للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[جدار بني إسرائيل العازل وتأملات في سورة الحشر]

د. محمد عطا أحمد يوسف

الجدار العازل الذي يقيمه شارون بن جدعون في أرض فلسطين في القرن الحادي والعشرين ليبتلع به ما تبقى من أرض الإسراء؛ ويمزق به شمل الأبرياء، ويطرد به قسراً ليس فقط خطة تطهير عرقية أو حماية الشيوخ، والأطفال، والرجال والنساء، ليس فقط خطة تطهير عرقية أو حماية أمنية وعسكرية فحسب، وإنما هو في المقام الأول استلهام شاروني لأفكار العهد القديم الذي يؤمن به؛ ففي سفر التثنية تقول كلمات العهد القديم: (وتبني حصناً على المدينة التي تعمل معك حرباً حتى تسقط) (١) أليست هذه هي فكرة الجدار الشاروني العازل الذي يتحصن خلفه اليهود من ناحية، ويحاصَر به الفلسطينيون من ناحية أخرى؟!

وفي سفر القضاة ـ في العهد القديم أيضاً ـ وصف آخر للفكرة الشارونية نفسها؛ حيث جاء فيه: (بسبب المديانيين ـ أعداء اليهود ـ عمل بنو إسرائيل لأنفسهم الكهوف التي في الجبال، والمغارات والحصون) (٢) . إن النفس اليهودية لا تحيا آمنة مطمئنة إلا بحبل من الله وحبل من الناس كما جاء في القرآن الكريم في قوله ـ تعالى ـ: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ} [آل عمران: ١١٢] واليهود قطعوا حبل الله بما فعلوه هم وأسلافهم من قتل للأنبياء، وتحريف لكتاب الله، وتكذيب لرسله، وسيقطعون حبلهم مع الناس بما جبلوا عليه من غدر وخيانة، وأنانية، وسعي دائم للفساد والإفساد؛ ولهذا فهم يعيشون دوماً في خوف داخلي، ورعب يمتلك عليهم خلجات صدورهم. ودفعاً لهذا الشعور المتوارث في أجيالهم يلجؤون لاتخاذ الحصون المنيعة، والكهوف والمغارات، والجدر السميكة للتحصن بها والعيش في حماها.

ففي العصور القديمة كان يهود بني قينقناع، وبني قريظة، وبني النضير يتفاخرون على قبائل الجزيرة العربية بأنهم أرباب الحصون المنيعة؛ وحصون يهود خيبر لا يزال صدى ذكراها يتردد عند الشعراء وأهل السير حتى يومنا هذا (٣) . وفي العصور الوسطى كان اليهود في روسيا هم أصحاب الأحياء المحصنة التي تجمعهم ويسمونها (الغيتو) لا يدخلها سواهم، ولا يعيش فيها إلا هم (٤) . وفي القرن العشرين من العصر الحديث كان اليهود هم أصحاب خط بارليف، وبناة الجدار العنصري العازل على أرض فلسطين.

وإذا كان اليهود قد استلهموا فكرة جدرهم المحصنة من كتابهم المحرف «العهد القديم» لحمايتهم وضم أرض المسلمين إلى جعبتهم، فأوْلى بنا أن نراجع كتاب ربنا الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: ٤٢] لأن فيه بياناً شافياً لطبيعة عدونا، ورصداً لصفات ـ الجبن والبخل والخيانة والكذب، والكفر، والخصومة، واللدد والجدال بالباطل، وغير ذلك فيهم.

وهي صفات حقيقية أخبر بها الخالق ـ جل في علاه ـ في كثير من آيات القرآن الكريم، وفي رأيي أنها ثقوب حقيقية، وفجوات ربانية، جعلها الله في جسم كل حصن، وفي جسد كل جدار يشيده اليهود مهما كان صلباً أو سميكاً ليطلع المسلمون من خلالها على ما خلف هذه الجدر والحصون فيعرفوا طبيعة عدوهم، وينفذوا منها إلى مواطن الضعف في صفوفه.

