في دائرة الضوء
[خطاب السماحة]
د. محمد يحيى
أصبحت الساحة الفكرية الإسلامية في بعض البلاد العربية حكراً على أنواع
محددة وضيقة النطاق من الخطاب؛ تمليها اعتبارات السياسة، والتوجيه من أعلى؛ خدمةً لمصالح وتوجهات لا علاقة لها بالإسلام بل على العكس: لها أوثق صلة
بالتيارات العلمانية أو اللادينية. ومن أنواع الخطاب هذه ما يمكن أن نسميه بخطاب
(السماحة) أو (التسامح) ، الذي اكتسب مكانة احتكارية في لغة الحديث والفكر
الرسمي لأرباب ما يسمى بالمؤسسات الدينية في بلد مركزي مثل مصر؛ التي
أقصر هذه الملاحظات عليها. ووفق هذا النوع من الخطاب نسمع دائماً مجموعة
من العبارات والتوصيفات تتكرر من طراز: (الإسلام دين السماحة) ، أو (سماحة
الإسلام) ، أو (الإسلام شريعة التسامح) وأشباهها. ويقترن بالإلحاح المتكرر
(والممل) على أمثال هذه التوصيفات قصر الحديث في الموضوعات الإسلامية
الفكرية أو الشرعية أو العقدية على المادة التي تفيد هذا التسامح أو توظف للدلالة
عليها، كما تلوي أعناق الخطب والعظات والمناسبات الإسلامية بتعسف واضح لكي
يقتصر مغزاها ومعناها ومداها على إثبات هذا التسامح وفق المفهوم الذي يراه دعاة
هذا الخطاب.
ويثير خطاب السماحة بهذا المعنى مشكلة أولية عندما يصبح هو الخطاب
الوحيد أو الرئيس الذي يشغل الساحة الإسلامية، ويُفرض على جمهور المسلمين.
وهذه المشكلة هي ضياع سعة نطاق الفكر الإسلامي وثرائه وغناه، والشعور
بالنفور وعدم التصديق الذي ينتاب السامع لهذا الخطاب؛ عندما يجد أن الإسلام كله
قد اختزل في مفهوم واحد، وأنه مفهوم قفز فجأة إلى السطح، وفُرض فرضاً بفعل
الظرف السياسي المشغول هو الآخر بهمٍّ وحيد ألا وهو مكافحة ما يسمى تارة
بالإرهاب وتارة بالتطرف.
والوضع الاحتكاري لخطاب السماحة هذا يؤدي في الواقع إلى إلغاءٍ للإسلام
على مستويين: أولهما: هو مستوى الدعوة والفكر كما أسلفت، عندما لا يعود
هناك ما يقال للجماهير المسلمة في المنابر ووسائل الإعلام سوى كلمة واحدة هي أن
الإسلام دين التسامح، وتختزل كل عقيدته وشريعته وتعاليمه في هذا الوصف المبهم
الغامض. أما المستوى الآخر والأكثر خطورة فهو أن التسامح أو السماحة وفق
المفهوم الذي يروّج له يعني في حقيقة الأمر إلغاء الدين الإسلامي نفسه؛ من فرط
الحرص على ما يوصف بأنه حساسيات ومشاعر الآخرين (غير المسلمين) ،
ويقودنا هذا إلى البحث بشكل أكثر عمقاً في محتوى هذا المفهوم كما ينشره القائلون
به ضمناً وصراحة.
إن الذين يروّجون لخطاب السماحة كما أسميه ويختزلون الإسلام على سعته؛
لا يقصدون أبداً ما يترامى إلى الذهن المسلم في معان تقترن بهذا المفهوم كما تعلمها
من تعاليم دينه؛ فليس المقصود سلوكاً شخصياً من اللين والرقة والسهولة في
التعاملات، والبعد عن الخشونة والجلافة، وليس المقصود البعد عن اللدد في
الخصومة والتشفي والملاهاة والجدل والرفث، وليس المقصود الحلم والأناة والصبر
الجميل وحسن السياسة والكياسة في العلاقات، وليس المقصود سعة الصدر وسعة
الرأي والجدل بالتي هي أحسن ورحابة الذهن في الفهم.
في الجملة: ليس المقصود سلوكاً وقيماً ومشاعر وتوجهات شخصية يتسم بها
المسلمون في تعاملاتهم الاجتماعية على تنوعها من تجارية أو فكرية أو غير ذلك؛
بل المقصود حسبما نقرأ ونستدل هو مسلك يراد له أن يسود على صعيد العقيدة
والشريعة وأحكامها، وعلى صعيد العلاقات بالذات مع غير المسلمين وليس في
علاقات المسلمين بعضهم مع بعض. ومفهوم السماحة والتسامح كما يروّج له هذا
الخطاب الاحتكاري المغرض يعني ببساطة: أن يتساهل المسلمون في الطرح
العقدي والتشريعي ويخفّضون منه، أو حتى يخفونه في علاقاتهم مع العقائد والأديان
الأخرى، والدول والهيئات والتيارات العالمية التي تمثلها؛ وذلك بحجة مزعومة
هي الحفاظ على السلام والوئام الدولي. فالتسامح والسماحة كما يرى أولئك هو ألا
يجعل المسلم من عقيدته وشريعته بتعاليمها وأحكامها حاجزاً يعوقه عما يسمى
بالتعاون الدولي، مع عقائد وأديان أخرى حتى وإن كان ممثلو هذه العقائد أفراداً
وجماعات يمارسون الاحتلال والاستيطان والتبشير والتنصير والقتل والتنكيل
بالمسلمين!
