أحداث كشمير
مناوشات أم تقرير مصير؟
كمال حبيب
بينما كانت الجهود العالمية بقيادة حلف الأطلسي تسعى لإغلاق ملف الحرب
الدائرة في البلقان منذ شهرين بسبب أزمة كوسوفا المسلمة إذا بالعالم يستيقظ على
أحداث مواجهة عسكرية أقرب إلى الحرب في آسيا تتعلق بمشكلة (كشمير) . وفي
حين كانت مواجهة البلقان بسبب الإجرام الصربي ضد المسلمين في كوسوفا، وعدم
منحهم حقهم في الاستقلال أو الحكم الذاتي الموسع كوحدة فيدرالية كاملة ضمن
الاتحاد اليوغسلافي، فإن المواجهة في كشمير المسلمة هي بسبب إصرار الهند على
استمرار احتلالها للجزء الجنوبي من كشمير منذ أكثر من خمسين عاماً غداة أحداث
التقسيم المرعبة في شبه القارة الهندية عام ١٩٤٧م؛ إذ أعلنت باكستان استقلالها في
١٤/٨/١٩٤٧ لتكون دولة إسلامية توفر وعاءً سيادياً للمسلمين يحميهم من أن
يكونوا أقلية ضمن المحيط الهندوسي الإجرامي الذي سيفرض عليهم الموت والتدمير. لكن كشمير المحتلة ظلت شاهداً على صحة توقعات المسلمين عند إقامة دولتهم
المستقلة في الباكستان، فلا يزال مسلمو كشمير يواجهون حملة عنيفة لتدمير حقوقهم
الإنسانية؛ فالتقديرات تشير إلى أن ضحايا المسلمين في كشمير المحتلة يزيدون
على السبعين ألفا من القتلى ومثلهم أو يزيدون من الجرحى؛ فكشمير هو (كوسوفا)
آسيا وهي (فلسطين) القارة الهندية؛ إنها قصة المحتل الغاشم المجرم نفسها،
ومطالب الشعب وتضحياته ذاتها من أجل الحرية والاستقلال. ومن المثير للدهشة
أن تكون مناطق الصراع الأساسية للشعوب بحثاً عن حريتها من المحتلين هي حيث
يوجد المسلمون!
إننا بإزاء تطبيق عملي لما أطلق عليه (هنتنجتون) صدام الحضارات، وفي
صدام الحضارات حيث تتواجه شعوب تحمل عقائد وثقافات وأعراق مختلفة فإن
الصدام يكون كما يطلق عليه علماء العلاقات الدولية (صداماً صفرياً) أي أن نجاح
أي طرف يكون خسارة للطرف الآخر، ولذا فإن هذا الصدام يطلق عليه أيضاً
(الصراع الاجتماعي الممتد) حيث لا يكون هناك حلول وسط في إنهاء الصراع،
ومن ثم فإن المواجهة تأخذ طابع العنف والعسكرة المسلحة، ويبقى الصراع مرشحاً
للاستمرار بين الطرفين حتى يستطيع أحدهما أن ينجز نصراً حاسماً على الطرف
الآخر إما بالقوة أو بتقييد إدراكه ومنظوره لطبيعة الصراع، كما حدث بالنسبة
للصراع في فلسطين بين العرب واليهود.
وتبدو كشمير المحتلة الآن موضعاً للمواجهة بين القوات الهندية وبين
المجاهدين المسلمين في كشمير وهو ما يفرض تدخل باكستان وإحداث تداعيات قد
تفجر جنوب آسيا خاصة وأن طرفي الصراع الأساسيين يمتلكان قدرات نووية،
ومن ثم فإن أي حرب قادمة بينهما ستؤدي إلى تفجير الوضع في آسيا، ومن ثم فإن
قضية كشمير التي تعد أقدم قضايا الصراع على أجندة الأمم المتحدة بحاجة إلى
الالتفات العالمي إليها، وتطبيق القرارات الدولية للأمم المتحدة التي صدرت في ١٣
/٨/١٩٤٨م و ١٥/١/١٩٤٩م وتنص على إعطاء الشعب الكشميري الحق في تقرير
مصيره عن طريق استفتاء عام حر ونزيه يتم إجراؤه تحت إشراف الأمم المتحدة؛
وهو ما لم يحدث حتى الآن بسبب تغيير الهند لتعهداتها بشأن كشمير واعتبارها
جزءاً لا يتجزأ من الهند، وسعيها بالقوة لفرض الاحتلال على الشعب الكشميري
الذي يرفض الوجود الهندي ويسعى بكل قوة لكي يقرر مصيره؛ بحيث يحصل
على الاستقلال عن الهند وباكستان أو ينضم إلى باكستان.