وقد ذخرت سورة الحشر ببيان كثير من هذه الثقوب والفجوات التي يجب على المسلمين دراستها وتقليب الفكر في الإفادة منها في حربهم مع اليهود أعداء الله وأعدائهم.

وأول هذه الثقوب التي تحدثت عنها سورة الحشر في جدر يهود بني النضير قديماً ولا زالت في جسم الجدار الشاروني العازل حديثاً ما جاء فيها من قوله ـ تعالى ـ عن إجلاء بني النضير من أرض المدينة المنورة: {مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الحشر: ٢] .

إن كثيراً من المسلمين الذين كانوا يحاصرون بني النضير في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- لإخراجهم من المدينة بعد خيانتهم له، ظنوا أنهم لن يخرجوا إلا بعد قتال عنيف بسبب حصونهم وجدرانهم الصلبة. ولا يزال هذا الظن في عصرنا الحاضر يملأ قلوب الكثير من المسلمين ويسيطر على نفوسهم ويسبب من الإحباط والهزائم النفسية ما لا يعلمه إلا الله.

وفي داخل الحصون وخلف الجدر العازلة ظن اليهود من بني النضير أن أيدي المسلمين لن تصل إليهم، وأن المسلمين أمام الحصون سيصابون باليأس من النصر، وسينفضُّون راجعين (لكن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أتاهم من داخل أنفسهم لا من داخل حصونهم، أتاهم من قلوبهم فقذف فيها الرعب، ففتحوا حصونهم بأيديهم، وقد كانوا يحسبون حساب كل شيء إلا أن يأتيهم الهجوم من داخل كيانهم؛ فهم لم يحتسبوا هذه الجهة التي أتاهم الله منها. وهكذا حين يشاء الله أمراً يأتي من حيث يعلم ومن حيث يقدر) (١) .

وكما حدث مع بني النضير قديماً سيحدث مع ذراريهم على أرض فلسطين حديثاً إن شاء الله، وسيرى جند الله المرابطون على أرض الإسراء ما سيحل آنذاك باليهود.

والثقب الثاني في جدر اليهود الحصينة ـ القديمة والحديثة ـ أنهم شاقُّوا الله ورسوله أي كذبوهما. قال الله عنهم في سورة الحشر: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإنَّ اللَّهَ شَدِىدُ الْعِقَابِ} [الحشر: ٤] فمشاقتهم لله ولرسوله استحقت من الله ـ سبحانه ـ أن يتوعدهم بالعقاب الشديد الذي لا يقتصر على العقاب الأخروي فقط، وإنما سيكون عقاباً دنيوياً أيضاً على أيدي المسلمين، وعقاباً أخروياً على أيدي الملائكة المقربين.

والثقب الثالث في جدارهم: ما يعقده اليهود من معاهدات مع أعداء الإسلام لحرب المسلمين؛ فإن مآلها إلى زوال سريع بل إلى خيانة مؤكدة من اليهود لحلفائهم؛ لأن اليهود: {كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ} [البقرة: ١٠٠] ، ولأن حلفاء اليهود عادة ما يكونون إما من الكافرين أو المنافقين، وقد أظهرت سورة الحشر مصير حلف ومعاهدة بين اليهود والمنافقين، فقال ـ تعالى ـ: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ} [الحشر: ١١ - ١٢] .

والثقب الرابع في جدار اليهود: أنهم لا يفقهون عظمة الله ولا يقدرونه حق قدره، ولا يعظمون كتبه، ولا يصدقون رسله، فاستحقوا بذلك أن يلقي في قلوبهم الخوف والفزع والخور والجبن من جند الله المسلمين، فقال ـ تعالى ـ: {لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الحشر: ١٣] .