والسماحة لديهم هي ألا يطرح المسلمون عقيدتهم التوحيدية في وجه عقائد
غيرهم الشركية أو المنحرفة؛ حتى ولو كان هذا الطرح لا لشيء إلا ليحفظوا
أبناءهم من زيغ تلك العقائد وهي تُروّج بينهم ليل نهار بكل أدوات الاتصال من
التعامل الشخصي، إلى البث على الأقمار الصناعية والإنترنت. والتسامح في
نظرهم هو أن ينحّي المسلمون عقيدتهم وشريعتهم جانباً، أو يبعدوهما تماماً في
تعاملاتهم مع غير المسلمين من شتى الأطراف الدولية؛ فهذا هو التحضر والمسلك
التعاوني حتى ولو كان هؤلاء من غير المسلمين لا يتعاملون مع المسلمين إلا من
منطلق عقيدتهم وتعاليمهم هم سواءً أكانت دينية أم دنيوية.
وغني عن البيان أن هذا المفهوم للسماحة أو التسامح الذي يُفرض فرضاً على
الساحة الفكرية الإسلامية إلى حد احتكارها، لا ينطلق من حرص على دين أو
عقيدة أو حتى تعاون مزعوم مع غير المسلمين؛ بل هو نتاج وضع معروف من
أوضاع التبعية للغرب تحرص فيه النخب العلمانية صاحبة السلطة والنفوذ على أن
تُرضي الأسياد في الغرب من يهود ونصارى وملحدين؛ بأن تضمن لهم أن الإسلام
الذي يخافون منه سيظل أسيراً مقيداً لا يطاولهم في مجال العقيدة، ولا يصاولهم في
مجال بناء الحضارة والوصول إلى القلوب والعقول. ومفهوم التسامح والسماحة بهذا
المعنى الخاص الذي يُروّج به من خلال بعض الدوائر المشبوهة يصبح مفهوماً غير
حضاري أو إنساني؛ بل مجرد أداة لقمع الفكر والطرح الإسلامي وكبته وتكبيله عن
أن ينطلق ويسري، بحجة غريبة هي أن طرح هذا الفكر والعقيدة والتمسك
والاعتزاز بهما ينافي فكرة السلام العالمي والتعاون الدولي رغم أن غير المسلمين
على اختلاف نحلهم لا ينطلقون في تعاملاتهم الدولية إلا من هذا السياق العقدي
الخاص بهم.
وليس أدل على ما نقول به من انحراف هذا المفهوم وشذوذه من أن الذين
يروّجون له يطبقونه على من يشاؤون ولا يطبقونه على المسلمين، وكأن سماحة
الإسلام قصد بها أن تسري على الكفار ولا تسري على المؤمنين، وإذا قرأنا
الصحف وتابعنا الإعلام فسنجد أن دعاة السماحة يستقبلون حاخامات إسرائيل
وكنسيي الأمريكان؛ لكنهم عندما يختلفون مع علماء يفترض أنهم زملاء بل وأساتذة
لهم يركبهم اللدد في الخصومة ويشردون بهم بين قاعات المحاكم وعسف الأجهزة
الإدارية والأمنية.
ويقف كبير دعاة التسامح ليدافع عن أستاذ جامعي أنكر وحي القرآن ليقول
عنه إنه مجتهد قد يصيب وقد يخطئ؛ لكنه في الوقت نفسه يستغل منصبه المسيطر
على المساجد ليفصل ويُوقِف الأئمة الفضلاء، واصفاً إياهم بالإرهاب والتطرف،
لا لشيء سوى أنهم راجعوه في بعض مواقفه التي فاحت منها رائحة التحلل من
الدين مثل إغلاق المساجد، وتحويل الخطب والمواعظ بالأمر إلى ترويج أفكار
العلمانيين.
ولو استعرضنا التعبير المشهور الذي راج في بعض الأوساط (الثورية) لقلنا:
إن لسان حال خطاب التسامح يعلن أن (السماحة كل السماحة لأعداء الإسلام
والغرب ولا سماحة للمسلمين) ، والتسامح مع حاخامات الصهاينة وقساوسة الشرق
والغرب بل حتى جزاري الصرب؛ أما شباب الإسلام ودعاته فليس لهم إلا السجن
والقتل والمنع والحظر!
إن السماحة أو التسامح من القيم الإسلامية بل والإنسانية، وقبل كل شيء
يجب ألاّ يتحول الإسلام أو يُختزل في كلمات مبهمة تُروّج؛ لا من باب نشر الفكرة
الإسلامية (على تهافت هذه الطريقة) ؛ وإنما لكي ترضى عن الإسلام جهات علمانية
هي بطبعها لن ترضى عن المسلمين إلا إذا اتبعوا ملتها.