حزب الله ... الأمريكي!
أمريكا تنتخب الإنجيل
د. عبد الله عمر سلطان
أمريكا اختارت الإنجيل ... أمريكا أثبتت للعالم مرة أخرى أنها أكبر قوة
متدينة في الغرب؛ هذه هي خاتمة برنامج وثائقي أنتجته إحدى أكبر محطات البث
التلفزيوني في الولايات المتحدة، وكان متزامناً مع تغطية صحفية واسعة النطاق
عن الصحوة الدينية التي تجتاح أمريكا من المحيط الأطلسي حتى المحيط الهادي
كالموجة الهادرة.
البعض يجب أن يفسر هذه الظاهرة العامة بمنظار المجهر السياسي فيتحدث
بإسهاب عن نتائج الكونجرس الأخيرة ومكاسب المتدينين وممثليهم، ويسرف في
التحليل ويبالغ في إبراز الأرقام والتركيز على شخصيات اليمين الديني الجامحة ...
لا بأس من هذا، لكن الظاهرة الدينية في الولايات المتحدة تتعدى البعد السياسي
لتشمل العنصر الأخلاقي والعقدي بصورة صارخة، ولعل الظاهرة السياسية أحد
إفرازات هذه الصحوة الدينية.. هكذا تحدث كليم ميلر الباحث الأمريكي، ويضيف: يكفي أن ندلل على عمق تأثير الموجة الدينية أن الكونجرس الجديد وزعامته
الجمهورية (المتنطعة) قد جعلت من قضية الصلاة في المدارس والأماكن العامة
قضيتها الأولى كما يصرح نيوت جيجريتش زعيم الأغلبية الجمهورية....
مراسل مجلة الإيكونمست لخص وضع الحزب الجمهوري في هذه اللحظة
بالقول: إنه حزب الله الأمريكي وأضاف: ألين كويست مثال للموجة الدينية
السياسية القادمة، إنه من زعماء الحزب في ولاية (مانيسوتا) ، في حياته الخاصة
هو متدين ولديه عشرة أطفال! ، ويصرح باستمرار: أن على أمريكا أن تتطهر
من الشواذ وأن تشن الحرب على مؤسساتهم، وأن المرأة ليست مهيأة لقيادة
الأمة ... وهذه الدعوة تلقى قبولاً وترحيباً، هذه الظاهرة لم تعد محصورة في الجنوب الأمريكي المتدين تاريخياً، إنها بدأت تطفح حتى في المدن المشهورة بالتحرر الشديد ... لقد أصبح للمتدينين قصب السبق في أماكن لم يتصور أن يصلوا إليها ك (نيويورك) و (كاليفورنيا) ، وفي هاتين المنطقتين أصبح الآباء المتدينون هم القوة الأولى في مجالس المدارس المحلية، وبالرغم من الكر المتبادل بين المدارس الحكومية العامة والتيار الديني فقد استطاع التيار الديني أن يسيطر
على ١٥% من مجموع المجالس في الولايات كلها والتي يبلغ مقدارها ٢٢٥٠ مدرسة ... يقول الشريط التلفزيوني: حتى في (هوليود) عاصمة السينما بدأ الزحف الديني يدق أبوابها، وأصبحت عاصمة الفن الأمريكي تشعر أنها محاصرة من جهتين الأولي خارجية والثانية داخلية، لقد بدأ زعماء التيار اليميني مثل نيوت جينجريتش يهزأون بالقيم المنحطة التي تشيعها صناعة السينما الرديئة، وقبل سنتين استهدف نائب الرئيس الأمريكي دان كويل هذه الماكينة الإعلامية خلال الحملة الانتخابية ووصفها بالانحطاط، لقد قوبل كويل بعاصفة من الاحتجاج آنذاك، أما اليوم وفي ظل الشعور بالضياع والحيرة والرغبة في التدين فإن الملحوظات نفسها ستلقى الترحيب بدل الهجوم، ويضيف التقرير المرئي: كانت أمريكا تلمس بيديها إفراز الثقافة المتحررة من كل قيد ... هناك أربعون بالمائة من الأطفال اليوم يعيشون من دون رعاية أحد الوالدين، بينما يولد ٢٨% من الأولاد خارج نطاق العلاقة الزوجية، في الوقت الذي تنتهي نصف الزيجات تقريباً بالطلاق، بينما يبلغ عدد الشاذين والشاذات أكثر من عشرة ملايين شخص. هذه الصور المأساوية للمجتمع تجعل حتى من هذه الفئات السالفة تنظر إلى القيم الدينية نموذجاً وحيداً قادراً على انتشالها من ورطتها.