والثقب الخامس في جدار اليهود: وهو كشف قرآني، وإن شئت فسمِّه إعجازاً قرآنياً؛ ففي القرن الحادي والعشرين، وبعد مرور ألف وأربعمائة عام على نزول القرآن، واليهود هم اليهود كما وصفتهم سورة الحشر، وبينت تفكيرهم العسكري ونمطهم الحربي، فقال الله في آياتها: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر: ١٤] . نعم! لم يتغير التفكير العسكري اليهودي الذي وصفهم القرآن به في طريقة بقائهم وحفاظهم على عنصرهم النجس؛ فما القرى المحصنة المذكورة في الآية سوى المستوطنات الحصينة التي يحيطونها بالجدر العازلة، ومن عجب أن نجد قراءة قرآنية لقوله ـ تعالى ـ: {مِن وَرَاءِ جُدُرٍ} هي: (من وراء جدار) ! (٢) .

وأمام هذا التفكير الحربي العتيق، وأمام هذا الاختباء، والاحتماء بالحصون والجدر كشف الله ـ سبحانه وتعالى ـ للمسلمين قديماً وحديثاً عن ثلاثة ثقوب وفجوات أخرى إضافة إلى ما سبق في جدار اليهود ونجمعها في:

الثقب السادس: وهو ثقب سيهدم جدر بني إسرائيل الحصينة على رؤوسهم؛ وذلك قوله ـ تعالى ـ في سورة الحشر: {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} [الحشر: ١٤] فاليهود وإن اشتد بأسهم على المسلمين في فلسطين في زمننا هذا فقتلوا الأطفال، وشردوا النساء والشيوخ، وزجوا بالرجال في غياهب السجون، وهدموا المنازل، وعاثوا في الأرض فساداً؛ فكل ذلك إلى حين، وإلى زمن ليس بالبعيد إن شاء الله؛ فسرعان ما سيدب بينهم الشقاق والخلاف، وسيتحول بأسهم على المسلمين إلى بأس فيما بينهم.

كل هذه الثقوب والفجوات كشفها الله ـ سبحانه وتعالى ـ في جدار اليهود وحصونهم المنيعة، وأخبر بها في سورة الحشر، فاستفاد منها المسلمون قديماً، وهزموا بها يهود بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة، ويهود خيبر، وحديثاً تنادي سورة الحشر وأخواتها المسلمين في شتى بقاع الأرض أن أفيقوا من سباتكم، واستردوا عزتكم، وحرروا أقصاكم، وتنادي المسلمين المرابطين من أهل فلسطين قائلة: أنتم أيها المؤمنون بالله ورسوله، المقاتلون في سبيله الباذلون للنفس والمال، والولد والزوجة والدار، أنتم وحدكم لا سواكم ستكونون يد القدرة التي ستلقي الرعب والخوف والفزع والهلع في قلوب يهود، فأبشروا ولا تيأسوا، ولا تهنوا ولا تحزنوا، وإن قلَّ حولكم النصير، وإن تشرذم غيركم وأذل نفسه لعدو الله وعدوكم، وكشفوا له ظهوركم؛ فالله وحده ناصركم، وجاعلٌ منكم عجيبة من عجائب قدرته؛ فالصبرَ الصبرَ، والثباتَ الثباتَ {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: ٢١] .


(*) أستاذ الدراسات الإسلامية المساعد ـ المملكة العربية السعودية، حفر الباطن، كلية التربية للبنات.
(١) العهد القديم سفر التثنية، ص ٣١١، الإصحاح ٢٠/٢٠. (٢) المصدر السابق، سفر القضاة، ص ٣٨٨، الإصحاح ٦/١.
(٣) فقه السيرة، الدكتور محمد سعيد البوطي، ص ٣٣٢. (٤) المذاهب المعاصرة وموقف الإسلام منها ص ١٢٦ مختصراً.
(١) في ظلال القرآن، ٦/٣٥٢١. (٢) فتح القدير، للشوكاني، ٥/٢٨٧.