وتأتي المواجهة الأخيرة التي قادها المجاهدون المسلمون في كشمير باختراق
خط الهدنة بين (كشمير الحرة) و (كشمير المحتلة) وتثبيت قواعد جهادية تعمل داخل
كشمير المحتلة ثم الصمود لأكثر من شهر في مواجهة القوات الهندية لتؤكد الإرادة
الجهادية بقاء قضية كشمير حية، وإن الطريق إلى حلها سيكون بالجهاد والقتال.
وبدأ المجاهدون اختراق أراضي كشمير المحتلة منذ ٢٣/١/١٤٢٠هـ - ٩ /٥/
١٩٩٩م، ولا يزالون يقاومون رغم عرض الهند عليهم أن توفر لهم ممراً آمناً
للعودة إلى كشمير الحرة بسلام. لكن (فضل الرحمن خليل) زعيم حركة المجاهدين
الإسلامية رفض العرض الذي قدمه رئيس الوزراء الهندي (أتال بيهاري باجباي)
وقال: (نحن الذين سنمنحهم خروجاً آمناً ... أعد بعدم مهاجمتهم إذا اختاروا
الانسحاب) وتساءل: كيف يمكن للهنود أن يتحدثوا عن خروج آمن؟ إنهم قوات
احتلال وكشمير وطننا فمن الذي يجب أن يرحل؟
تفجر الأحداث:
خط الهدنة بين كشمير المحتلة، وكشمير الحرة يبلغ طوله ٧٢٠ كم، وهذا
الخط شهد ثلاثة حروب بين الهند وباكستان اثنتان منهما بسبب كشمير: الأولى في
١٩٤٧/١٩٤٨م، والثانية في عام ١٩٦٥م. ويذكر معهد (كارينجي) للسلام أن
المسوغات لاشتعال حرب ثالثة في المستقبل بين البلدين بسبب كشمير لا تزال قائمة؛ حيث ستكون هذه الحرب بالأسلحة النووية؛ إذ يمتلك البلدان الآن الأسلحة النووية
والصواريخ القادرة على حملها إلى عقر دار أي منهما. ويمكن القول إن خط الهدنة
يشهد مواجهات محدودة توصف عادة بأنها أقل من الحرب وأكبر من المعركة؛
لكنها مواجهات محكومة بحيث لا تتحول إلى حرب شاملة، وبالتأكيد فإن الأحداث
التي بدأت في التاسع من شهر مايو الماضي ولا تزال قائمة حتى كتابة هذه السطور
لن تتطور إلى حرب شاملة ولكنها مختلفة عما سبقها من أحداث في جوانب عدة
نذكر منها:
١- أنها المواجهة الأكبر منذ عام ١٩٧١م - وهي آخر الحروب بين البلدين- وهي مواجهة امتدت لمدة أكثر مما كان يتوقع، وهذا الامتداد يعكس قدرة
المجاهدين الذين أقاموا لأنفسهم قواعد عسكرية محررة في الجانب المحتل من
كشمير، وأن المجاهدين يمكنهم ممارسة حرب عصابات تفرض على الهند فاتورة
اقتصادية عالية لاستمرار بقائها في كشمير. وهنا يأتي استلهام النموذج الأفغاني في
مواجهة الاتحاد السوفييتي سابقاً وهو نموذج إسلامي جهاده في قلب آسيا، ويأتي
أيضاً باعتباره وضعاً مشابهاً للنموذج الفييتنامي ضد أمريكا. ويبدو لي أن المواجهة
الجارية الآن ستكون بداية تحول كيفي في أعمال المجاهدين العسكرية ضد الاحتلال
الهندي في كشمير.
٢- تدخل الهند بقواتها الجوية التي تمثل طائرات الميج عمدتها الرئيسة.
وتشير الأنباء إلى اشتراك طائرات سوخوي ٣٠ وهي الأحدث من هذه الطائرات
الروسية وهو ما يعني عجز القوات الهندية عن زحزحة المجاهدين عن مواقعهم،
وهذه هي المرة الأولى التي تتدخل فيها القوات الجوية الهندية ضد أعمال المجاهدين
في كشمير المحتلة منذ انتفاضة ١٩٩٠م، واستطاع المجاهدون إسقاط طائرة
هليوكوبتر من طراز (مس - ١٧) وإسقاط مقاتلة من طراز (ميراج ٢٠٠٠) كما
استطاعوا أسر ٥٠ جندياً وضابطاً هندياً، وفي إطار توسيع نطاق الحرب أغارت
الطائرات على كشمير الحرة فسقطت طائرتان إحداهما ميج ٢١ والأخرى ميج ٢٩
بالصواريخ (أنزا) وهي صواريخ باكستانية جديدة يصل مداها ٤ كم أكدت قدرتها
على تحقيق حائط دفاعي فعال في مواجهة التفوق العسكري الهندي؛ حيث تبلغ
المقاتلات الهندية ٧٧٢ طائرة بينما تبلغ المقاتلات الباكستانية ٤١٠ طائرة مقاتلة.
