للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

افتتاحية العدد

عود على بدء

[العلم قبل القول والعمل]

الحمد لله بصفاته وأسمائه، والشكر له على نعمائه، والصلاة والسلام على

رسله وأنبيائه، وبعد:

فلقد اصطفى الله تبارك وتعالى رسله عليهم الصلاة والسلام، وتولاهم بحسن

النشأة، وتعهدهم بتمام الرعاية، ونبأهم بما يحتاج إليه العباد من العلم؛ فكان للعلم

في دين الله شأن ينبئك عنه أول القرآن نزولاً على نبينا-صلى الله عليه وسلم- حين

خاطبه تبارك وتعالى بقوله: [اقْراً بِاسْمِ رَبِّكَ الَذِي خَلَقَ] [العلق: ١] ، وبقي

شعاره التمثل لهذا الأمر مع طلب الزيادة منه: [وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً] ...

[طه: ١١٤] ، فأعلن منهجه أبلجَ يضاهي وضوحه ضياء الشمس: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ... ] [يوسف: ١٠٨] . ...

من هنا كانت سنة الدعاة المقتدين بالرسل في الوظيفة تري طريقتهم في

التكوين والنشأة.. فصارت الركيزة الأولى في تكوين الداعية: العلم، فهو الذي

يهتدي به العمل، ويُحفظ به الدين.

قوام الدين: علم يهدي، وسيف ينصر [وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً]

[الفرقان: ٣١] .

وكما حرس الله بيضة الإسلام بالمجاهدين في سبيله، فقد حفظ شريعة الإيمان

بالعلماء والمتعلمين. والجهاد لا يتم على وجهه الحق إلا بالعلم المؤهل المؤصل

المفصل بالقرآن الكريم والسنة النبوية، فالعلم ضرورة فوق ضرورة المأكل

والمشرب والملبس والدواء؛ إذ به قوام الدين والدنيا، وما لا يتم الواجب إلا به فهو

واجب.

ولا غرو فإن الدعوة إلى الله إذا كانت (أشرف مقامات العبد وأجلها وأفضلها

فهي لا تحصل إلا بالعلم الذي يدعو به وإليه، ولا بد في كمال الدعوة من البلوغ في

العلم إلى حد يصل إليه السعي) [١] .

ولقد كان من أعظم أسباب ضعف المسلمين في هذا العصر: الجهل، وقلة

العلماء العاملين، وسوء الخطط في مراحل الدراسة المختلفة في البلاد الإسلامية،

وضعف الهمم والعزائم في الجد والبحث والتحصيل، والتخصصات الجزئية التي

أضعفت العلوم الشرعية، والانهزام النفسي أمام بعض العلوم المادية، والنظر إلى

التخصصات الشرعية نظرة دونية.

هذه الأسباب وغيرها جزء من واقع الأمة في الجانب العلمي قبيل إرهاصات

الصحوة المباركة حين أدرك ثلة من أبنائها حاجتها إلى بعث وتجديد، فشمروا حتى

أثمر جهدهم وبارك الله في ثماره على العموم.

ولا شك أن بُعْد الهوّة بين الأمة وماضيها أذهل دعاتها الغيورين عن كثير من

مصالحهم، وأفقد بعضهم شيئاً من التوازن سواء في تربيتهم لأنفسهم، أو في

برامجهم التربوية المطروحة التي يسعون لتحقيقها؛ فلربما كانت الحركة الدؤوب

على حساب بعض العلم.

فإذا وضع هذا في الحسبان عرفنا ما يجب على الصحوة تجاه العلم، وأنه لا

بد من منح الهدف العلمي أولوية تليق به، بل يجب أن تصاغ الأهداف الأخرى

على ضوئه؛ لأن التعليم والتربية صنوان لا ينفكان: [هُوَ الَذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ

رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ

لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ] [الجمعة: ٢] .

