للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عندما يكون دين خرافي أساساً لسياسة دولة كبرى

أ. د. جعفر شيخ إدريس

أعني بالدين الخرافي الدين غير العلمي؛ بمعنى أنه لا يقوم على حقائق واقعية، ولا يلتزم بمكارم خلقية. وعليه فليس هنالك من دليل عقلي ولا علمي على دعاواه، بل في العقل والعلم ما يدل على بطلانها. وكلما كثرت مثل هذه الدعاوى في دينٍ ما أو في طائفة تنسب إليه، كان ذلك الدين أو كانت تلك الطائفة أقرب إلى الخرافة. وكلما كان اعتماد من يؤمنون بمثل هذا الدين عليه في تصرفاتهم ومعاملاتهم وسياساتهم، كان ضررهم على أنفسهم وعلى غيرهم أكبر. إن ضرر الخرافات والانحرافات الخلقية يكون أكبر حين ترتبط بالدين، حين يعتقد القائلون بها أنها مما أنزله الله ـ تعالى ـ وأمر به:

{وَإذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ #^٢٨^#) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: ٢٨ - ٢٩]

إن السياسة، داخلية كانت أم خارجية، لا تكون مفيدة، بل تكون بالغة الضرر على من تمارَس ضدهم، ثم على من يمارسونها إذا ما أُرسيت على الأباطيل وعلى الظلم.

وهذه الآن هي أكبر مشكلة تعاني منها الولايات المتحدة، ويعاني منها العالم بسببها؛ ذلك أن ساكني بيتها الأبيض اليوم يؤمنون بخرافات دينية ويقيمون عليها سياساتهم الداخلية والخارجية. وقد خرج إلى السوق قبل أشهر كتاب اسمه (الثيوقراطية الأمريكية) (١) ، بيَّن فيه مؤلفه مدى تأثُّر السياسة الأمريكية الراهنة بمعتقدات دينية خرافية، ومدى خطورة هذه السياسة الدينية على الولايات المتحدة. وسأنقل فيما يلي بعض ما جاء في هذا الكتاب ليعلم من لا يعلم أن القول بالتأثير البالغ للمعتقدات الدينية في السياسة الأمريكية ليس تهمة ظالمة يلصقها بها المتطرفون من المسلمين، ولكنها حقيقة يعرفها ويخشى مخاطرها كثير من الأمريكيين.

يبدأ الكاتب الجزء الثاني من كتابه الذي جعله خاصاً بمشكلة التطرف الديني بقوله: «إنه ليس هنالك من أسئلة أهم بالنسبة لأمريكا القرن الواحد والعشرين من السؤال عما إذا كان البعث الديني الجديد وما يصحبه من غرور سياسي سيكون في صالح أمريكا أم في ضررها؟» والكاتب يرجِّح أنه سيكون في ضررها. البعث الذي يشير إليه الكاتب هو العمل الدؤوب الذي تقوم به جماعات دينية توصف بالمتطرفة لجعل معتقداتها أساساً للسياسة الأمريكية. من هذه المعتقدات التي ذكرها الكاتب عن بعض هذه الجماعات إيمانهم بالاتصال المباشر بـ (عيسى) باعتباره إلهاً. ولما كان بوش من المنتمين إلى الجماعة التي تقول بهذا فإنه كثيراً ما يصرح بأن الله (يعني المسيح) هو الذي أمره بغزو أفغانستان، وبغزو العراق، بل ذهب إلى حد القول ـ كما روى عنه الكاتب نقلاً عن إحدى الصحف ـ في بعض الاجتماعات: «أعتقد أن الله يتكلم بوساطتي، ولولا ذلك لما استطعت أن أؤدي مهمتي» . ولم ينفرد بوش بمثل هذه الدعاوى، بل إن (توم دي لاي) الذي كان رئيساً للأغلبية الجمهورية في الكونغرس قال ذات مرة: «إن الله يستعملني دائماً وفي كل مكان للدفاع عن نظرة الكتاب المقدس العالمية في كل ما أفعل وحيثما كنت. إنه هو الذي يدربني» . وكان قد علق لوحة على مكتبه تقول: «قد يكون هذا هو اليوم» أي اليوم الذي ينزل فيه عيسى.