هذه الورطة جعلت من التفكير بوسائل جديدة لكبح جماح الشهوة التي عربدت
دهراً من الزمن أمراً ملحاً، ففي تحقيق مطول عن الخجل ورد فيه: أن الأمريكي
المتوسط كان يفتخر بأنه لا يهتم بشيء من حوله، وأن إشباع رغباته وشهواته
وحريته أمر مقدس، أما اليوم: فهناك إجماع على أن فقدان الخجل أدى بهذه الأمة
أن تصبح محاطة بالإيدز والمخدرات ورعب عصابات الأطفال والمتاجرين
بأعراضهم، وخلال هذا الخضم يتجه الناس إلى الدين فأمريكا اليوم تشهد صحوة
دينية على مختلف الأصعدة حتى المتحررين الديمقراطيين كالرئيس كلينتون الذي
يجد نفسه مضطراً إلى الظهور بصورة الرجل المتردد على الكنيسة والحريص على
مبدأ العائلة المقدس ومفهومها رغم رواج الشائعات الكثيرة عن سلوكه المثير للجدل.
لقد رافق هذه الحمى الدينية انتشار واسع لجماعات أكثر تشدداً، وفي بداية
عام ١٩٩٥ فجعت أمريكا بهجومين مسلحين على عيادتين للإجهاض من تدبير
اليمين الديني، الذي ينظر إلى ذلك العمل بوصفه جريمة بحق الدين والإنسان،
والذي يدافع عن برنامجه في حرب الإجهاض قادة الكونجرس الجدد، ومع مرور
الوقت بدأت بعض عيادات الإجهاض في التلاشي والمغادرة بعد تكرار حوادث
العنف والهجوم الذي تجاوز مرحلة التنديد السلمي إلى استخدام القوة بل السلاح.
وربما رجع المرء إلى الوراء قليلاً حين انتعش اليمين الديني في الثمانينات
ولا سيما أيام حكم الرئيس ريجان حيث كانت العقيدة السياسية الداخلية والخارجية
مصبوغة بلون ديني قوي وبظهور جماعات الأصولية الإنجيلية كبات روبتسون
وجيمي فارويل وجيمي بيكر وجيمي سويجارت.. لقد شن الليبراليون حملة مضادة
لقص أظافر الحركات الإنجيلية وتشويه سمعتها لا سيما وأن قادة الإنجيليين كانوا
منغمسين في ممارسات تتناقض مع مبادئهم ورسالتهم.. أما الموجه الحالية: فإن
قاعدتها تتألف من القطاع المتدين المتوسط دخله وتتشكل من أولئك المترددين على
الكنائس المتعددة، وفي حين تحظى موجة الأصولية الحالية بوجوه بعض القادة
المتشددين ك روبرتسون وفارويل فإنها تظل بعيدة عن السيطرة الكاملة لرجال
الدين حيث تظهر زعامات سياسية متدينة تحمل رسالة الإنجيل وتمارسها بأسلوب
سياسي ماكر كما يفعل نيوت جينجريتش.
لقد أفردت مجلة النيوزويك تحقيق غلافها قبل شهور عدة لرصد ظاهرة العودة
إلى الدين بوصفها قوة وحيدة قادرة على حماية الكائن الإنساني من التمزق،
وركزت على العودة إلى الكنيسة أو الكنيس دون التطرق إلى ظاهرة بروز الإسلام
على الساحة الأمريكية الذي هو أسرع الأديان انتشاراً، وهذه الموجه الدينية العامة
هي التي تُستخدم وقوداً لبرنامج الجمهوريين المسمى عقد مع أمريكا وهو تصور
وضعه مركزا أبحاث هريتج وأمريكان إنيتر بريز لكي يحصدا نتاج هذه الصحوة
الأمريكية الرافضة لنمط الحياة البائسة السائدة هناك، التي ربما استعرضنا بعض
جوانبها في مقال قادم إن شاء الله