إن الصحوة اليوم يجب أن تصيغ خططها ومناهجها في كل الجوانب الدعوية

والتربوية والفكرية صياغة كاملة شاملة على أساس علمي متين؛ لأن التغيير الذي

ترمي إليه عبء ثقيل وأمانة عظمى لا تتأتى إلا ببناء العقول وإصلاح الفكر؛ وهو

أمر غاية في الخطورة والصعوبة، لا يحصل بالأحلام والأمنيات، ولا بالعواطف

والانفعالات، ولا بالارتجال والاحتمالات.

إن قاعدة هذا التغيير والبناء والإصلاح متينة، ترسم أهدافاً عنوانها:

الشرعية والوضوح والمرونة والملاءمة، وتنهج طريقاً واضحة علائمه، بيّنة

منائره.. إنه منهج تعظيم النصوص الشرعية من الكتاب والسنة الصحيحة، وفهمها

بفهم سلف الأمة الذين اختارهم الله لإقامة دينه وحمل رسالته، ثم التسليم والانقياد

لها خِلْواً من المعارضات المرفوضة التي تتكئ إلى القياسات العقلية الفاسدة،

والأذواق الرديئة، والمنامات الفارغة.. التي ما ناب الأمة منها إلا التفرق والشقاق

والتيه والتأخر.

بهذا المنهج السلفي يجب أن تدرس وتفهم أصول الدين ومهماته من مسائل

الاعتقاد والسلوك، ثم فروعه وأحكام الحلال والحرام، وبه تُدرك سبيل المجرمين،

ويُفهم الواقع، وتُصنع الحياة.

ويوم أن نهجت الأمة ذلك النهج سطع نجمها، وعلا ذكرها، وامتد سلطانها،

وبقي ذكرها، ونالت المجد والسؤدد ... يومها وأدت نوابت السوء في مهدها،

وكان السيف ينصر يوم أن كان العلم يهدي.

واليوم: لن تستطيع الصحوة أن تحقق عبوديتها لله تعالى واتباعها للنبي-

صلى الله عليه وسلم-، وأن تبرهن على شرعيتها وصحة انتمائها لحزب الله

المفلحين، وأن تضبط مواقفها بين الغلو والجفاء، وتتجنب كثيراً من مواقع الزلل،

وأن تثبت في عواصف الفتن العمياء. وأن تكشف عوار الدعوات المنحرفة،

والمناهج المضللة، والمذاهب الهدامة، والسبل الملتوية، وأن تحفظ الشباب من

الانحراف، وأن توفر له المرجعية العلمية فإنما يقبض العلم بقبض العلماء وأن

تهيئ قدراً من الحماية الذاتية للأمة، وأن تفتيها في النوازل المتوالية ... وأن تنال

ثقتها ... ولن تستطيع ذلك كله ولن تبلغه إلا بذلك السبيل: منهج تعظيم النصوص

الشرعية من الكتاب والسنة الصحيحة، وفهمها بفهم سلف الأمة ثم العمل بمقتضاها.

إن الأمر يستدعي من دعاة الأمة استنفار جهودهم، واستنفاد وسعهم في:

إعطاء الأنشطة العلمية أولوية مناسبة تليق بمكانة العلم في الشرع.

بيان القدر الواجب من العلم على كل فرد بحسبه ومعرفته.

تحريك الطاقات العلمية الكامنة كما حركت كثيراً من الطاقات الدعوية فأفادت

وأثمرت لتخفف العبء عن النابهين.

العناية بالنابهين، وتفريغ من يصلح منهم لينفع بحصاد قلمه.

رعاية جوانب التخصص لدى شباب الصحوة، رعاية تخرج من التشتت،

ولا تعني الانغلاق.

العناية بأفراد من أبناء الصحوة برزوا في العلم ولم تستوعبهم الصحوة فيما

مضى.

السعي إلى إنشاء مراكز أبحاث علمية ودعوية تنظر في نوازل الأمة الفقهية

والدعوية وتؤصل الحلول الشرعية لها.

يجب أن ندرك أن العناية بالتأصيل غدت ضرورة فوق كل ضرورة، وإلا

فإنه لا مكان اليوم للضعفاء.

ومن الله العون، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.


(١) مفتاح دار السعادة ١/١٥٤.