أقول: وقد كانت مثل هذه العقائد الفاسدة هي السبب الجوهري في معاداتهم الشديدة للدين الإسلامي وللمسلمين والتصريح بهذا العداء والدعوة إلى مواقف شديدة العداء للعالم الإسلامي. يقول الكاتب إنه عندما انهار الاتحاد السوفييتي بين عامي ١٩٨٩ و ١٩٩١ سارع المتدينون المحافظون إلى تقديم قائمة بالبدائل: الإسلام قوى الشر الكبرى، العراق بابل الشريرة، صدام حسين المسيح الدجال. هذا أمر لم يصرح به إلا عدد قليل من المسؤولين. أما المبشرون الأصوليون فإن الكثيرين منهم صرحوا به. فهذا (رتشارد سزك) نائب رئيس رابطة المبشرين القومية يقول لجريدة النيويورك تايمز في عام ٢٠٠٣: «إن المبشرين قد استبدلوا الإسلام بالاتحاد السوفييتي. لقد صار المسلمون اليوم هم إمبراطورية للشر» . ويقول: «إن الجماعات التبشيرية الأمريكية تكرر اليوم تجربة الجماعات التبشيرية البريطانية في عداوتها للمسلمين وحماسها للحرب ضدهم. لقد تضاعف عدد المنظمات التبشيرية في العالم الإسلامي. ويقول: «إنه بحلول عام ٢٠٠٣ لم تعد المنظمات التبشيرية مجرد مؤيدة للحرب كما كانت رصيفاتها البريطانية، بل أصبحت من المخططين له» . فبعد عام من استيلاء الجيش الأمريكي على بغداد كانت هنالك ثلاثون منظمة تبشيرية، ويقول: «إن المدير الإداري لرابطة المبشرين القومية صرح لجريدة (لوس أنجلس تايمز) أن العراق سيكون المركز الذي تنتشر منه رسالة المسيح عيسى إلى إيران وليبيا وكل مكان في الشرق الأوسط» . وقال مسؤول في منظمة أخرى: «إن الحال في العراق هي حرب من أجل الروح» . ولهذا فإنه في غضون سنتين انطلقت سبع منظمات تبشيرية في بغداد وحدها.

أقول: إن عاقبة هذه المعتقدات الفاسدة لن تؤدي فقط إلى مثل هذه المواقف العدوانية على المسلمين، بل سيكون ضررها في النهاية على الولايات المتحدة نفسها كما يرى ذلك بعض العقلاء من الأمريكان. فأصحاب هذه المعتقدات لا يرون الحقائق كما هي. فما يراه عامة الناس في الغرب دَواهيَ وكوارث كاضطرابات الشرق الأوسط، وارتفاع أسعار البترول، والسونامي، يرونه هم ـ كما يقول الكاتب ـ مبشرات بقرب مجيء المسيح

وكما أنهم يستبشرون بهذه الكوارث، فإنهم لا يؤمنون بحقائق العلوم الطبيعية التي كانت السبب الأساس للتقدم المادي الذي ينعم به الغرب؛ فهم لا يصدقون بما يقوله العلماء عن الارتفاع العالمي في درجات الحرارة، ولا يلقون بالاً لما يقوله علماء الجيولوجيا من أن النفط بدأ ينضب، وهكذا. وبقولهم هذا يقول الرئيس بوش ويبني عليه مواقفه السياسية.

أقول: ولا يلقون بالاً لما توصلت إليه الدراسات العلمية الأكاديمية بأنه يستحيل أن يكون كل ما في الكتاب المقدس ـ كما يسمونه ـ من كلام الله، لأسباب كثيرة منها أن به اخطاء في وصف الواقع، وهو أمر لا يمكن ان يصدر عن خالق الكون، وأن فيه تناقضاً لا يتناسب مع علم الله المحيط، وهكذا لا يلقون بالاً لمثل هذه الدراسات، بل يحتقرونها ويستمرون في اعتقادهم بأن كل ما في الكتاب المقدس كلام الله، وأنه ليس فيه من خطأ.

وهم لا يؤمنون بمبدأ فصل الدين عن الدولة، بل يريدون لأمريكا أن تكون دولة نصرانية؛ لأنهم يعتقدون أن الشعب الأمريكي هو شعب الله المختار. وهذا هو الذي دعا المؤلف أن يسمي كتابه (أمريكا الثيوقراطية) . وهو الذي يخشى كثير من الأمريكان أن يؤدي إلى انقسامات حادة في المجتمع قد تؤدي إلى العنف وحمل السلاح. ولذلك فإن الكثيرين ممن كانوا يعدون من قادة المحافظين الفكريين والسياسيين ـ ومنهم مؤلف هذا الكتاب ـ بدؤوا يعلنون اعتراضهم على سياسة الحزب الجمهوري بعد أن استولت عليه هذه الفئة ممن يسمون بـ (المحافظين الجدد) ويحذرون من مغبة عواقبها الوخيمة على البلاد. وقد كان من أبرز من اتخذوا هذا الموقف الكاتب الشهير (فوكوياما) في كتاب له جديد.

الغريب أن الدولة التي تسيِّرها مثل هذه المعتقدات هي التي تطلب من بعض البلاد الإسلامية أن تكون أكثر تسامحاً، وأن تنقِّي مناهجها الدراسية من مبادئ الولاء والبراء، وكل ما يرون مثيراً للكراهية.

(١) Kevin Philips, American Theocracy: the Peril and Politics of Radical Religion, Oil, and Borrowed Money in the ٢١st Century, Penguin Viking, ٢٠٠٦.