهل نمنع قيام ورشات لإصلاح السيارات؟
أنا لا أشك في أن بعض المجيزين للتأمين التجاري قد استدلوا له بأدلة ضعيفة،
وأن بعضهم كان يريد إباحته بأدلة متكلفة، وبأي ثمن، وبناءً على أحكام مسبقة.
ولكن خصومهم، إذ شعروا بأنهم قد استطاعوا ردَّ مثل هذه الأدلة ظنوا أنهم قد ردوا
التأمين، والحال أن التأمين يمكن أن يستدل له بأدلة أخرى قوية يصعب ردها.
(*) باحث في الاقتصاد الإسلامي والفقه المالي.