٣- عجز سلاح الجو الهندي أن يفرض على المجاهدين الكشميريين التخلي
عن المواقع التي احتلوها مما اضطره إلى أن يخوض حرباً برية محسومة؛ إذ
تشير التقديرات إلى أنه تم استدعاء ٣٠ ألفاً من قوات الجيش الهندي بالإضافة إلى
٦٠٠ ألف موجودين بالفعل في كشمير المحتلة، وهو ما يمثل أعلى نسبة وجود
عسكري في أي منطقة في العالم؛ إذ يبلغ عدد جنود الاحتلال الهندي في كشمير ١: ٧ بالنسبة إلى السكان، وقد استطاعت باكستان أن تصد هجمات برية على طول
خط المواجهة وأن تحدث خسائر كبيرة بالجيش الهندي، كما هوجمت قوات
المجاهدين برياً، لكنها ظلت مسيطرة على قواعدها المحررة في كشمير المحتلة،
وفقد الخط الساخن للاتصال بين القيادات العسكرية على الجانبين رغم أن السياسيين
حاولوا السيطرة على الوضع بإحياء المفاوضات، وذلك بعرض إرسال وزير
خارجية باكستان (سرباج عزيز) إلى الهند لبحث الأزمة، وهو ما يعني أن
المواجهة الحالية مختلفة عما سبقها من مواجهات، وأنها ستكون فاتحة لتحول كيفي
حقيقي في أعمال المجاهدين المسلحة ضد الوجود الهندي في كشمير، وتبدو
الإمكانات الحقيقية للمجاهدين إذا علمنا أن تقديرات الهند لأعدادهم تبلغ حوالي ألف
مجاهد فقط. إن أحد حقائق المواجهة الجارية الآن هي وحدة المجاهدين من ناحية
وسيطرة الحل الإسلامي لتحرير كشمير من ناحية ثانية؛ فلم يعد هناك وجود
لتيارات القومية أو العلمانية التي كانت سبباً في إضعاف حركة المجاهدين في
استقلال باكستان عام ١٩٤٧م.
يشارك في أعمال الجهاد بشكل أساس حركة المجاهدين الإسلامية التي
يتزعمها (فضل الرحمن خليل) في إطار تحالف عسكري يضم تنظيمات إسلامية
أخرى مثل (حزب المجاهدين) و (لشكر طيبة) ، وبحكم الجوار الجغرافي مع
أفغانستان من ناحية، وبحكم وجود تيار إسلامي قوي في باكستان يعمل على دعم
قضية الجهاد في كشمير فإن مجاهدين من حركة (طالبان) ومن (العرب) يشاركون
في القتال الدائر في كشمير وهو ما يعني أنها قضية إسلامية تهم كل المسلمين، كما
يتعاظم احتمال أن تكون بؤرة جهادية جديدة ضد الاحتلال الهندي، وهو ما يثير
الانزعاج لدى الولايات المتحدة الأمريكية التي طالبت باكستان بالتدخل لحمل
المجاهدين الكشميريين والمسلمين على الانسحاب؛ حيث عجزت القوات الهندية
عن ذلك، وأرسل (كلينتون) رسالة إلى (نواز شريف) رئيس الوزراء الباكستاني
يطالب بسحب المجاهدين من منطقة (كارحيل) في كشمير المحتلة.
كشمير تفرض نفسها:
من الثابت أن تاريخ المواجهة بين الهند وباكستان من أجل كشمير يؤكد أن
المفاوضات بين الطرفين لا تؤتي أي ثمار؛ لأن الهند تريد أن تؤجل قضية كشمير
حتى نهاية المطاف في علاقتها بباكستان؛ بينما ترى باكستان (أن كشمير هي
الأولوية الاستراتيجية) في العلاقة مع الهند. وإزاء تغيير موقف الهند من التزاماتها
القاطعة بحق الشعب الكشميري في تقرير مصيره عبر الاستفتاء، واعتبار كشمير
جزءاً من التراب الهندي لا يمكن فصلها أو تجزئتها عن الهند؛ فقد سعت باكستان
إلى تدويل قضية كشمير، وإدخال أطراف أخرى لحل هذه القضية بما يتفق وآمال
الشعب المسلم في كشمير، لكن الهند تصر على أن تكون المحادثات ثنائية وأن لا
تتدخل أي أطراف وسيطة بين الجانبين، وهو ما يعني تجميد الوضع القائم على ما
هو عليه، وتجميد هذا الوضع يعني فرض الأمر الواقع على مسلمي كشمير المحتلة
الذين يواجهون تعنتاً هندياً لا يتوقف يهدف إلى خنق رغباتهم في التعبير الحر عن
أنفسهم؛ لذا فإن أحد أهم أهداف المجاهدين في كشمير هو فرض كشمير على أجندة
السياسة الدولية، والانتقال بالقضية من رفوف الأمم المتحدة المتربة لتكون متداولة
وحية بين الأروقة. وفي الأزمة الأخيرة بدأت أمريكا تستيقظ لخطر استمرار فرض
الوضع القائم خاصة وأن أي أزمة يمكن أن تتطور لتصل إلى مواجهة نووية بين
الهند وباكستان، كما بدأ (كوفي عنان) يتنبه لخطر قضية كشمير، ودعا الطرفين
إلى ضبط النفس، ودعت (باكستان) إلى التدخل الدولي لحل قضية كشمير، كما
حدث في كوسوفا، واعتبرت أن كشمير هي النسخة الآسيوية من كوسوفا.
وفي الواقع فإن هناك جملة من المتغيرات تعزز فُرَصَ فرضِ كشمير نفسَها
على الوضع الدولي، وهي بشكل أساس تتمثل في:
١ - تغيير الوضع الدولي في منطقة آسيا لصالح باكستان؛ حيث تم تحرير
أفغانستان، واستطاعت طالبان أن تفرض وجودها بشكل شبه تام على الأوضاع
هناك. وأفغانستان تمثل رصيداً استراتيجياً هاماً لكشمير ولباكستان معاً في المواجهة
مع الهند.
٢ - انهيار الاتحاد السوفييتي باعتباره قوة أساسية كانت تساند الهند في
صراعها مع باكستان، وهذا الانهيار يمثل تخفيف الضغط على باكستان في
المواجهة مع الهند.
٣ - بروز الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى؛ وهي بلا شك تمثل
فضاءاً إسلامياً يضاف إلى قوة المسلمين في آسيا؛ وهو يمثل رصيداً جديداً
لباكستان على المستوى السياسي والدبلوماسي، كما أنه يعطي الشعب الكشميري
حقه في تقرير مصيره كما فعلت هذه الجمهوريات التي كان مفروضاً عليها البقاء
بالقوة ضمن الاتحاد السوفييتي السابق.
٤ - السعي إلى تقوية باكستان لعلاقاتها بالعالم العربي خاصة دول الخليج
ومصر وغيرها، وإثبات أن الأمن الإسلامي يمثل كتلة لا تتجزأ، وأن الخطر
الصهيوني الهندوسي لا يمثل خطراً على العالم العربي فحسب، ولكنه يمثل خطراً
على العالم الإسلامي أيضاً؛ ومن ثم فإن قوة الردع النووي الباكستانية هي في
الواقع قوة إسلامية في مواجهة التحالف الهندي - الصهيوني؛ كما أن كشمير يجب
أن تكون قضية المسلمين جميعاً وليس قضية مسلمي باكستان أو كشمير المحررة
وحدهم.
٥ - السعي بقوة إلى التحالف مع الأقلية المسلمة الضخمة في الهند، وتدعيم
وجودها سياسياً داخل الهند حتى لا يؤثر الصراع في كشمير على وجودها هناك
وسط المحيط الهندي المتعصب.
إن المواجهة الجوية في كشمير، تشير إلى عمق الأزمة في آسيا، وإن الأمن
والاستقرار هناك لا يمكن تحققه إلا بحل عادل يعطي لأهل كشمير المحتلة الحق في
تقرير مصيرهم. وكما هو معلوم فإن تعداد سكان كشمير المحتلة يبلغ ٨ مليون
نسمة، أكثر من ٨٥% منهم من المسلمين، ومساحتها (٣٦٦) ميلاً مربعاً،
ويواجهون انتهاكاً هائلاً لحقوقهم. فتصاعد قوة جهادية كبيرة تسعى لإثبات حقهم في
الاستقلال سيكون لوناً جديداً من المواجهة التي لن تتوقف إلا بحل عادل لمشكلة
شعب كامل.